كان موضوع رسالتي في الدكتوراه هو محل جريمة السرقة دراسة مقارنة بين النظام اللاتيني والقانون العام والشريعة الاسلامية، فلما حصلت على مرتبة الشرف الأولى، قال لي أحد الأصدقاء ممازحاً: أصبحت الآن تخصص سرقة. ولكنني عندما عدت إلى السودان وجدت بأن السرقة أصبحت موضة قديمة، فهي جريمة يحترفها صغار المجرمين، أما الجريمة الكبرى والسائدة من أعلى مسؤول لأصغر موظف هي جريمة الرشوة، والتي أصبحت تسمى بالرقعة، والعمولات يتفق عليها جهاراً نهاراً. لم يعد هناك قانون أعلى من قانون شرعنة الرشوة، فبالرشوة تستطيع أن تستخرج جنسية وجواز وحتى بطاقة رئيس دولة ووزير اتحادي وولائي وتقطع الإشارة الحمراء وتحصل على العطاءات الحكومية، وساعد ذلك على نشوء طبقة "زول سوق" الذي يستطيع أن يخترق كل مرفق عام، والسمسرة عبر لعب دور الوساطة بين الراشي والمرتشي والفهلوة ولعب الثلاث ورقات، ولا بد من إطلاق اللحية والمواظبة على الصلواة في المسجد مع باقي المرتشين، وخاصة صلاة الفجر، والمشي بالسفنجة في أماكن العمل كعلامة للتدين المزيف، في المحاكم والنيابات والوزارات وغيره. تم تشويه الدين، وانحط المجتمع، وأصبح رعاع القوم ووضيعوه هم أصحاب الحل والعقد، والتساهيل، وما أدراك ما التساهيل، والشركات الوهمية وشركات الواجهة، والجوكيهات.. انهارت البلد، وأصبح المناخ كله يعج بروائح العفن.. الرشوة أصبح لها لوبيهات، في البترول والخبز والدواء والدولار ، ودولار حصيلة الصادر، والأراضي الزراعية والسكنية، والاسكانات الشعبية والاقتصادية،..الخ.. وجدت نفسي في دولة لا يمكن أن انجز فيها أي شيء إلا إن تعلمت الرشوة، والرقع، وأنا وغيري ممن تربوا في أسر محترمة لا يعرفون هذه الاشياء وحتى لو اردوا تعلمها فسيفشلون فشلاً ذريعاً. تسيد خنازير عقلية "زول سوق" الدولة، في كل المجالات وأولها السياسة، لأن السلطة نفوذ؛ والنفوذ تساهيل، وما أدراك ما التساهيل. اغتنى الخنازير من الوضيعين ومعدومي القيم، وقفزوا للسياسة، واصبحوا يظهرون في الإعلام، في التلفزيون والراديو، ويقيمون المؤتمرات والندوات التي ينفق عليها الملايين من أموال الشعب بلا حسيب ولا رقيب، من أجل تلميع انفسهم، وتلميع كل من يحمي اللوبي الخاص به. من كانوا فلاحين في الحواشات ركبوا السيارات الفارهة، وصعروا خدودهم المنتفخة للناس ليخفوا جرمهم وبؤس أرواحهم المتقلقلة بالغم، وتثافدوا في حظائرهم فلم ينجبوا إلا فاجراً كفاراً. إن تراهم تحسبهم تماثيل من غائط قديم، وهم كذلك بالفعل. واثر شرعنة الرشوة، وسيطرة زولات السوق على الدولة، انحطت أخلاق الشعب، فأضحى اللص غنياً وافتقر الشرفاء، فهاجر من هاجر وانمحى من انمحى، وانقلب من انقلب على عقبية، شارياً الحياة الدنيا بثمن بخس، فألبسهم الله لباس الذلة والمسكنة وباءوا بغضب منه فولى عليهم شرارهم فهم منهم وعليهم، ذلك أن الله لا يهدي الظالمين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
أمل الكردفاني
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست