لَمْ يَبْقَ مِنَ اللَّيلِ إلاَّ بما يُذكِّر عمّا جرى فيه ، خلال نهارٍ مُشْفِق سيكون على إنسان وما التصق به ، لم يملك ساعتها غير الاستسلام للمصير بغير مُعانَدَته ، مادامَت الحكمة موقف مُوفَّق بين الضحك معه دون البكاء عليه ، فإذا كان الليل هذا عربون مَكْسَبِه ، النّهار بالتأكيد سيكون راضيا عنه . البِطِّيخة محتفظة بمذاقها تُجْدِي مقتنيها أو تخذله ، هذا لو كان اختيار الانتقاء مباحاً للمشار إليه وليس فاقده ، وحتَّى لو اختار ما عَسَى يَفْعَله ، إن مَلَكَ فِكراً وقلماً ونضالاً مَريراً يتبنَّاه ، مَرّة هنا وتارة هناك خوفاً من رصاصةٍ تصيبه ، مِمّن كل شريف (لا يقبل بالجور والتسلّط والاستبداد) عدوّه ، بُشرَى لمن قبِلَت بمثلي لا تدري أي مستقبل يطارده ، مادام الحاضر لغير رُؤياي باسطاً أذرعه ، منحازاً لمن نَهَبَ ولا زال على منواله ، مُحَصَّناً بمن هو أنْهَبَ منه سبيل نسبة يغذّيه بها و بأخرى أعْلَى يُعشّيه .
أقبلت ألأم مرفوقة بابنتها (ث) التي لم تترك مُلفِتة للنَّظر دون أن تتزيّن بها ، ولا عِطراً جاذبا أنوف المتذوقّين شذاه العارفين بغلاء ثمنه ، إلاّ ورشَّت به أطراف ثوبها الأبيض المُستورد (لا محالة) من أرقى دور عرض أخر صيحات ألبِِسَةِ الزّفاف في عاصمة الضباب لندن ، تخيَّلتُها وهي نازلة من سُلمّ الطابق العلوي ، وكأنَّها من عالم آخر لا يتناسب تماما و عالمي ، إلاَّ في كوننا من نفس صنف البسر ، من صلب نفس آدم عليه السلام ، وقفَ مَن في الصالون الكبير انبهاراً بها فاسِحين لها المجال للجلوس بجانبي ، فوق أريكة أُعِدَّت بعناية خاصة للمناسبة السعيدة ، كأنها وما حولها باقة وردٍ متكاملة الألوان ، العاكسة سعة الحال الضامنة متطلبات المَآل ، المُفعم بما يتركه التشبث بالأمل ، لدى روحين تعاهدا على التمتع بكل ما هو جميل ، المتحوّل لجليل مع تقدّم العمر ليصل للطويل . لم أكن أتصوّر أنني سأحيا مثل المغامرة ، أجل مغامرة بالنسبة لرجل عادي مثلي وجد نفسه محاطا بكل ما عساي أشتهيه وفكرت في الحصول على جزء ولو ضئيل منه ومنذ أعوام طوال ، أكاد لا أصدّق أنْ أكون أنا هو أنا ، وفي وجدة التي هي وجدة ، وبجانب هذه الفتاة التي تغيّرت في كل شيء وبكل شيء ، ولا أعلم حقيقة ، لا أعلم إن كان ذلك للأحسن أو للأسوأ ، صَعبٌ على بَدَنٍ ألِف الامتداد على فراش محشوّ بالقش القديم ، ليجد نفسه بغتة نائماً على شيء مصنوع من أوزان معتبرة ، لريش طيور مختارة ، كان عليَّ أن أفرح ، أليس كذلك ؟؟؟، إذن ما دهاني حتى أصبحتُ أكلّم نفسي وبصمت حتى لا أزعج مَن امتزجوا في الغناء والرقص من أعضاء تلك الاسرة الكثيرة العدد ، الكل منغمس في نعمة الفرح الصادق ، وأنا أفكر في المستحيل ، في الهروب من هذا المكان الذي مهما اتسع بالكماليات الهائلة ، شعرتُ بالضيق يشجعني على الانصراف ، فإذا بي أتسلل عساني أصل للحديقة دون انتباه أخد ، لكن هيهات ( ث ) أدركت ما غمرني تلك اللحظة فتبعتني لتستفسرني بعينيها المكحلتين بالمسك، المشعتين بعشق لا تنطفئ شعلته المكنونة بين وجدان لا يرتاح الا للإنسان الذي أحبته كل هذا الحب الكبير ، لكنه قلق وتبحث بين دقات قلبه عن السبب .
- ما أردتُ إبعادكِ عن جوّ الأسرة لكنني ونفسي ما تعوَّدنا مثل البذخ والكل من مالِك ، وهذا في حد ذاته يجعل مني إنساناً عاجزاً لا أقدرُ مستقبلاً مسايرة اصغر طلب تودين أن احضِره لك من عرق جبيني ، لقد طغت علي منذ لحظات أنني ضيعت كل عمري راكضاً خلف وهم مهيكل ضخم ، أن أكون حراً داخل المغرب وطني ، وتجاهلتُ أن الحرية في حاجة إلى إمكانات ومادية على وجه الخصوص ، وإلا أصبحتُ حراً مُفلِسا بغير قيمة ولا حضور ولا أي شيء ، مؤسف للغاية تصوّر ذاك الحر العاطل عن العمل ، الجائع المُلقَى على حصير مشبعٍ برائحة الرطوبة المتعفّنة ....
شعرت بيديها الناعمتين تمتد لمحياي ماسحة بأناملها السمحة النظيفة دموعاً لم استطع حبسها في مقلتاي وصوتها يخاطب عقلي :
- أتبكي في ليلة عمري هذه ؟ ، أتريد أن أمزّق هذا الثوب اللعين وأركض كالمجنونة بين قومي ، ليعلموا أنك تبكي في ليلة فرحي ، تيقن أن كل دمعة تتسلل فوق وجنتيك سترافقها قطرات دمي من شرايين يدي أمزقها بأسناني فما رأيك يا أعز الناس إلى فؤادي ؟؟؟ ، أنفّذُ فوراً حماقتي ، أم نقنع بمصيرنا ونشارك فرحة هؤلاء الذين تركوا بيوتهم وحضروا لمقاسمتنا بهجة هذا الحدث السعيد ؟؟؟ . (يتبع)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة