مراجعات اسلامية: الأدب الرباني ومبادئ الأقتصاد النبوي بقلم محمد سمنّور

مراجعات اسلامية: الأدب الرباني ومبادئ الأقتصاد النبوي بقلم محمد سمنّور


10-30-2020, 08:39 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1604086774&rn=1


Post: #1
Title: مراجعات اسلامية: الأدب الرباني ومبادئ الأقتصاد النبوي بقلم محمد سمنّور
Author: محمد سمنّور
Date: 10-30-2020, 08:39 PM
Parent: #0

08:39 PM October, 30 2020

سودانيز اون لاين
محمد سمنّور-السودان
مكتبتى
رابط مختصر



لا ادري ان كانت كلمة "اقتصاد" تناسب مقام السيرة النبوية،
فالاقتصاد يقوم علي ايجاد موازنة بين الايرادات والمنصرفات،
ولكن المتأمل في السيرة النبوية لا يكاد يجد "منصرفات" اصلا،
فقد جاء أن الشهر والشهرين يمضيا ولا توقد في بيت النبي نار!
ان الحديث في السيرة النبوية أمر ليس بالسهل،
انها مناطق وعرة جدا تلك التي تتناول زهد النبي (ص)،
فرُبّ شخص يدعي الفقر في يومنا هذا،
وحينما يقرأ ذلك الباب يخشي علي نفسه ان يكون من المسرفين المبذرين اخوان
الشياطين- اعوذ بالله.

ان ما جعلني اضطر الي التجرؤ علي السيرة النبوية هو رغبتي ان أزيل بعض
اللبس الحاصل،
بين السيرة وما ورد في تفسير بعض نصوص الوحي من كتاب وسنة،
وبالتحديد ما جاء في تفسيرهم لآية: (وأما بنعمة ربك فحدث) بسورة الضحي.
فمعلوم ان السورة قد نزلت بعد فترة انقطاع للوحي،
وقد ذُكرت عدة اسباب لنزول السورة ولانقطاع الوحي؛
وقبل ان نذكر بعضها نود ان نذكّر بأمر هام،
هو ان النبي (ص) ربّاني الأدب، كما ذكر هو نفسه: (ادبني ربي فاحسن تأديبي)،
وهذا شرف عظيم للنبي (ص)،
ونعتقد ان انقطاع الوحي يندرج في هذا الباب.
فممّا ذكره المفسرون ان عثمان بن عفان رضى الله عنه اهدى الى رسول الله
عليه الصلاة والسلام عنقود عنب
فجاء سائل فاعطاه اياه،
ثم اشتراه عثمان بدرهم وقدمه الى رسول الله ثانيا،
ثم عاد السائل فاعطاه اياه، ففعل ذلك ثالثا،
فقال عليه الصلاة والسلام يلاطف السائل: (أسائل أنت يا فلان أم تاجر)
فكان ذلك سببا في تأخر الوحي،

ثم استأنف الوحي فيما بعد بنزول سورة الضحي،
وفيها قوله تعالي: (واما السائل فلا تنهر)؛
فتكون بذلك سورة الضحي من أكثر المحفزّات الربانية للرسول (ص) علي العطاء
واغداق الخير للغير،
ففيها وعد الله لنبيه بالعطاء: (ولسوف يعطيك)،
وقد بينت السيرة ان النبي كان يعطي عطاء من لا يخشي الفقر،
ولا اظن ان احد اولي منه بقول الشاعر:
علا فما يستقرّ المال فى يده وكيف تمسك ماء قنّة الجبل

هناك نماذج كثيرة لعطائه غير المحدود،
ولكن ما اريد توضيحه ان ذلك انما كان نهجا سائدا في بيته (ص)،
فقد جاء في "تنبيه الغافلين" لابي الليث السمرقندي:
ان عبد الله بن الزبير بعث إلى ام المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها
بمال في غرارتين فيهما ثمانون ومائة ألف درهم، وهي صائمة،
فجعلت تقسم بين الناس فأمست وما عندها من ذلك درهم،
فلما أمست قالت: "يا جارية: هلمّي بالفطور"،
فجاءتها بخبز وزيت، وقالت لها الجارية تعنّفها:
"أما استطعت فيما قسمت هذا اليوم أن تشتري لنا لحما بدرهم؟"
فردّت عائشة: "لا تعنفيني لو كنت ذكرتيني لفعلت".
وقد حاولتُ بتضريبات بسيطة ان اقدر ما انفقته ام المؤمنين التي اكتفت بغموز الزيت،
علي اساس ان الدرهم الواحد يمكن ان يبتاع لحما،
فوجدت ان ذلك المال يعادل بضع ملايين (مليارات بالقديم)!
لقد كان العطاء الايثاري الشامل اذن منهجا ثابتا في بيت النبي (ص)،

لقد كان النبي تأتيه الاموال الطائلة،
فقد كانت خُمس الغنائم من نصيبه،
ولكن لم تكن تظهر عليه اثار ذلك،
بل كان النبي (ص) يعيش فقرا دائما لم يذق معه شبعا قط،
ولذا فقد لا يتناسب ما اختاره بعض المفسرين وتداوله العامة بكثرة
أن تفسير "التحدث بالنعمة" في سورة الضحي هو ان تظهر علي الشخص اثار النعمة،
أو مجرد ان يخبر الشخص انه يمتلك كذا وكذا من النقود والاراضي والدوابّ؛
ونورد هنا تفسير العالم المصري المفسر احمد مصطفي المراغي رحمه الله،
الذي كان أستاذا للعربية والشريعة الإسلامية بكلية غوردون بالخرطوم قبل
حوالي ثمانين عاما؛
والذي انتقد وجهة النظر هذه في تفسير الآية فقال:
"(وأما بنعمة ربك فحدث) أي أوسِع فى البذل على الفقراء بمالك،
وأفض من نعمه الأخرى على طالبيها،
وليس المراد مجرد ذكر الثروة والإفاضة فى حديثها،
فإن ذلك ليس من كرم الأخلاق فى شىء.
وقد جرت عادة البخلاء أن يكتموا مالهم،
لتقوم لهم الحجة فى قبض أيديهم عن البذل،
ولا تجدهم إلا شاكين من القل،
أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل مما آتاهم الله من فضله،
ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه،
وقد استفاضت الأحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم كان كثير الإنفاق على الفقراء،
عظيم الرأفة بهم،
واسع الإحسان إليهم،
وكان يتصدق بكل ما يدخل فى ملكه ويبيت طاويا" انتهي كلام المراغي.

ولعل ذلك النهج كان واضحا لمن عاصر المراغي -ومن قبلهم بالطبع-
من بعض المشايخ رواد الطرق الصوفية الذين كانوا يقتفون اثار النبي (ص)،
فقد عرف عن الكثير منهم الثراء وكثرة العطاء في نفس الوقت،
مع تزهدهم في الحياة ومداومتهم علي الصوم والجوع الذي ربما استعانوا
عليه بحثوات من منقوع عشبة القَرَض!
الآن لم يعد هناك امثال هؤلاء،
فحتي الشيوخ المتدينين اصبحوا يكنزون الأموال في شكل نقود واراضي وسيارات
وعقارات وغير ذلك،
وربما كان ذلك اتباعا لمن فسر "التحدث بالنعمة" انه اظهار لها فحسب،
وليس التصدق منها.

لقد قادني ما قاله المراغي ان أتفرّس فيما جاء في كتب السنة،
فاني علي قناعة تامة ان افضل طريقة لفقه النصوص الشرعية
هي محاولة ايجاد احاديث نبوية تناسب موضوعات آي القرآن؛
فان السنة هي في الاصل بيان للقرآن،
واظن ان هذا هو خلاصة ما سعي اليه الامام الشافعي من كل ما اتي به في
كتابه "الرسالة"
الذي يعد الأساس الذي بُني عليه علم اصول الفقه- اي الفَهم.
لقد وجدت حديثا يؤكد كلام الشيخ المراغي
فقد جاء بمسند الامام أحمد عن أبي هريرة، قال:
كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نخل لبعض أهل المدينة،
فقال: (يا أبا هر، هلك المكثرون، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا - ثلاث مرات:
وحثا بكفيه عن يمينه وعن يساره وبين يديه -، وقليل ما هم)،
وفي رواية (هلك المكثرون، إن المكثرين الأقلون يوم القيامة،
إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا، وقليل ما هم)؛
ان معني قوله تعالي: (واما بنعمة ربك فحدث) يتضح بصورة جلية حينما نقابل
الآية بقوله (ص): (من قال بالمال)؛
ف"التحدث بالنعمة" الذي ورد في القرآن انما هو "القول بالمال"، كما عبّر
النبي (ص)،
وهذا من اساليب العرب في البيان، واستخدام المجاز من لكناية واستعارة.. الخ،
فالمراد هو العطاء وليس غيره،
وهو ما يتناسب مع الوحدة البنائية للسورة،
وذلك حينما نأخذ معنا بقية عبارات السورة:
(ولسوف يعطيك ربك)، (الم يجدك يتيما)، (ووجدك عائلا)، (فاما اليتيم فلا
تقهر، واما السائل فلا تنهر)،
ولا شك ان الممسك ماله يتلفه الله عليه،
والمنفق يخلف الله عليه ما انفقه،
والمؤمن يكون اكثر ثقة بما عند الله منه مما في يده.