ذاكرة السيل...الطوفان والموت.. بقلم:د.أمل الكردفاني

ذاكرة السيل...الطوفان والموت.. بقلم:د.أمل الكردفاني


09-07-2020, 06:15 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1599498906&rn=1


Post: #1
Title: ذاكرة السيل...الطوفان والموت.. بقلم:د.أمل الكردفاني
Author: أمل الكردفاني
Date: 09-07-2020, 06:15 PM
Parent: #0

06:15 PM September, 07 2020

سودانيز اون لاين
أمل الكردفاني-القاهرة-مصر
مكتبتى
رابط مختصر





يقول والدي:(للسيل ذاكرة قوية..إنه لا ينسى مجراه ولو بعد مائة عام، فمتى فار التنور، عاد السيل إلى طريقه القديم).
قبل بضعة أشهر، قال أحد المسؤولين بأن بيوت السكان الضعيفة هي سبب تأثرها بالطوفان. والمسؤولون عادة ما يفقدون عقولهم بمجرد تقلدهم للوظائف..ولذلك ينطقون بما لا يعقلون دائماً، ولو كان المسؤول رجل دولة لتقصى حقيفة تهدم تلك البيوت على وهنها كل خريف، بدلاً عن الإجابة بإجابات لا يقولها بتاع ورنيش. لأن الورنيشية يسمعون أحاديث أصحاب الأحذية أثناء تلميعهم لها فيتعلمون منهم القليل من منطق العقل. ولكن المسؤولين عندنا، ولأنهم أذكياء جداً؛ يزرعون الأحذية نفسها داخل جماجمهم..
أثناء ترحالي بين الولايات، كنت أرى تلك المنازل القابعة في الصحراء وأتساءل لماذا هنا؟ وكيف؟...تترامى المنازل الطينية الصفراء الكئيبة، في أفق الاصقاع الجافة، بضعة بيوت يسكنها أشخاص خارج الكوكب. لا ماء ولا كهرباء. في كردفان، كما في كسلا كما في أقصى الجنوب، بل وحتى أطراف العاصمة حتى الجيلي شمالاً وما بعد الجبل جنوباً. يحيا الموتى الأحياء، مدعومين إلهياً بارتفاع هرمون السريتونين الذي يرفع معدل السعادة، حتى لو كنت داخل الجحيم. وهذا السريتونين، قطرة منه، لا تتعدى أقل من مللي واحد فقط، تحفظك من رؤية الواقع المرير في هذه الدولة البائسة. لقد أعطى الله العمال والفقراء الكثير من هذا الهرمون، وأعطى أصحاب تلك المنازل التي هي أقرب للأضرحة براميل من السريتونين، حتى انقطعوا عن العالم، بكل صراعاته وأشباحه وإجرامه، مكتفين بلُحمة الفقر السعيد.
وعلى عكس اولئك الذين يقطنون الصحراء، فهناك من يقطنون في قلب مجاري الفيضانات، لقد سألت عن سر بنائهم لمنازلهم الطينية الهشة (كما وصفها المسؤول العبقري) في مجاري السيول. ولم أجد إجابة مقنعة إلا إجابة واحدة، لقد أخبرني أحدهم، أن بضعة أشخاص يبنون كيفما اتفق، دون علم بأن تلك البقاع هي مجرى للسيول، لا يكون السيل قد زار هذه المنطقة لسنوات، فيبنون فوقها، وبعد ذلك؛ وإذا قامت الدولة بتوفير خدمات كالكهرباء والمياه، يتقاطر آخرون ليبتنوا في تلك المنطقة. شركات المياه أوالكهرباء، لا تنسق مع باقي المؤسسات التي من المفترض أنها تضع خارطة للمناطق السيلية، فيزداد عدد السكان، ثم يأتِ السيل بغنة وهم لا يشعرون، فيجرفها فجأة. يعود السيل بذاكرته إلى رقعة نسيته ولم ينسها أبداً، وما الحب إلا للحبيب الأول، يجرفها، ويتشرد الآلاف، ثم بعد نهاية السيل لا يجدون مناطق تتوفر بها الخدمات سوى مناطق السيل فيعودون إليها، على أمل أن يفقد السيل ذاكرته. لكنه لا يفقدها. وفي الأودية بين الجبال، وعلى مشارف المرتفعات النهرية، يبني -الذين لا يملكون خيارات للحياة في الحياة- مساكنهم على حرف الموت. يغازلهم ويتمنعون قليلاً. ثم يقضي عليهم بضربة واحدة.
الناس يموتون بسبب حكومات فاشلة، تتسيدها الزعامات الورقية والقيادات الإنتهازية، ومن تحتهم اللصوص ووزراء الصدفة، وأنصاف المتعلمين، وجوقة من المطبلاتية، وآلاف من المغفلين النافعين. لا خير في هؤلاء ولا هؤلاء..فبعضهم أولياء بعض..، وسواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يسمعون، قلوبهم غلف، وأفئدتهم خواء..فأنا يُنصرون؟
ينحدر السيل (العرمرم) والعرمرم هو الكثير الشديد، ومنه عَرَم، وعَرُم، وعَرِم، إزداد واشتد. ينحدر عارماً، آيباً إلى مجراه القديم، فيدهشه، أن البشر الذين يقضي عليهم لم يتعلموا من دروس الحياة، وأهم وسائل دروسها هو التكرار. فتكرار الحوادث المستمر، يعلم الآدمي، ولكن (شعبنا) كما يقول حمدوك، يبقى (هو هو)، وحمدوك نفسه كمن سبقه، (هو هو)، وباقي الزفة التي تضرب على الطبول ليل لنهار، عندما يخسف القمر كما كان يفعل أسلافهم قبل مئات السنين(هم هم). ولا حول ولا قوة إلا بالله.