تكنيكات القانون..التشريع ليس فوضى.. بقلم:د.أمل الكردفاني

تكنيكات القانون..التشريع ليس فوضى.. بقلم:د.أمل الكردفاني


08-25-2020, 08:26 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1598383583&rn=0


Post: #1
Title: تكنيكات القانون..التشريع ليس فوضى.. بقلم:د.أمل الكردفاني
Author: أمل الكردفاني
Date: 08-25-2020, 08:26 PM

08:26 PM August, 25 2020

سودانيز اون لاين
أمل الكردفاني-القاهرة-مصر
مكتبتى
رابط مختصر




قبل ألف وخمسمائة عام، إستاطعت الملكة ثيودورا منع من يصيغون القانون من حظر الطلاق. ثيودورا تدخلت لمناصرة النساء بحكم عملها السابق كمحظية (مومس لكبار رجال الدولة). كانت ثيودورا تلقي حججها في وجوه صُنَّاع القانون الرجال، وتفحمهم بأدلتها القوية، فعندما أرادوا تطبيق الشريعة المسيحية التي تمنع الطلاق لأن (ما جمعه الله لا يفرقه إنسان) قالت لهم ثيودورا: لو منعتم الطلاق، فستزداد جرائم القتل بالسم بين الأزواج. وهكذا درأت مفسدة أكبر بمفسدة أصغر. ولكني أعتقد انها كانت تنتصر لمذهبها اليعقوبي بحجج علمانية.
القانون ليس حظراً لما نستهجنه فقط، فالقانون لا يعمل بروح طفل. بل بروح كلية تستصحب التفاعلات غير المنظورة للقاعدة القانونية بمثل التفاعلات المنظورة والمباشرة. فعندما تشرع دولة في سن قانون فهي أولاً تبحث عن المشكلات التي لم تجد الدولة حلاً لها سوى عبر سلطة الإكراه القانونية. ويجدر بها أن تتجنب اللجوء المستمر لحل مشاكلها عبر سن القوانين، لأن هذا يعني إفراطاً تشريعياً مؤذياً للنظام القانوني برمته، ويحول القانون لسلاح إكراهي تستخدمه السلطة متعنتة ورافضة للمرونة اللازمة عند إدارتها للدولة.
على سبيل المثال، يعلمنا القانون أشياء معيشية تتأسس عليها القاعدة القانونية، فالإنسان العادي الذي يرغب في شراء سلعة (تلفزيون، ملابس، منزل..الخ) يبذل وقتاً طويلاً في تقصي أفضل العروض، وقد تجده كثير التردد، فتارة تهفوا نفسه للشراء وتارة أخرى يفضل الإنفاق على أولويات أهم. على العكس من ذلك، فإن العلاقة بين التجار تعتمد على السرعة، فلا مجال لتضييع الفرص التجارية وخسارة الأرباح. هذا الفارق بين الشخص (المدني) والشخص (التاجر)، يلعب دوراً كبيراً في رسم القواعد القانونية، كما في حالة الإثبات في بعض الأنظمة، التي تجيز إثبات التصرف التجاري بكافة طرق الإثبات، ولكنها تضع قيوداً على إثبات التصرفات القانونية التي يجريها المدنيون. ومن الأمثلة أيضاً على ضرورة استصحاب المشرع للحياة العامة قبل وعند وبعد سن القاعدة القانونية، هو الدورة المالية في البيئة التجارية، فعلى سبيل المثال، إذا كان القانون يجيز أن يكون الشيك أداة إئتمان، فإن تغيير هذه الطبيعة للشيك لتكون أداة وفاء فقط يجب أن لا يتم بدون دراسة متأنية، لأن الأعمال التجارية تترابط فيما بينها ترابطاً وثيقاً، فلو اشترى تاجر بشيك آجل، ثم قام بتظهيره لتاجر آخر، وقام الثاني بتظهيره لثالث، فإن سلسلة من العمليات التجارية تكون قد أنجزت، فإذا ترتب على تغيير القانون رد الصك، فإن عدة تجار سيتأثرون مالياً بذلك الارتداد، مما يحدث إرتباكاً في إستقرار السوق.
سنجد أن تكنيكات صناعة القانون، هي في الواقع غوص مستمر في عالم الإحتمالات على أرض الواقع، فالقانون ليس عصا سحرية لتغيير الواقع. فمثلاً، بعد إنفصال الجنوب، قام شمال السودان بإسقاط الجنسية عن جميع الجنوبيين، دون أن يستصحب ذلك مشكلات عديدة، مثل القاطنين في الحدود، ومن لديهم روابط دم، من المخلطين، والذين لم يروا الجنوب بأعينهم ولو مرة واحدة. أفرز سن القانون على ذلك النحو الإعتباطي مشاكل إنسانية وأسرية عديدة.
يتم سن القانون الواحد بعد دراسة وتمحيص قد تمتد لعشر سنوات قبل أن يصادق على القانون ويصير نافذاً، لكن هنا، يمكنك ان تستيقظ لتجد قوانين جديدة وتعديلات وإلغاءات، هكذا فحسب، وبحسب مزاج السلطة المسيطرة على زمام الحكم. كما رأينا في قانون التفكيك بل وما يسمى بالوثيقة الدستورية.
التعامل مع القانون كسلاح لا كأداة تنظيم، هو أخطر ما تقع فيه الأنظمة العبثية، والذي يؤدي في النهاية إلى إشاعة الفوضى بدلاً عن التنظيم وزيادة الفساد بدلاً عن مكافحته، كما حدث ويحدث الآن...
إن الحكومات المضطربة، تبحث دوماً عن إنتصارات سريعة، وهذا ما يوقعها في الهزائم الخالدة. والقانون ليس مسألة بسيطة، ليس جملاً مكتوبة، بل هو صناعة، وعندما أقول صناعة فهذا يعني أن له أصول وقواعد ومبادئ إن تم تجاهلها، فستكون محصلتنا سمك لبن تمر هندي.