الديمقراطية في السودان ليست هي نظاما للحكم فقط، و لكنه أيضا الشعار الذي قد عاني الكثير لعدم إنزاله للواقع، و لم يجد التطبيق بالصورة الجادة من قبل القوى السياسية التي ترفعه، مما يؤكد أن الديمقراطية في مسارها التاريخي في السودان، كقيمة سياسية و ثقافة لم تطرح أوراقها المعرفية علي الأغلبية بالصورة المطلوبة، و خاصة النخبة المثقفة التي يقع عليها مهمة استنارة المجتمع، عقب ثورة أكتوبر عام 1964، شعرت النخبة السياسية أن هناك فراغا سياسيا و ثقافيا صنعه الحكم العسكري الذي غيب الديمقراطية و حاول ملء الفراغ الذي تخلفه بالرياضة، و استضافة الأندية المشهورة في العالم، لكنه كان رهانا خاسرا، مما حدى بالنخب في الحقل الأدبي و الثقافي أن تطرح قضايا عديد لها تأثيرغير مباشر علي العمل السياسي من منابر الأداب و الفنون، مثل المدارس الفكرية في مجال الأدب و الثقافة، و تفتح باب للمجادلة بين التيارات الفكرية في آواخر عقد الستينات إلي بداية ثمانينات القرن الماضي. و طرحت فيه أهم قضية " الهوية" و لكن ضعف الجدل عندما ضعفت الطبقة الوسطى في المجتمع. كان من المفترض أن تكون أنتفاضة إبريل مرحلة تاريخية جديدة في السودان، تتجاوز فيها كل سلبيات الماضي، و خاصة تلك التي تسببت في سقوط النظامين الديمقراطيين، و كان الافتراض قد أملاه، أن الانتفاضة لعبت في نجاحها القوى الحديث التي كانت في الاتحادات النقابية، اتحادات الطلاب, أن تشرع في التوسع في تأسيس منظمات المجتمع المدني، التي كان يمكن أن تلعب دورا استناريا في المجتمع، و أيضا في توعية الجماهير بحقوقها و واجباتها، لكن بعد الانتخابات انسحبت النقابات من الساحة، و آوكلت المهمة للأحزاب السياسية التي كانت أيضا تعاني من إشكاليات كثير، أولها أن تدعم تأسيس منظمات المجتمع المدني و توفر لها الإمكانيات المطلوبة، الثاني أن توظف أجهزة الإعلام الحكومية في تثقيف الجماهير في الدور المنوط أن تلعبه لكي تشكل حماية للنظام الديمقراطي، لكن النخب السياسية خاصة التي جاءت لوزارة الإعلام بدلا من أن تنهض بالوزارة و مؤسساتها، شككت في الأجهزة الإعلامية و إنها لن تستطيع أن تلعب دور الاستنارة حتى إنها حاولت أن تخلق جسما بديلا داخل الوزارة تحت أشراف وزير الإعلام لكي يكون بديلا لدور لوكالة الأنباء السودانية" سونا" لكي يمد الجسم الجديد الأجهزة الإعلامية بالأخبار، و أصبح وزير الإعلام يباشر الأشراف بنفسه علي الجسم الجديد و يتدخل في كل صغيرة و كبيرة. ناسيا أن هذا نظاما ديمقراطية. بعد انقلاب الإنقاذ في 30 يونيو 1989م، أغلقت قيادة الانقلاب كل المنابر الثقافية، و أحتكرت العمل الإعلامي، و بدأت في توظيف الأحهزة الإعلامية لكي تبشر بالمشروع الحضاري الذي كان شعار النظام الجديد، و أن يؤسس الإعلام البيئة التي تصلح لإنتاج الثقافة الجديدة في المجتمع، و أصبح الإعلام خاضعا خضوعا كاملا للسلطة، كما أن الرسالة الإعلامية تسير في اتجاه واحد من القيادة إلي القاعدة، و حرمت العامة من محاورة الرسالة الإعلامية التي تأتي من القيادة السياسية للبلاد. هذه المهمة الجديدة للإعلام دعمته السلطة بكادر جديد يقع عليه تنفيذ المشروع، و ظل أداء الإعلام متابع و مراقب من أعلي هرم السلطة في الدولة، إلي جانب دائرة الإعلام في جهاز الأمن و المخابرات، الأمر الذي خلق حالة من الترهيب علي العاملين، و أصبح الرقيب الذاتي داخل كل إعلامي، إذا كان منتميا للمشروع الحضاري أو معارضا لهذا المشروع، و أصبح الأمن حاضرا حتى في لجنة البرامج، و لا يمكن بث فكرة إعلامية إذا لم تجد القبول من جهاز الأمن. كان لهذه السياسة انعكاسات سالبة علي العمل الإعلامي، حيث أثر حتى علي الأداء الإبداعي للعاملين، و عجز الإعلام أن يقدم مبادرات في العديد من القضايا، حيث تحول العاملون لمنفذين للتوجيهات التي تأتيهم من خارج مؤسستهم. و تعطلت قدراتهم الإبداعية. كان المتوقع بعد نجاح الثورة، أن تقدم النخبة السياسية الجديدة طمأنة للعاملين في أجهزة الإعلام، و تحاول تغيير السياسات، لكي تعيد دور المبادرات من داخل المؤسسات الإعلامية، باعتبار أن الثورة جاءت لكي تحرر الناس من الخوف، و من تدخل المؤسسات الآخرى في العمل الإعلامي، و أيضا التحرير من توجيهات السلطات العليا و فرض رقابتها عليها، و هناك فرق كبير بين خطاب تحرير الإعلام و جعله يلعب دورا كبيرا في عملية الاستنارة، خاصة أن عملية التحول الديمقراطي في البلاد تحتاج إلي إنتاج ثقافة ديمقراطية تشكل قاعدة لعملية التحول الديمقراطي، و بين إجراء العدالة المطلوب تحقيقه داخل المؤسسات الإعلامية، و تطهيرها من الذين افسدوا، و الذين استغلوا وظائفهم لمنافع شخصية أو حزبية، و الذين ليس لهم مؤهلات علمية للوظائف التي يشغلونها. لكن الشعارات التي رفعت تطالب بالتطهير، و إقالة العديد من وظائفهم حتى يتم تعين آخرين. تعطي انطباع أن ذات سياسات الإنقاذ سوف يتم تطبيقها من خلال شعارات مخالفة فقط. أي استمرار لذات الآلة التي كان يطرق عليها النظام السابق، هذه السياسات و الشعارات لا تحدث أنفتاحا في الإعلام بالصورة المطلوبة. و سيظل الإعلام الحكومي خاضعا لتعليمات من فوق، مهما كانت الكوادر العاملة فيه، لأن الدولة هي التي تقدم ميزانية هذه الأجهزة. و أغلبية النخب السياسية لا تفهم أن كل ما كان الدعم متواصلا بالصورة المرضية للأجهزة الإعلامية يؤثر بشكل إيجابي علي أدائها، و في نفس الوقت تخرج المبادرات من وسط الإعلاميين. أن وجود قامتان إعلاميتان في الإجهزة الإعلامية الأستاذ لقمان أحمد رئاسة الهيئة القومية للإذاعة و التلفزيون، و الأستاذ محمد عبد الحميد عبد الرحمن في رئاسة وكالة السودان للإنباء سوف يخلق واقعا جديدا في هذه المؤسسات، باعتبار أن الأثنين أبناء هذه المؤسسات، و كان قد خدما فيها منذ بداية طريقهما في العمل الإعلامي، و يعلمون مشاكلها و حاجاتها، كما أن الأثنين عملا خارج السودان في دول رائدة في العمل الديمقراطي، و يعلمان أن مساحة الحرية التي توفر للإعلامي هي التي تطلق ملكاته الإعلامية، كما أن الأداء المحكوم بلإجراء المهني هو الذي يزيل أثار الرقيب الذاتي من كل مبدع، و كل ما اتسعت دائرة الحرية تكون مطمئنة لأصحاب الخيال الموار، الذين يأتون بالمبادرات الجاذبة للجمهور. لكن يصبح أيضا السؤال: ما هي الفائدة المرجو أن يكون للدولة مؤسسات إعلامية، خاصة أن متلاك الدولة لإجهزة إعلامية هي فكرة النظم الشمولية التي تريد أن تكون لها وحدها السيطرة علي عملية مخاطبة الجماهير و تشكيل رأئها العام؟ هي فكرة تحتاج لحوار نسأل الله حسن البصيرة. نشر في جريدة إيلاف الخرطوم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة