زمن المسيرات المليونية

زمن المسيرات المليونية


02-24-2020, 01:01 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1582545690&rn=0


Post: #1
Title: زمن المسيرات المليونية
Author: طه داوود
Date: 02-24-2020, 01:01 PM

12:01 PM February, 24 2020

سودانيز اون لاين
طه داوود-
مكتبتى
رابط مختصر



زمن المسيرات المليونيـة
بقلم / طـــه داوود

عهد السودان بالمسيرات المليونية قديم. خرج الناس في مسيرات تأييد أو تنديد في عصور مختلفة من
تاريخ السودان. تحدثنا كتب التاريخ عن فترة المهدية، وكيف أنّ محمد أحمد المهدي بكارزميته نجح في
حشد الآلاف من المواطنين والسير بهم إلى ساحات الوغى حيث كان مصير الغالبية منهم القتل بنيران الأسلحة
الحديثة في المرحلة الأولى من الثورة المهدية! ومع ذلك نجحت المهدية في توظيف الشعار الديني البرّاق في
حشد الناس حتى قُدِّر معسكر الأنصار عند حصار مدينة الأبيض في عام 1883م بخمسائة ألف شخص!

استمرت المسيرات في مختلف أنظمة الحكم التي خبرها السودان، واستمر الحشد المليوني متى ما اقتضى الحال
وتهيأ الظرف، ولكن في اعتقادي أن من أهم المليونيات في تاريخنا الحديث مليونية رفع علم استقلال البلاد في
عام 1956م، ثم مليونيات ثورة أكتوبر 1964م ومليونيات انتفاضة ابريل 1985م. فهذه المليوينات كانت مميزة
وناجحة لأن دوافعها كانت واضحة وأهدافها محددة.

نعم، لم تتوقف المسيرات على مرّ التاريخ السياسي للسودان، كما سبقت الإشارة، ولكن في اعتقادي أن تحولاً كبيراً
طرأ على ظاهرة المليونيات في أواخر العهد المايوي، عندما حشد تنظيم الاخوان المسلمين بقيادة عرابه الراحل
حسن الترابي مليونية دعم الشريعة أو قوانين سبتمبر، عشية إعلان الرئيس الأسبق جعفر نميري تطبيق الشريعة
الإسلامية في البلاد في سبتمبر 1983م.

وعلى الرغم من ارتفاع أصوات المنتقدين لهذه القوانين وتأكيدهم على أنها مجافية لروح الدين ومقاصد الشريعة،
حيث ينبغي تحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير المعينات الضرورية للناس أولاً قبل إقامة الحدود، وما رافق ذلك التوجُّه
من مقالات ودراسات وتصريحات ناقدة لتلك القوانين، لم يجرؤ أحدٌ على الالتزام بإلغائها أو تعديلها إذا سنحت له الفرصة.
فعلى سبيل المثال، نجد أن السيد الصادق المهدي، رئيس وزراء آخر حكومة منتخبة ديمقراطياً، كان من أشد الناس انتقاداً
لقوانين سبتمبر، وقال فيها إنها لا تساوي الحبر الذي كُتبت به! ولكنه لم يجرؤ على إلغائها عندما آلت إليه مقاليد الحكم كرئيس
للوزراء بصلاحيات هائلة ومسنود بأغلبية برلمانية لمدة ثلاث سنوات (1986-1989م).

لا شكّ في أنّ الدين يمثل حجر الزاوية في عقول ووجدان الناس، وعليه فإن كُل من يرفع راية الدين سيجد من الجميع التسليم
والتأييد ولوكانت أهدافه الحقيقية من هذا الشعار هي الدنيا بمباهجها وصولجانها!، وقد نجح أنصار نظام الإنقاذ البائد من الإسلاميين
وغيرهم في الاستفادة من هذا الشعار البراق في تمكين أنفسهم من السلطة والمال خلال الثلاثين سنة الماضية. فراية (لا إله إلا الله)
تُسكت الجميع ودويّ (التكبير) يقضي على كل أصوات المحتجين والمنتقدين بالضربة القاضية! ليستمر (أهل التمكين) في شئون دنياهم
وهم في غاية الطمأنينة، وكلّما تلبّدت سماء البلاد السياسية والاقتصادية بغيوم الأزمات، سارع التنظيم في إخراج المسيرات المليونية
لإرهاب الشعب وإسكاته بهذه الشعارات البراقة التي لا تسمن ولا تغني من جوع حال إفراغها من مضامينها الحقيقية.

هذا الحديث عن المليونيات السابقة في تاريخنا المعاصر يهدف إلى تسليط الضوء على المليونيات الجديدة، مليونيات ثورة ديسمبر المجيدة
التي أسقطت النظام البائد على أمل في إقامة آليات حكم جديدة أساسها الحرية والسلام والعدالة الاجتماعية.

نعم، نجح الشعب في ثورته ونجح في تتويج نضاله بمليونية 6 ابريل 2019م، وما أعقبها من اعتصام أمام مباني القيادة العامة للجيش السوداني
حتى سقوط النظام في 11 ابريل 2019م.

بعد سقوط النظام لم تهدأ الأوضاع عكس ما كان متوقعاً، فأدّى ذلك إلى تحريك الشارع بالمسيرات المليونية، وكان أبرزها مليونية التنديد بمذبحة
فض الاعتصام الذي تم غدراً في 3 يونيو 2019م، فاحتشد الناس في الشوارع وهم يهتفون بالثأر (الدم قصادو الدم،، مابنقبل الدية)، ثم رجع الناس
إلى بيوتهم في نهاية اليوم دون تحقيق ما خرجوا من أجله، حيث نجح المجلس العسكري في تمييع القضية وقتلها عن طريق لجان التحقيق التي تفتقر
إلى الحياد والاستقلالية، وقد تابع الجميع البيان الهزيل للجنة تحقيق فض الاعتصام.

نعم، لم تفلح المسيرات المليونية في تقديم مجرمي النظام البائد للعدالة، ولن تفلح في ذلك طالما ظلّت هذه المسيرات أسيرة لردود أفعال آنية وحالات
غضب بسبب تجاوزات الاجهزة الأمنية، كما حدث في كارثة فض الاعتصام وما سبقها من حالات قتل وقنص للمتظاهرين طيلة الشهور الماضية.

ستخرج مليونية جديدة في الأول من أغسطس 2019 تحت شعار (القصاص العادل) تنديداً بمذبحة تلاميذ الأبيض، ولكن لا أعتقد أن مصيرها سيكون
أفضل من مصيرسابقاتها، وذلك بسبب غياب الرؤية وغياب الآلية المناسبة لتحقيق الأهداف لدى منظِّمي المسيرات من (قوى إعلان الحرية والتغيير).

فكما كان الحال في المسيرات السابقة، ستصرخ ملايين الحناجر في هذه المسيرة الجديدة مطالبةً بالقصاص (القصاص مِن مَن؟)، وستُرفع الشعارات
وستَنقُل قنوات التلفزة العالمية (وقناة الجزيرة مباشر) الوقائع على الهواء، وفي نهاية اليوم ينفض الموكب ويعود الناس إلى بيوتهم دون إنجاز يذكر!
أنا أدعو من هذا المنبر (قوى اعلان الحرية والتغيير) و(لجان الأحياء) إلى إعادة النظر في مسألة المسيرات المليونية.

لا بدّ من وضع استراتيجية جديدة تضمن تحقيق الأهداف المحددة لكل مسيرة قبل الشروع في تنظيمها.
من المهم جداً وجود رؤية واضحة وأهداف محددة للمسيرات وآليات فعالة تضمن تحقيق تلك الأهداف. نحن لا نريد للمسيرات الشبابية أن تفقد زخمها
وتأثيرها مع مرور الوقت. فمسيرات الشعب الجزائري، على سبيل المثال، دأبت على الخروج بصفة أسبوعية على مدى الشهور الماضية دون تأثير يذكر،
نعم نجحت تلك المسيرات في إسقاط رأس النظام الجزائري، تماماً كما فعلت ثورتنا المجيدة، ولكن بقي نظام (بوتفليقة) متشبساً بمفاصل الدولة ومدعوماً من الجيش الجزائري.

نحن في أمس الحاجة إلى وضع استراتيجية لهذه المسيرات الهادرة في كل مدن السودان، بحيث تكون هناك آليات محددة تضمن إلزام مَن بيدهم مقاليد السلطة تنفيذ
المطالب، وهذه الآلية قد تتجسد في شكل إعتصام، أي أن لا تنتهي المسيرة بالعودة إلى البيوت وإنما تٌتوّج باعتصام شامل في مكان محدد حتى تحقيق المطالب،
كما حدث في اعتصام القيادة العامة على سبيل المثال.
وبالله التوفيق.
طه داوود
[email protected]