الفاتح جبرا .. في ذمة الله
نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب د. الفاتح يوسف جبرا فى رحمه الله
|
Re: كونسرتو البلد (Re: ابو جهينة)
|
الميلاد الثاني ( المخاض العسير )
إختفى ( الجني ) تماماً عن ساحة البلد. عندها تأكد الجميع بأن زمن تولي الضواري دفة الحكم صار أمراً بعيد المنال. وظلَّلتْ غمامة من الحيرة مجلس القبيلة . ( الموقر ) يتكيء حزيناً على جذع شجرة وهو يستمع إلى أحداث الأيام الدامية. الأمهات الثكالى والأرامل يتحلَّقْن حول مجلس القبيلة في إنتظار أن يقول ( الموقر ) كلمته في شأن تسيير دفة الأمور وتدبير سبل كسب العيش للعجزة والمعوزين. الشهداء في مثل هذه المواقف يصبحون مادة دسمة على موائد الشعراء .. ( فحولهم ) والهواة والغاوون الذين يتبعونهم.. أهازيج النصر جرحتْ الحناجر ... ثم قال ( الموقر ) كلمته ... فكان إقتسام سدة الحكم بين ( الرمَّاح ) وغريمه التقليدي ( أبو مصباح ) ... فتنفس الخلق الصعداء ... فالفريقين يؤكدان حرصهما الأكيد والراسخ على المصلحة ( العامة ) وإبعاد ( المصالح الشخصية الضيقة ) ... ثم كالا اللعنات على قبيلة الضواري والتي عاثت في البلاد الفساد والتنكيل بالعباد .. وسارت الأمور بوتيرة مركبٍ تتهادى على سطح نهرٍ بقيادة ( ريِّسيْن ) .. ولكنهما نسيا أو تناسيا أن النهر غير مأمون الجانب من هبَّات الأعاصير وانجراف جذوع أشجار يدفعها الموج في صخب وجنون نحو جسم المركب أو تمزيق أشرعة المركب شر مُمَزَّق ... هذا غير أنهما تناسيا رغبة الخلق وإلى أي ضفة تكمن رغبتهم في الرسو عليها .... في عتمة الليل .. تبْرق عيون تقدح كالشرر من بين شجيرات الغابات والأدغال ... ومن خلف هذه العيون .. جاءت الأخبار تتْرى ... بأن سكان الوادي الأعلى يشنون هجمات في كر وفر ... رافعين راية الإنسلاخ من ربقة الضواري أو حكم ( الرماح ) وغريمه ( أبو مصباح ) ...
الخطوب لا تأتي من فراغ ... العقلاء هم من يتمترسون خلف حدْسهم وتجارب غيرهم، فعندما تأتي الخطوب، فعلى أقل تقدير يكون وقْعها أخف تأثيراً من هجمة الفُجاءة. ومصائر الشعوب كالحبال المفتولة ... تتلوى أليافها حسبما أرادها فاتلوها .. رفيعة أرادوها أو غليظة أو مزيج بين هذي و تلك .. والليالي التي تكون حُبْلى بالأحداث الجسام تجعل الناس ينامون وهم ينتظرون مطرا أو غيثا فتفاجؤهم عاصفة ترابية أو سيل عرمرم يندفع من تخوم جبال راسيات يحسبونها تحميهم من الغوائل... أشرقتْ شمس ذاك اليوم ... والغابة والأدغال تضج بأصوات الضواري فيرتد صداها بين الجبال والتلال القريبة .. حطّ طائر ضخم على تعريشة ( الموقر ) الذي كان في غفوة والمسبحة بين أصابعه .. وقف الطائر الضخم محاكياً ( هدهد النبي سليمان ) ... ثم أطلق صيحة وطار بعد أن نثرتْ مخالبة تراب عرش السقيفة على جبهة ( الوقور ) ... لم يفقه ( الوقور ) كُنْه وقفة هذا الطائر على سقف سقيفته وأسباب صيحته .. فقد باغتتْه الأحداث التي تَتْرى.
وأختلط الحابل بالنابل. وأقْسم البعض بأنهم رأوا ( نوعا من السحالي ) يطارد تمساحاً على أطراف شواطئ جزيرة على مرمى البصر ... بينما أسماك ( شامتة ) تتقافز لتلتقط دقائق هذا الحدث. كما أن إمرأة قالت بعد أن أقسمتْ بقبر جدها بأنها رأتْ ديكا له ( عُرف فاقع اللون أحمره ) ينتف ريش ( صقر ) قناص له مخالب ومنقار معقوف كما المنجل.... إنها الفوضى تضرب بأطنابها في جسم المكان. ثم إنطلقتْ من بين شجيرات الأدغال جحافل الضواري من كل جنس ونوع يتقدمها من فصيل السباع ( سليل السنور ) المعروف بين رفاقه بـ( جسَّاس ) .. وهو من فصيل السباع التي تنتمي إلى عهد ( الماموث ) المنقرض وله مهابة ومعروف عنه أنه لا يأبه للموت... له صولات وجولات في معارك بني جنسه. وبهدوء تام تسلم زمام الأمور .. ورغم أن الكل كانوا قد تيقنوا من إختفاء الجني مروض الوحوش .. إلا أنه ظهر أعلى الجبل وهو يقهقه ضاحكاً .. قائلاً بأعلى صوته : لا فكاك ... أنتم كالقطط .. لا بد لكم مِن خانق يكتم أنفاسكم ... تلعنونه وتحبونه ومن ثم تلفظونه لتعودوا إلى لطم الخدود وشق الجيوب.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كونسرتو البلد (Re: ابو جهينة)
|
*** مَن يقبضون بتلابيب السُلْطة ويكون ( الجني ) هو من فرش لهم الطريق بساطاً أحمراً ووسوس لهم بأن الرعاع سيكونون طوع البنان ، دائما ما يكونون على دين واحد حتى ولو إختلفوا في الإيمان برب واحد أو تفرقتْ بهم سبل الاتجاهات والطرق والمنهاج.
إلى عصر ( على نفسها جَنَتْ براقش )
( براقش ) كلبة نبحتْ دونما سبب فلفتتْ إنتباه أعداء القبيلة إلى مكان إختباء سكان المضارب فداهموهم وأثخنوهم جراحا و قتلا ... وما أكثر النابحين عن قصد ودونما سبب فتكون الفاجعة ... ولات حين مناص ...
الطبْع يغلب التطبُّع :
قال الجني لقبيله : هؤلاء الرعاع وثلة الدهماء والغوغاء لا يفترون من جلْد الذات. لا يتعلمون من دروسهم التي لم يمضِ عليها زمان موغل في القِدَم ... لقد تعِبْتُ من ترويض الضواري لهم ... كان هدفي أن يشملهم الأمن ويلفهم بدثاره ليلتفتوا إلى ما يفيدهم ويفيد أجيالهم. ثم تنهد تنهيدة طويلة .. ثم مسح على قرْنيه وواصل : هذه الرعية تستحق حالاً أحسن مما هم عليه. ولكن ما بوسوستي حيلة غير ما قمتُ به. فلنرَ ماذا هم فاعلون. الرعاع يتململون من فوضى هم صانعوها. يتضورون جوعاً بسبب شُحٍ هم ناثروه. يموتون مرضاً جرّاء جراثيم هم سبب إنتشارها. يصفقون مهللين للضواري وللوحوش وهم يرمقون الأظافر والمخالب تحيط بمسيراتهم الهادرة تتغنى بتمجيد السباع وبنات آوى. يتغنون بأهازيج النصر وهم يشاهدون راياتهم تتهاوى الواحدة تلو الأخرى ... يتنسّمون عليل الحرية بينما هم يمرون أمام زنازين السجون التي يجدد سجانوهم طلائها وتقوية بواباتها في انتظار المتذمرين ...
القِرْبة المقدودة ...
كعادته إنْزوى ( الجني ) متوارياً عن الأنظار حتى لا تصيبه رشْقات الرعاع بحجارة اللعنات .. وهو على ثقة تامة بأن اليد الطُوُلِى في كل الإخفاقات هنا وهناك هي من جرّاء تساهلهم والجري وراء مصالحهم الضيقة وترْك هموم البلد وراء ظهرانيهم وكثرة مجاملاتهم للمتخمين وتجار الكلام وبائعي الوعود. كما وقفتْ الضواري والوحوش على تخوم الأحراش والغابات ترمق الوضع عن كثب وهي تلعق جراحها المتتالية. جلس ( الوقور ) كعادته .. واضعاً رأسه بين راحتَيْه .. والجلوس في حضرته يلفهم الصمت وتكتنفهم الحيرة والإحباط. قال ( الوقور ) من بين أسنانه : ماذا ترون ؟؟؟ قد إكتفيتُ من كل هذا العبث الذي يحيط بنا من زمرة الوحوش والضواري وأجنحة البلد المتصارعة ... أفيدوني وأريحوني. همْهَم القوم ... تنحنحوا .. تناكفوا ... تنازعوا .. إتفقوا ثم إختلفوا ثم إتفقوا على أمور في ظاهرها ( التوحد ) وفي باطنها ( التفرق ) ... على سطحها تطفو شعارات قديمة من زمن ( فديتك يا وطني ) ... وفي قاعها تترسب نفس جراثيم السنوات التي خلتْ ... وعادت إلى واجهة الأحداث نفس الوجوه التي هلّل الناس لها وقاموا بسحقهم تحت تروس الوحوش والضواري. قهقه ( الوقور ) ... قائلاً : يا قوم ... هل أضْحتْ البلد عقيمة ؟ أم أصبحتم كقطعان البراري تمشي في خط مستقيم لا تأبَه لمَن يكون في المقدمة طالما هو يعدها بخشاش الأرض و ينابيع المياه ؟؟
و ران صمت عميق بينما الغابات المجاورة تسترق النظر والسمع ليقتدوا بهذا المكان وسكانه المعروفين بالصبر والحكمة والشجاعة
( إنتهى )
| |
|
|
|
|
|
تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook
|
|