(دون جوان):: يعيده بيتر هانكه إلى الحياة:و لكن بأي صورة؟

(دون جوان):: يعيده بيتر هانكه إلى الحياة:و لكن بأي صورة؟


10-23-2019, 08:11 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=500&msg=1571814705&rn=0


Post: #1
Title: (دون جوان):: يعيده بيتر هانكه إلى الحياة:و لكن بأي صورة؟
Author: محمد عبد الله الحسين
Date: 10-23-2019, 08:11 AM

08:11 AM October, 23 2019 سودانيز اون لاين
محمد عبد الله الحسين-
مكتبتى
رابط مختصر

(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});‏(دون جوان):أسطورة العشق العالمي: يعيده بيتر هانكه إلى الحياةمن جديد..

منا لم يسمع بدون جوان...و من منا لم يتصور هيئته و تصرفاته؟

و الآن يستعيد بيتر هانكه الحائز بعد جدل عنيف على جائزة نوبل للآداب لهذا العام(2019) يستعيد ‏من جديد أيقونة العشق ذلك الأسطورة الذي ارتسم في المخيلة العامة

بالفتى اللعوب ‏خاطف قلوب العذارى و مطلق سهام كيوبيد في كل اتجاه.‏فكيف قدّمه هانكه و صوّره من جديد ..

و لكن في أي صورة و في أي شكل؟

هذا ما عرضه بتمكّن الكاتب(محمد الحمامصي) في عبارات رشيقة والتي استقتطف منها بضع ‏فقرات..

و ذلك لكي تستعيد الذاكرة صورة الدون الجوان التي سمعنا عنها كثيرا .. ‏و لنطابقها مع تصوير هانكه له.

Post: #2
Title: Re: (دون جوان):أسطورة العشق العالمي: يعيده هان�
Author: محمد عبد الله الحسين
Date: 10-23-2019, 08:25 AM
Parent: #1


المقتطف من المقال المنشور في صحيفة ميدل إيست اونلاين:
بيتر هانكه صدرت روايته "دون جوان"، وفيها استعاد هاندكه أسطورة أدبية طواها ‏النسيان، وبدا بعثُها آنذاك شيئا مستفزا يدفع للتساؤل: ماذا يدفع هاندكه إلى استعادة ‏سيرة العاشق
الماجن في زمن الحروب والإرهاب وصدام الحضارات؟‎
واستعرض جريس في مقدمته لأسطورة العاشق الأبدي دون جوان التي عالجها الكثير ‏من الأدباء والمسرحيين والموسيقيين الغربيين، قال "ثمة شخصيات أدبية تولد ولا ‏تموت.
وعبر السنين تشهد هذه الشخصيات ولادات متعددة، فتكتسي في كل مرة شكلا ‏آخر، وبعدا جديدا. من هذه النماذج شخصية التي ما فتئ الأدباء يعودون إليها شخصية ‏العاشق زئر النساء دون جوان.
ويعتبر الكاتب الإسباني تيرسو دي مولينا (1571-‏‏1648) أول من تناول هذه الأسطورة أدبيا. دون خوان في الرؤية الإسبانية رجل ‏مذنب لا يؤمن بإله، العشق عنده هوس ومس، لعنة لا يبرأ منها؛
إنه يغرر بالنساء ولا ‏يتورع حتى عن قتلهن من أجل متعته، إلى أن ينال في النهاية عقوبته‎.
ولفت إلى أن هذه الأسطورة الأدبية انتقلت عبر إيطاليا إلى فرنسا، حيث تناولها ‏موليير في مسرحية مُثلت عام 1665. وبعده تعرض أكثر من أديب ـ مثل كورناي ‏وبايرون وألكسندر دوما الأب ـ
لهذه الشخصية التي أضحت رمزا أدبيا بامتياز‎.
وأكد جريس أن شخصية دون جوان ظلت تجذب الأدباء، فعاد إليها السويسري ماكس ‏فريش في مسرحيته الهزلية "دون جوان أو عشق الهندسة" التي مثلث عام 1953 في ‏زيورخ،
وقدم فيها فريش معالجة تسخر بهذه الأسطورة. لم يكن بطله عاشقا وصائدا ‏للنساء، بل شخصية نرجسية تلاحقها النساء، شخصية حزينة لا تعنيها الشهوة، بقدر ‏المكابدات الروحية؛
دون جوان هنا هارب من العلاقات المزيفة المملة العادية، ومثقف ‏يهجر عشق النساء ويستبدل به حب الهندسة. بعد ذلك بعام قدم رائد المسرح الملحمي ‏برتولت بريشت رؤيته لـ"دون جوان"
في مسرحية استند فيها على موليير استنادا ‏يصل إلى الحرفية. إلا أن الاشتراكي بريشت اعتبر العاشق المغوي نتاجا لطبقته ‏الاجتماعية المنحلة، لذا أكد انتهازية الشخصية وشذوذها

Post: #3
Title: Re: (دون جوان):أسطورة العشق العالمي: يعيده هان�
Author: محمد عبد الله الحسين
Date: 10-23-2019, 08:39 AM
Parent: #2

ولعل الرواية التي كتبها التشيكي يوزف تومان من أكثر المعالجات الأدبية لأسطورة ‏دون جوان تشويقا وطرافة. ظهرت رواية تومان عام 1944، أي في أحلك فترات ‏الفاشية والطغيان النازي، وقدم فيها دون جوان رمزا للإنسان الذي يخوض صراعا ‏من أجل الحرية والمبادئ الإنسانية، الإنسان الذي تضطرم العاطفة في صدره، فيشعر ‏بضيق الحدود التي فرضتها عليه الكنيسة والحاكم. دون جوان هنا ليس مغامرا حسيا ‏شهوانيا، بل بطلا تراجيديا قُضي عليه بالفشل، أما الإله ـ رب عصر الباروك الرهيب ‏الذي يلوح دائما بالانتقام والقصاص ـ فهو خصمه وعدوه. ولا يخلصه من عبودية ‏الشهوة الجامحة سوى الحب الحقيقي الذي تهبه له امرأة‎.
وأضاف أن أسطورة دون جوان عرفت أيضا طريقها إلى دنيا الموسيقى، وخلدها ‏موتسارت في "دون جوفاني" "عرضت لأول مرة في براغ 1787". في هذه الأوبرا ‏جمع عبقري الموسيقى كافة أطياف التحولات التي تشهدها الروح البشرية المتوترة ‏بين أعماقها الأرضية وذراها الميتافيزيقية. وقد اعتبر الفيلسوف سورين كيركغارد في ‏مقالته "إما ... أو" (1843) دون جوان تجسيدا للشهوة في صورتها المطلقة، واعتبر ‏أوبرا "دون جوفاني" التعبير الكامل عن "العبقرية الحسية

Post: #4
Title: Re: (دون جوان):أسطورة العشق العالمي: يعيده هان�
Author: محمد عبد الله الحسين
Date: 10-23-2019, 09:25 AM
Parent: #3

وتساءل جريس: هل بقي بعد كل هذه المعالجات جديد يقدمه بيتر هاندكه في روايته ‏الأخيرة؟ ومن أي زاوية اقترب من "دون جوان"؟ وقال إن هاندكه يستهل روايته ‏القصيرة بجملة وردت على لسان "دون جوفاني" في أوبرا موتسارت: "لن تعرف مَن ‏أنا". هل روايته إذن محاولة للإمساك بملامح هوية العاشق المغامر؟ من الصفحة ‏الأولى يتضح للقارئ أن دون جوان هاندكه ليس عاشقا مهووسا بالجنس، ولا شخصا ‏متمحورا حول ذاته الذكورية. إنه بالأحرى #################### شريد، دائم التنقل، يهجر بلدا ‏ليحط في آخر. "دون جوان" هنا دائم البحث عن الوصال والتواصل. وفي أحد أيام ‏الربيع الجميلة يهبط المغامر في حديقة الراوي، وهو طباخ يدير مطعما بالقرب من ‏أطلال دير "بور رويال‎" ‎الفرنسي الشهير. قلّ رواد المطعم حتى كاد الطباخ الفرنسي ‏لا يجد ما يفعله، فأخذ يزجي أيامه بالقراءة. لكنه سئم ما يقرأ، بل سئم القراءة عموما، ‏لذا كان سروره عظيما عندما تعرف إلى دون جوان الذي راح يقص عليه حكاياته ‏ومغامراته. منحه دون جوان ما كان يبحث عنه في قراءاته: "الرحابة الداخلية ‏والاتساع العابر للحدود "، ومنح هو دون جوان آذانا صاغية. منذ الوهلة الأولى ‏نشأت بين الطباخ وضيفه الرحالة ألفة تنمو إلى حد الصداقة. يتنزهان معا، ‏ويتسامران. ثم يحكي دون جوان لمضيفه ما عايشه في الأيام السبعة الأخيرة من ‏رحلته. سبع حكايات يرويها دون جوان في سبع أمسيات عن سبع نساء، كل واحدة ‏ذات "جمال لا يوصف". ولا يخفى هنا بالطبع رمزية الرقم سبعة الذي يشير إلى ‏الكمال، فكأن دون جوان طاف العالم كله، وتعرف إلى حسناواته جميعهن‎.
وأوضح "بدأ المغامر العاشق رحلته في تبليسي بالقوقاز حيث قابل عروسا تهرب من ‏حفل زفافها لتتبعه. وفي اليوم التالي يحكي عن المرأة الدمشقية التي تفرجت معه على ‏الدراويش الراقصين، ثم عن المرأتين اللتين قابلهما في بلدة سبته المغربية التابعة ‏لإسبانيا، والمعتوهة النرويجية التي تنصرف من الكنيسة لتلقاه، والفتاة "السهلة" التي ‏يجامعها في هولندا، ثم المرأة التي يقابلها في بلد لا اسم له، ثم في بور رويال. النساء ‏كلهن يرغبن في دون جوان،

ويشبعن رغبتهن معه، ثم يفقدنه. دون جوان لا يحكي ‏للراوي تفاصيل ما يحدث في لحظات الوصال، على العكس من الخادم الذي يفيض في ‏وصف أوقات اللهو الماجنة التي قضاها مع امرأة وصُفت بالدمامة.

لم تكن الشهوة هي ‏محرك دون جوان، ولا المجون. إنه يسدد نظرة إلى امرأة، وتعرف المرأة على الفور ‏أن هذا هو فارسها. لم يكن دون جوان في يوم مغويا، إنه لم يغو امرأة، كما لم تفتنه ‏حسناء، هكذا يقول الراوي.

كل امرأة انجذبت إلى دون جوان لأنها رأت فيه ‏‎"‎سيد ‏ذاته". هذا ما تدركه مع مرور الوقت. وفي لحظات الوصال تعتبره "سيدها‎". ‎إنه ‏الفارس الذي سينقذها‎".
ورأى جريس أن دون جوان لم يخطط أبدا للإيقاع بامرأة. إنه يستمد سلطته من ‏نظرات عينيه. نظرة دون جوان فاعلة؛ ليست نظرات شهوانية، إنها تطلق شهوة ‏المرأة من إسارها، من غير أن تثير الشهوة.

المرأة تدرك عندئذ كم هي وحيدة، وكم ‏هي جميلة، تشعر بأنها أصبحت أجمل، ليس هناك أجمل منها. يستمد دون جوان ‏سطوته من الحزن أيضا؛ من الحزن على طفل ميت، هكذا يخمن الراوي،

من تماهي ‏اللحظة المُعاشة مع الأبدية، ومن حتمية الهروب الدائم. لم تكن المشكلة التي تشغل ‏بال دون جوان هي العاطفة أو الشهوة، بل الزمن. إنه يريد أن يكون سيد وقته، ولهذا ‏تنظر النساء إليه باعتباره "سيد الزمن‎".

وأكد أن هاندكه لا يقدم حكاية بالمعنى التقليدي. إنه يثير أسئلة عديدة، ويقدم تأملات ‏عن الزمن، عن الحب والموت، بل وأيضا عن روحانية العشق.

لن يستمتع القارئ ‏المتعجل بهذا الكتاب، ولا القارئ الباحث عن مواضع إباحية مثيرة. "دون جوان" ‏هاندكه تجسيد للوفاء، الوفاء للعاطفة في لحظتها.

يحطم هاندكه في روايته صور دون ‏جوان الشائعة الواضحة المعالم، ليقدم صورة غائمة عن عاشق مسكون بقلق فاوستي ‏يدفعه دوما إلى مواصلة الرحيل والبحث عن المشاعر الحقيقية‎.

وفي نهاية الرواية يقول هاندكه إن كل شخصيات دون جوان السابقة كانت مزيفة، وأن ‏‏"دون جوانه" هو الحقيقي والصادق. أم أنه يؤكد صحة الجملة التي تستهل الرواية، ‏والتي وردت في أوبرا "دون جوفاني": "لن تعرف أبدا مَن أنا"؟

Post: #5
Title: Re: (دون جوان):أسطورة العشق العالمي: يعيده هان�
Author: محمد عبد الله الحسين
Date: 10-23-2019, 10:13 AM
Parent: #4


مقطع من بداية الرواية‎
كان دون جوان دائم البحث عن شخص يصغي إليه. وعثرَ فيّ، ذات يوم جميل، ‏على ذلك الشخص. لم يروِ لي حكايته بضمير المتكلم، بل بضمير الغائب. هكذا ‏أتذكرها الآن على كل حال‎.
في ذلك الوقت كنت أطهو الطعام على نحو عابر لنفسي فحسب في المَضيَفَة، حيث ‏نزلت بالقرب من أطلال "بور رويال دي شون"، ذلك الدير الشهير سيء السمعة ‏الذي كان في القرن السابع عشر من أشهر الأديرة في فرنسا. غرف الضيوف ‏القليلة أصبحت أيضا جزءا من مسكني. قضيت كل أشهر الشتاء وبشائر الربيع في ‏ذلك المسكن، وكان ذلك لا يعني سوى إعداد الأطعمة لنفسي فحسب، والقيام ‏بالأعمال داخل المنزل وفي الحديقة. كنتُ، أساساً، أقضي وقتي في القراءة، وبين ‏الحين والآخر في التطلع من هذه النافذة العتيقة الصغيرة أو تلك من نوافذ مطعمي ‏الذي كان عبارة عن مبنى شُيدَ آنذاك لحارس "بور رويال دي شون‎". ‎
ليس أي دون جوان
منذ فترة طويلة كنت أعيش بلا جيران. لم يكن السبب في ذلك يرجع إليّ. ليس ‏هناك ما هو أحب إليّ من الجيران، ومن أن أكون جارا. لكن فكرة الجيرة فشلت - ‏أم لم تعد تساير العصر؟ على كلٍّ، في لعبة العرض والطلب كنتُ أنا مَن أخفقت‎. ‎لم ‏يعد أحد يطلب ما أعرضه كطباخ وصاحب مطعم. فشلت كرجل أعمال، مع أن أحد ‏الأشياء القليلة التي كنت أومن بها دوما هي الأعمال التي تجمع بين الناس، كلعبة ‏البيع والشراء التي تنشط الحياة الاجتماعية‎.
في شهر مايو أهملت العمل في الحديقة كلها تقريبا، ولم أكد أفعل شيئا سوى ‏مشاهدة الخضروات التي زرعتها أو بذرتها وهي تنمو أو تذوي. الشيء نفسه كنت ‏أفعله مع أشجار الفواكه التي زرعتها أيضا قبل عقد من الزمان عندما استلمت ‏منزل الحارس وحولته إلى مطعم. من الصباح حتى المساء كنت أتمشى، وأقوم ‏بجولة بعد جولة في الحديقة التي تمتد في عمق هضبة "إيل دو فرانس" حتى أصل ‏إلى التفاح والكمثرى والجوز، من دون أن أفعل أي شيء سوى الإمساك بكتاب في ‏اليد‎. ‎حتى الطهي وإنضاج الطعام لم أكد أمارسه في تلك الأسابيع الربيعية إلا تلبية ‏للعادة فحسب. بدا أن الحديقة الشعثاء قد بدأت تتعافى، بل وازدانت بمزروعات ‏جديدة مثمرة‎.
شيئا فشيئا بدأت أزهد حتى في القراءة. وفي صباح ذلك اليوم الذي أتاني فيه دون ‏جوان هاربا، كنتُ قد عقدت العزم على أن أهجر الكتب في الوقت الحالي‎. ‎ومع ‏أنني كنت في منتصف قراءة عملين يتمتعان بالريادة، ليس فقط على مستوى الأدب ‏الفرنسي، وليس فقط في القرن السابع عشر، وهما رسالة جان راسين التي يدافع ‏فيها عن راهبات "بور رويال"، والمقالة التي كتبها بليز باسكال مهاجما خصوم ‏الراهبات من الرهبان اليسوعيين. وهكذا قررتُ بين لحظة وأخرى أن أكتفي بما ‏قرأت، على الأقل لفترة ما. قرأت ما يكفي؟ كانت الفكرة التي خامرتني في الصباح ‏أكثر ضراوة من ذلك: "سئمتُ القراءة!" رغم أنني كنت طوال حياتي قارئا. طباخا ‏وقارئا. وأي طباخ. وأي قارئ. عندئذ أدركت أيضا لمَ كانت الغربان تنعق حانقة ‏في الأجواء منذ فترة وهي تفيض غضبا: هل كانت حانقة على حال العالم. أم على ‏حالي أنا؟‎
مجيء دون جوان عصر ذلك اليوم من شهر مايو عوضني عن القراءة. كان في ‏الحقيقة أكثر من مجرد تعويض. لقد شعرت بحضور "دون جوان" – وشعرت به ‏يحل محل كل أولئك الآباء اليسوعيين السفسطائيين الذين اختفوا تماما منذ القرن ‏السابع عشر، وأيضا محل، فلنقل، لوسيان لوين وراسكولنيكوف، أو مينهير ‏بيبركورن، أو السنيور بوينديا أو المفتش ميغري - وكأنه نسمة هواء مُحرِرة. وفي ‏الوقت نفسه وهبني مجيء دون جوان الرحابة الداخلية والاتساع العابر للحدود، ‏بكل معنى الكلمة، تلك الرحابة وذلك الاتساع اللذان لا تجلبهما سوى القراءة القلقة ‏‏(والمُستَنفَرَة). كان من الممكن أن يكون قد أتى غوفان أو لانسلو، أو فايرفيتس، ذو ‏البشرة المبقعة، والأخ غير الشقيق لبارتسيفال – أما بارتسيفال فبالطبع لا! أو ربما ‏أيضا الأمير ميشكين، ولكن الذي جاء كان دون جوان الذي حمل معه سمات ليست ‏بقليلة ممن يوصفون بأبطال وصعاليك العصر الوسيط‎.
هل جاء؟ هل ظهر؟ لقد سقط بالأحرى في حديقتي متعثرا، عبر السور الخارجي ‏الذي يشكل جزءا من مقدمة المَضيَفَة. كان حقا يوما جميلا. بعد صباح رمادي كالح ‏انقشعت غيوم السماء، مثلما يحدث في أغلب الأحيان في هضبة "إيل دو فرانس‎"‎، ‏وبدت السماء مصممة على أن تصفو، وتصفو، وتصفو. كان الهدوء الذي ساد فترة ‏العصر خادعا كالمعتاد، ولكنه كان سائدا على كل حال في تلك اللحظة؛ وكان ‏مؤثرا‎.
سمعت لهاث دون جوان قبل أن يدخل مجال بصري بفترة طويلة. عندما كنت طفلا ‏في الريف شاهدت مرةً صبيا، ابن فلاحين أو ما أشبه، يهرب من رجال الدرك. مرّ ‏بي فارا على طريق صاعد. لم أر ملاحقيه في البداية، وكل ما سُمع هي صيحات ‏‎"‎قف!". ما زلت حتى اليوم أرى وجهَ المُطَارد، منتفخا ومحمرا، وجسده الذي بدا ‏منكمشا، في حين طالت ذراعاه المتأرجحتان. أما ما بقي منه في أذني فكان أقوى ‏تأثيرا. كان أكثر وأقل من لهاث. وكان أكثر وأقل من صفير ينبعث من رئتيه. ولا ‏يمكن الحديث هنا عن رئة أو اثنتين. الصوت الذي أحتفظ به في أذني كان يصدر ‏أو يتطاير من الإنسان كله، وليس من باطنه مثلا، بل من سطحه، من خارجه، من ‏كل مسام بشرته. لم يصدر ذلك الصوت من هذا الإنسان بعينه، بل من مجموعة، ‏كبيرة، ضخمة، ليس فقط بالنظر إلى ملاحقيه الذين كانوا يزأرون وهم يقتربون ‏منه اقترابا ملحوظا، ولكن أيضا بالنظر إلى الطبيعة الريفية المحيطة به. احتفظت ‏في ذاكرتي بهذا الأزيز، وبهذه الذبذبات التي تدفع الطريد إلى الخروج من جحره ‏الأخير، كشيء خارق، كنبع من ينابيع القوة الأزلية‎.
ما إنْ سمعت أنفاس دون جوان، حتى وجدتُ أمامي ذلك الهارب القديم، بعيدا في ‏الأفق وقريبا جدا من أذني في آن واحد. وبدلا من صيحات رجال الدرك آنذاك،

حلّ ‏ضجيج دراجة نارية كان هديرها يعلو بإيقاع متناغم تحت ضغط دواسة السرعة، ‏وبدا أنها تقترب تدريجيا من الحديقة مجتازة كل العوائق، على خلاف الأنفاس التي ‏ملأت الحديقة على الفور، ثم راحت تنمو وتتكاثر‎.

كان السور العتيق قد بدأ يتصدع في أحد مواضعه، وكانت هناك كوة تركتها ‏عامدا، ومنها اندفع دون جوان برأسه مقتحما أرضي. وبالطبع سبقه شيء يشبه ‏الرمح أو الحربة. في شكل قوس انطلق الجسم المقذوف عبر الهواء

ثم انغرس في ‏تربة الأرض بين قدمي. رمشت القطة التي ترقد بجانبي على العشب مرة أو ‏اثنتين، ثم غفت ثانية، واستقر عصفور – أي طائر كان بإمكانه أن يفعل ذلك سوى ‏العصفور؟

- على حافة الحربة المهتزة، ثم تواصل الاهتزاز. لم تكن الحربة في ‏الحقيقة سوى عصا ذات حافة مدببة قليلا في الأمام، عصا يستطيع المرء أن ‏يقطعها من أي مكان في الغابات المحيطة بوادي "بور رويال‎".

في ذاكرتي، لم تكن لذلك المُطَارَد من قِبل رجال الدرك الريفي عينان. بدون ‏نظرات، الحدقة بيضاء شاحبة وسط الوجه الذي كان في حمرة النار، كحدقة سمكة ‏في الماء المغلي، هكذا مرق بجانبي، بالطفل الذي كنته،

وهو يدب بقدميه على ‏الأرض (إذا كان دبيب قوة، فهي آخر ما تبقى فيه). ولكن على العكس من ذلك فقد ‏رآني دون جوان الهارب. ثبت عليّ نظرة مباشرة من عينيه المتسعتين وهو يدخل ‏طائرا عبر الكوة، بجسده، ورأسه،

وكتفيه في الأمام، وكأنه عصا. ورغم أن لقاءنا ‏ذاك كان هو الأول، فقد شعرت بالألفة في تلك اللحظة تجاه هذا المقتحم. حتى دون ‏أن يعرّفني بنفسه

– الأمر الذي لم يكن في استطاعته على أي حال، أنفاسه كانت ‏عبارة عن غناء خاص فريد – كنتُ أعلم أن الواقف أمامي هو دون جوان، ليس أي ‏دون جوان، كلا، إنه هو، دون جوان‎.
‎ ‎


Post: #6
Title: Re: (دون جوان):أسطورة العشق العالمي: يعيده هان�
Author: محمد عبد الله الحسين
Date: 10-23-2019, 09:44 PM
Parent: #5


فوق