غيبوبة الفرح

غيبوبة الفرح


09-09-2019, 11:13 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=500&msg=1568067187&rn=1


Post: #1
Title: غيبوبة الفرح
Author: المعز عبدالمتعال
Date: 09-09-2019, 11:13 PM
Parent: #0

11:13 PM September, 09 2019

سودانيز اون لاين
المعز عبدالمتعال-الولايات المتحدة ، ولاية كونيتيكت
مكتبتى
رابط مختصر



غيبوبة الفرح

بلهفةٍ بالغة وصلت مطار نيويورك، طائرة الخطوط الإثيوبية الضخمة جاثية على مدرّج الإقلاع، المطار مزدحم، حالات هلع تمور في المكان، مسافرون مسرعون يحاولون اللحاق بطائراتهم، آخرون يعيدون ترتيب حقائبهم وتغليفها بالبلاستيك، أصوات مكبرات الصوت تنادي بعض الركاب، هناك شرطي يمشي بجانب كلب مدرّب، يشتم الأماكن دون نباح، تبقّت ثلاث ساعات على الإقلاع، هاجسي الدائم من التأخير جعلني اصل مُبكّراً، تأمّلت جواز سفري، وكارد إقامتي، ثمّ راجعت تفاصيل رحلتي للمرة العاشرة، نيويورك، ساحل العاج، أديس أبابا، ثمّ الخرطوم، ثمانية عشر ساعة كاملة هي مُدّة الرحلة، وأكثر من عشرون عاماً هي مُدّة التشريد والإغتراب، تأمّلت كارد إقامتي مجدّداً، شعرت بسخط مفاجئ، حزنٌ هائل يجتاح قلبي، إلى أي مدى لفظني نظام الإنقاذ البغيض، إلى حد إستخراج كارد إقامة للدخول لبلدي، ومعاملتي كالأجانب.
طفحت ذكرياتي بأعوام كثيرة من الإضطهاد والعذاب، سافرت فيها كثيراً، صافحت فيها مطارات المنافي، اليوم مزهواً بسفري، اليوم يومٌ فريد، اليوم ستعانق عيناي وطناً جديد، نظرت لساعة التلفون، بدأتْ أمواج حُلمي في الهدير، سأكون في الخرطوم صبيحة الجمعة، لديّ يوم ونصف لعناق أفراد أسرتي، قبل مساء السبت الموعود.
كالعادة إخترت مقعداً بجانب النافذة، النوافذ تفتح شهيّة التأمل، وتبعد عنّي هواجس السفر، كما كائن بدائي أكره ركوب الطائرات، أخشى التحليق، وترعبني السُحب، ربما هي فوبيا الأماكن المرتفعة تلك التي تصيبني بالغثيان كلما قررت السفر ، كلما صعدت لطائرة، ينتابني شعور بغيض بأنني سأموت من شاهق، طول المسافة من نيويورك للخرطوم تُثير هلعي، لابدّ من عبور المحيط الأطلنطي، ستة ساعات كاملة تحتاجها الطائرة لعبور المحيط، معلّق قلبي بين مطباته الجويّة وشهوة الوصول، لو سقطت الطائرة على المحيط، حتماً ستأكلنا أسماك القرش، ولو سقطت على اليابسة سترتطم بالأرض وتحترق، كأنّ قدري بين إحتمال الإحتراق، وهاجس الغرق، ثم الملل، رفيق وحدتي اللعين، يجلس أمامي، واضعاً ساقاً على ساق، يرتشف معي قهوة الضجر المسائية.
أخيراً لاحت سماء الخرطوم، تفتنني المطارات الحميمة، وجوه المضيفات الجميلة، إبتساماتهّن بطعم الكاكاو، فورمات الدخول، تكدّس الحقائب حول عجلة السير المتحرّكة، عمّال الوردية، حمّامات صالة الوصول اللعينة، ضباط الجوازات، وأختام المرور.
سألني الضابط عن إقامتي، مددتها إليه، دقّق فيها، رمقني بنظرة غريبة، قرأت في عينيه فشل الدولة العسكرية أمام دولتنا المدنية، كأنّ نظراته تومئ بمعرفته لأسباب حضوري في هذا اليوم الموعود، كأنّه يعتذر لي عن تشريدي، وعن حاجتي لإستخراج إقامة في وطني، كأنّه يطبطب على خاطري المجروح، تمنيّت تمزيق جوازي الأجنبي وإقامتي أمام عينيه، لا حاجة لي بعد الآن لإقامة في وطني، إنتفت أسباب غربتنا اللعينة، هاهو الوطن يعود إلينا ممهوراً بدماء الشهداء، وروعة الإنتصار.
غداً التوقيع النهائي على وطن جديد، غداً سنغنّي ونهتف دون خوف، غداً ستُعانق حناجرنا بهاء الفضاء، غداً تعود للمطارات إلفتها، وتعانق الموانئ ضفاف الفرح.
ثلاثون عاماً مضت من الموت والتعذيب، من الخيبة والضياع، من القمع والتشريد، من الخداع والزيف، من البؤس والشقاء. إستولى الأوغاد على وطننا، وقذفوا بنا في منافي الضياع، نُكابد مُر الغُربة، ولوعة الحنين.
إستسلمت جفوني لرغبة النوم، صحوت باكراً، لا أدري هل نمت حقاً؟ ام أنها غيبوبة الفرح، اليوم هو السبت، السابع عشر من أغسطس، 2019، قلبي معلّق بساحة الحُريّة، حنجرتي تشتهي الهُتاف، خرجتُ مع أسرتي للمواكب، نتوه من موكبنا ونلتحم بموكبٍ آخر، نتوه ولا نضيع، نمشي كأنّ الأرض تُهدْهِدنا، تسندنا الهُتافات المجيدة، تعانقنا الشوارع بذات الحنين، تفتح ذراعيها وتضمّنا بإلفة وجمال.

المعز عبد المتعال سر الختم
نيوبريتن، الولايات المتحدة الأمريكية، 8، سبتمبر، 2019