الحلم السوداني الأجمل!!

الحلم السوداني الأجمل!!


01-17-2006, 03:24 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=50&msg=1137507869&rn=0


Post: #1
Title: الحلم السوداني الأجمل!!
Author: خالد عويس
Date: 01-17-2006, 03:24 PM

حين تهادت الطائرة التي تحمل جثمانه عصر يوم شتائي حزين قبل عشرة أعوام على مدرج مطار الخرطوم قادمة من العاصمة القطرية الدوحة، كان الآلاف من عشاق أغنيات مصطفى سيدأحمد من الشبان والشابات يلوحون بصوره ويكفكفون دموعا لم تمسحها الأيام إلى غاية الآن من نفوسهم حيث بقي هذا الفنان نقشا موجعا في قلوب ملايين السودانيين.
وكان قلة من السودانيين قبل عشرين سنة من ذلك التاريخ قد بدؤوا يتعرفون إلى صوت رخيم مزخرف بالحزن أخذ يردد أغنيات سابقيه من المغنيين السودانيين ثم سرعان ما فجّر تجربة غنائية سينظر إليها تاليا كواحدة من أغنى وأعمق التجارب وأكثرها حداثة وإثارة للأسئلة الكبرى في الحياة.
واللافت في مسيرة هذا الفنان السوداني الذي أضحى اليوم رمزا ثقافيا وفكريا لدى السواد الأعظم من السودانيين، أنها شهدت تحولا خاطفا في مبتدأها من أغنيات عاطفية "عادية" كان يؤديها إنما بجزالة الصوت ذاتها، إلى محاولته الناجحة في خلق دور جديد للأغنية السودانية كحاضنة ومحفزة في آن للوعي المجتمعي والسياسي.
وحين النظر إلي تجربته حاليا على الرغم من وفاته وهو في شرخ الشباب، يتوضح أنها استطاعت أن تتجذر في الوعي الجمعي كعلامة مفاهيمية فارقة مكنت مصطفى سيدأحمد من احتلال مكانة يندر أن يحتلها مثقف سوداني استمزج الغناء في أرقى حالاته وأكثرها مخاطبة للوعي بنزعة انسانية عميقة بدت واضحة في تحديده القاطع والواضح انحيازه للأطفال ذوي الضلوع اليابسة والفلاحين والعمال البسطاء.
هذا الانحياز الذي جزم به مصطفى في أغنيات عدة، مضافا إليه الحلم الكبير الذي تملكه حتى النخاع وبثه في أغنياته كلها مخاطبا الوطن/ الحبيبة متدلها به في رمزية تباعد أغنياته عن فجاجة المباشرة، جعلته مغايرا ومختلفا وطارحا رؤية فنية حداثية شديدة العناية بالمنجزات الشعرية الحديثة والحداثية في السودان، كما أنها معنية بالقدر ذاته بطرح أسئلة جوهرية راح يحرض بها "العقل السوداني" لرسم تصور مثالي عن الوطن.
ويبدو الوطن/ الحبيبة الذي يتغنى به سيدأحمد فاتنا وحانيا وغامضا، يعسر على المرء الاحاطة بجوانب عظمته. وقدر لهذا الفنان الاستثنائي بالمقاييس كلها أن يمتلك قريحة تشكيلية وذائقة شعرية وحس ابداعي مكنته من أن ينضج مواهبه المتشاكلة استنادا إلى عامل جوهري يتمثل في رؤيته لـ"المعاناة الجماعية" التي جهد في صوغها "أغنيات نبيلة" تخاطب الهم العام وتجهد أيضا في تجميل الحياة ومنحها ألوانا أخرى اضافية.
ومن يستمع بعمق إلى أغنيات مصطفى سيدأحمد التي فاقت أربعمائة في فترة زمنية قياسية قبل أن يخطفه الموت، يتسرب إليه الاحساس بأن هذا الفنان أمتلك مشروعا متكاملا يمثل فلسفته في الحياة ويجسد منظورا انسانيا رفيعا في تلمس آلام شعب كامل. ولم يكن غريبا أن يتغنى سيدأحمد بكلمات الشعراء الفلسطيني محمود درويش والعراقي مظفر النواب والمصري حسن بيومي، متلمسا بذلك قضايا انسانية بعيدة عن بيئته. وبالحس الانساني الرقيق ذاته تغنى للمناضل الإفريقي الكبير نلسون مانديلا حين أخلي سبيله.
والرائع في هذه التجربة الكبيرة، بالاضافة لأخذها بيد عدد كبير من الشعراء الشباب ذوي التجارب الحداثية اللافتة، أنها سبقت زمانها بسنوات طويلة. وسيكون من العبث القول بإنها أنجزت فنيا بالقدر الذي كانت تمليه الظروف المحيطة خلال المرحلة السابقة، فالواضح أن مصطفى سيدأحمد حفر عميقا – للمستقبل – واستطاع أن يلهب الخيالات بصورة لانسان وجغرافيا تشكلان وطنا مدهشا كما هو حال أغنياته.


مقال منشور بمجلة "الخرطوم الجديدة" سبتمبر 2005 أعيد نشره في ذكرى مصطفى سيدأحمد