حين أصبح المتسول أكرم مني

بسم الله الرحمن الرحيم

لم يكن الصيف جاداً لحد ما في ذلك اليوم .. الواحدة بعد الظهر تماماً .. ولم تكن وجوه كل الحضور جديرة بالمشاهدة ولكن في حالة الدفار تصبح المشاهدة قسرية قبل انتظام الشماعة وبعدها ستشاهد أشياء وأشياء يعف البصر عنها .. كان زميلي في المشاهدة رجل تبدو على ملامحه معاركة الزمن وقد تجاوز السبعون من العمر تقريباً وكانت تلك الملامح تؤكده شيخاً كادحاً فتحس بأنه لم يبتسم منذ عشرات السنين شعره أبيض ليس ناصعا فيبدو أنه متشرب بالهموم مما كسر لونه أنه عصارة هموم عظيمة مرت على ذلك الرأس .. فجأة يدخل إلى الدفار أحد المتسولين الذين أصبحوا سمة هامة من سمات سوق أمدرمان ودلالة واضحة لتدهور الاقتصاد الوطني .. وكان لا يتكلم ولكنه يسمع وكان يحمل ورقة مكتوب عليها أن والده متوفي وأنه يعول أسرته ولم يكن ضعيف البنية فمد لي بالورقة من دون ركاب الدفار فقرأتها وضحكت ساخراً من الأقدار فأنا لا أحمل في جيبي سوى ما يوصلني هذا المشوار فقط بل كانت نصف القيمة لأن البطاقة الجامعية لا زلت سارية المفعول بالرغم من تخرجنا .. فقلت له مازحاً أنا أيضاً متوفي الأب وأعول أسرتي ولكني أفوقك صبراً ورددت إليه الورقة .. فتتطلع في وجهي بحزن عميق ثم أخذها ومضى الواحدة والربع بعد الظهر في ذات الدفار ولا زال واقفاً ينتظر الركاب الواقفون بعد أن ضمن عدد الركاب الجالسين .. فإذا بيد من تحت الدفار تجرني من قميصي فألتفت فإذا بالمتسول نفسه ينظر إليّ هذه المرة بفرح زائد ويمسكني من يدي ويضع لي ما يقارب الألفين جنيه وكانت معظمها من الفكة الحديد فرفضت وأعدتها له فأصر هو بأن آخذها فأعدتها .. فأصر .. فأعدتها ..فأصر .. فأعدتها وشكرته جداًً على هذا الشعور النبيل فتحرك الدفار وتحركت كل ملامح ذاك الرجل المسن في نشاط لتقل لا زالت الدنيا بخير ووصلت إلى محطتي ونزلت بعد إعطائي الكمساري ما أحمله من نصف قيمة وذهبت لتأتي الفئران من جديد وتشكو قلة الخبز في جيبي .

هل لهذه القصة أن تحدث في أي مكان آخر سوي السودان ؟
كل يوم أستكشف مزيدا من عظمة هذا الشعب
كل الخير

محمد

العزيز موديك
لا زال في الضفة الأخرى .. من لهم قامات بحجم الوطن .. وينحني الوطن أمامهم كسوفاً .. دعني أحدثك في المرة القادمة عن الزين حسين عبد الله بلال ذلك الشاب ... لا لا ليس الآن فله مساحة خاصة
حتما سأحكي للجميع عنه

و نحن بانتظار القصة علي أحر من الجمر
كل الخير
مودك