الخرطوم من المدنية إلى التريّف!

الخرطوم من المدنية إلى التريّف!


11-13-2018, 08:12 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=499&msg=1542093169&rn=0


Post: #1
Title: الخرطوم من المدنية إلى التريّف!
Author: محمد التجاني عمر قش
Date: 11-13-2018, 08:12 AM

07:12 AM November, 13 2018

سودانيز اون لاين
محمد التجاني عمر قش-
مكتبتى
رابط مختصر

الخرطوم من المدنية إلى التريّف!
محمد التجاني عمر قش
وذاك الأبيض الهادي
يضم الأزرق الصدرا
فما انفصلا ولا انحسرا
ولا اختلفا ولا اشتجرا
ولا هذي ولا تلك
ولا الدنيا بما فيــها
تساوي ملتقى النيلين
في الخرطوم يا سمرا
"صلاح عبد الصبور"
في عام 1978 انعقد مؤتمر القمة الإفريقية في الخرطوم، وكان من بين الحضور الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، وعندما نظر إلى مدينة الخرطوم من شرفة فندق الهيلتون وجال بصره في موقعها المتفرد عند مقرن النيلين قال قولته المشهورة: "هذا أجمل موقع لمدينة في العالم بأسرة". وإذا كانت الخرطوم قد ألهمت الشاعر العربي الكبير صلاح عبد الصبور بجمالها ورونقها وروعة موقعها واخضرار أرضها وحلاوة طقسها وطلاوته، فها هي ذي تأسر لب هذا السياسي الكبير بومدين، حتى عبر كلاهما عن تأثيرها في نفسه شعراً ونثراً، وقد حق لهما ذلك؛ لأن هذه المدينة من المفترض أن تكون من أروع مدن أفريقيا وأكثرها ازدهاراً لعدة عوامل وأسباب جغرافية واقتصادية وسياسية، وثقافية إلا أن ذلك قد صار حلماً بعيد المنال واضعين في الاعتبار الوضع الراهن للمدينة. وكما هو معلوم فقد تأسست الخرطوم على يد محمد بك الدفتردار في عام 1821م، لتصبح العاصمة القومية للسودان. وعند نشأتها كانت الخرطوم مستقراً لعدد من الأشخاص والأجناس والعائلات التي جاءت مع جيش محمد علي باشا حاملة معها مشاعل المدنية والتحضر مثل المصريين والأرمن والأتراك والإغريق، وغيرهم من الشعوب التي سبقتنا في مجال المدنية، إذا جاز التعبير، وجذبت الخرطوم فيما بعد بعضاً من الأسر المتحضرة من بقاع السودان؛ فتكون فيها مجتمع أقل ما يقال عنه إنه متحضر وراقي. وفي غضون سنوات قليلة أصبحت الخرطوم ترتبط بكبريات المدن في العالم مثل القاهرة وأثينا ولندن ومدن الحجاز وتأتيها مخرجات المدنية والثقافة رغداً! بيد أن الخرطوم قد تعرضت لنكسة حضارية قاسية عندما اقتحمتها قوات المهدية في عام 1885، وقتل عدد كبير من السكان، وسادت الفوضى وانقطعت الخرطوم عن التواصل الحضاري مع العالم من حولها. ليس هذا فحسب بل إن العاصمة قد نقلت إلى أم درمان وأصبحت الخرطوم ينظر إليها باعتبارها مدينة لغير المسلمين؛ وبالتالي فقدت كثيراً من رونقها الذي لم تستعيده إلا بعد سقوط المهدية ودخول البلاد تحت الاحتلال الإنجليزي المصري الذي بذل جهداً كبيراً حتى تنهض الخرطوم من كبوتها فأنشئت بها دواوين الحكومة ومؤسسات التعليم والأسواق العامرة ودور السينما والمساكن ذات التصميم الجميل والشوارع النظيفة وخصصت بها أماكن للفنادق والمنتزهات وحديقة الحيوانات ووصلها القطار وبني مطار الخرطوم، وباختصار صارت المدينة تنافس غيرها في الازدهار والتطور العمراني وظل الحال كذلك حتى بعد أن نال السودان استقلاله في عام 1956. ولهذا كانت الخرطوم قبلة سياحية لكثير من الناس من داخل السودان وخارجه، كما كانت مركزاً تجارياً رائجاً تربطها السكة الحديد والطيران بكل أطراف البلاد. ومما اشتهرت به الخرطوم النظافة والأناقة في المظهر العام والانضباط في السلوك الاجتماعي وانخفاض معدلات الجريمة والتآلف بين مكونات المجتمع التي دأبت على تبادل المصالح والمنافع بشكل حضاري شهد به القاصي والداني. يقول أحد الكتاب: (شهدت الخرطوم نمواً مطرداً منذ تأسيسها، فقد تضاعف عدد السكان 70 مرة في الفترة ما بين عامي1900 م و1990م. وبالرغم من أن الزيادة الكبيرة في سكان العاصمة ناجمة عن الزيادة الطبيعية والهجرة؛ إلا أن الهجرة أدت دورًا حاسمًا في الزيادة السكانية. وقد شهدت الخرطوم الكبرى أكبر تيارات للهجرة البشرية خلال تاريخها الحديث؛ وبخاصة في العقد ما بين 1983-1993 م). هذه الهجرات المتتالية ارهقت كاهل الخرطوم من عدة نواحي؛ عمرانياً حيث انتشر السكن العشوائي واكتظت الشوارع وضاقت المدينة بما رحبت. أما اجتماعياً، فقد تدهور المنظر العام وزحفت على تلك المدينة الراقية أنماط من السلوك الريفي حتى افقدتها كثيراً مما كانت تتمتع به من ألق وروعة، فاختفت مظاهر التمدن وسادت بدلاً عنها مظاهر التريّف للأسف الشديد! وصارت دور السينما ومكان الترفيه يسكنها الوطواط والبوم وتكسوها خيوط العنكبوت؛ إذ لم نعد نسمع عن سينما النيل الأزرق ولا الكلوزيوم ولا تلك المقاهي التي كانت يرتادها الشعراء والأدباء والكتاب ورجال السياسة، وانتشرت بدل عنها محلات تبيع "المديدة" والعصيدة وغيرها من الأكلات الشعبية! والأسوأ من ذلك، أن الخرطوم الآن هي عبارة عن "مكب" كبير للقمامة التي صارت تشوه الشوارع والأماكن العامة، وتنذر بكارثة صحية استعصت على كل الإدارات التي تعاقبت على هذه الولاية في الآونة الأخيرة. ومن حيث الوضع الاقتصادي والتجاري فقد تحولت شوارع الخرطوم وأسواقها إلى محلات يمارس فيها "جوكية" العملات الصعبة التجارة غير القانونية في رابعة النهار، الأمر الذي أدى إلى تردي الأسواق بشكل لافت للنظر. أما السكة الحديد وما كانت تحمل من بضائع وبشر، فقد عفا عليها الزمن واناخ عليها الدهر بكلكله، ومطار الخرطوم يعاني من الإهمال والتدهور المريع. الخرطوم الآن تعاني من زحف التريف ونخشى أن تتحول بمرور الأيام إلى مجرد قرية كبيرة!