في تقديري؛ يبدو المشهد السياسي السُّوداني كلوحةٍ سرياليَّة: مزيجٌ من الفوضى، والإبداع الفوضوي. العبث، والإبداع العبثي. غيابٌ واضحٌ لمفهوم الدَّولة، وحضورٌ طاغٍ للعُنف والفساد بكل أشكاله وصوره. غيابٌ شبه كاملٍ لدور المُعارضة، وحضورٌ طاغٍ لأزمة المفاهيم، والخلل التنظيمي. الفقر، الجهل، المرض، الهوس الديني (الأخلاقي) هو العنوان الرئيسي العريض لما كان يُعرف بدولة السُّودان، والتي تحوَّلت إلى محميَّةٍ بريَّةٍ طبيعيَّةٍ كبيرةٍ، تُعاني بعض أنواعها من خطر الانقراض.
07-04-2018, 10:38 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
ثمَّة سؤالٌ واحدٌ يطغى على هذا المشهد العبثي السَّاخر (ما هو البديل؟) وهو السُّؤال الذي يُؤرّق إنسان الشَّارع البسيط، ويُغضب النُّشطاء السياسيين. يعتقد كثيرٌ من هؤلاء النُّشطاء أنَّ مُعضلة البديل هذه، ما هي إلَّا مُعضلةٌ مُفتعلةٌ، تُعبّر عن روح الهزيمة، واليأس، والإحباط، ولا يُريدون التَّعامل مع هذه المُعضلة بالجديَّة المطلوبة. وإزاء هذا السُّؤال؛ فإنَّ ثمَّة إجاباتٍ تُطرح، للتعبير عن سطحيَّة السُّؤال؛ فيُقال إنَّ البديل هو (نحن) مثلًا. وقد يُقال إنَّ البديل هو أيُّ حزبٍ سياسيٍ بخلاف الحزب الحاكم، لأنَّه لن يكون هنالك أسوأ من النظام الحاكم أبدًا. وقد يُقال إنَّ البديل هو نظامٌ كاملٌ وليس شخصًا، وهذا النظام سيكون ديمقراطيًا؛ فالبديل برأيهم هو: الديمقراطيَّة.
07-04-2018, 10:39 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
ولكن يظل السُّؤال الذي لا أعتقد أنَّ أحدًا يملك الإجابة عليه: هل قوى المُعارضة الحاليَّة مُؤهلةٌ فعلًا لإقامة نظامٍ ديمقراطيٍ حقيقي؟ هذا السُّؤال لا يكتسب مشروعيته من واقع ثلاث تجارب ديمقراطيَّةٍ فاشلةٍ سابقةٍ وحسب؛ بل ومن واقع الأحزاب المُعارضة الحالي، سواءٌ واقع العمل التَّنظيمي أو واقع العمل السياسي لأحزاب المُعارضة. إنَّ الحديث عن نظامٍ ديمقراطيٍ بديلٍ، في ظل غيابٍ كاملٍ لمفهوم الديمقراطيَّة، ما هو إلَّا ذرٌ للرَّماد في الأعين لا أكثر. فهل يُصدّق هؤلاء النُّشطاء أنَّنا قادرون فعلًا على إقامة نظامٍ ديمقراطيٍ، في حين أنَّ لا شيء في حياتنا يحترم الديمقراطيَّة؛ إلَّا اسميًا فقط؟ هل سوف نستقدم حكومةً ديمقراطيَّة من الخارج مثلًا؟
07-04-2018, 10:40 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
الديمقراطيَّة ليست عملًا أو نظامًا سياسيًا؛ بل هو مبدأ. هو lifestyle، ومُمارسةٌ يوميَّة. فأن نتوقَّع خروج نظامٍ ديمقراطيٍ من عُمق مُجتمعٍ دكتاتوري بكل طبقاته وفئاته، هو مُجرَّد وهمٍ ثوريٍ لا أكثر. إنَّ سقوط النظام مع الوضع الرَّاهن للأحزاب المُعارضة، والذي لا يُمكن لأحدٍ إنكاره، وفي ظل غياب توافقٍ وطنيٍ مُدفونٍ تحت أنقاض التَّحالفات المرحليَّة غير الاستراتيجيَّة، وفي ظل تضارب الرُّؤى السياسيَّة المُضمَّنة في البرامج السياسيَّة، هو استمرارٌ لمُسلسل العبث السياسي، وامتدادٌ للدكتاتوريَّة الحاليَّة، وإعادة بعثٍ لها بثوبٍ جديد. وبالإضافة إلى كُل ما سبق؛ فإنَّ غياب الوعي السياسي، والوعي الاجتماعي؛ كفيلٌ بهدم أي مشروعٍ إصلاحيٍ ديمقراطي ما بعد سقوط النظام؛ بل سيكون نواةً لإجهاض الثَّورة.
07-04-2018, 10:41 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
قد يُوجد من سيعترض على فكرة أسبقيَّة الوعي على الثَّورة، مُتناسيًا أنَّ الوعي -في أساسه- هو أداة التَّغيير الثَّوري، فيبرز سؤالٌ أشبه بالأسئلة التي تتضمَّن أحكامًا أخلاقيَّةً مُسبقًة، واتهامًا داخلها: "هل هذا يعني الإبقاء على نظام القتل، والفساد، والعنصريَّة، لحين حصول الوعي؟" هذا السُّؤال يحمل في داخله مُغالطتين أساسيتين؛ بالإضافة إلى مُغالطة اعتبار الوعي رفاهيةً تنتج عن النظام الديمقراطي، وليست أداةً للتغيير السياسي والثَّوري، ولا أدري ما هي القيمة الثَّوريَّة التي سوف يحملها الوعي، في ظل نظامٍ ديمقراطيٍ أصلًا؟
07-04-2018, 10:42 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
على أيَّة حال؛ إحدى هاتين المُغالطتين، هي افتراض القدرة على تغيير النظام فعلًا. فمن يطرح هذا السُّؤال يُعطي إحساسًا أنَّه قادرٌ فعلًا على إسقاط النظام، وأنَّ سقوط النظام على مرمى حجر فقط، ولا يُريد للشعارات المُحبطة أن تُؤخّره عن تحقيق هدفه قريب المنال، وهذا أمرٌ غير صحيح؛ إذ أنَّ بيننا وبين سقوط النظام، ما بين المشرق والمغرب. النظام مُستمرٌ وبقاءٍ رغمًا عنَّا، والإصرار على إسقاط النظام (مع عدم القدرة عليه أصلًا) هو الذي يُطيل أمد بقاء النظام في سُدَّة الحكم، وليس شعار (الوعي قبل الثَّورة).
07-04-2018, 10:43 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
بالإمكان الحديث عن حتميَّة الثَّورة، وفاعليَّة أدوات التَّغيير السلمي: تظاهرات، اعتصامات، عصيان مدني، مُقاطعات ... إلخ، ولكن هذا الحديث لن يُفضي إلى شيءٍ؛ إلَّا إلى إنتاج ثورةٍ رومانسيَّةٍ حالمةٍ، مليئةٍ بالشعارات، والهتافيَّة. قراءة الواقع بشكلٍ صحيحٍ، يُوضح لنا مدى رسوخ النظام في السُّلطة، وتمدُّده في مفاصل الدَّولة؛ بل وتأثيره حتَّى على مستوى الوعي الجمعي. وإذا كُنَّا غير قادرين على رؤية هذا الواقع الأليم، وكيف تحوَّل النضال إلى رومانسيَّةٍ هتافيَّةٍ وشعاريَّةٍ، وأنَّ هذا النضال لم يُحرز أيَّ تقدّمٍ ولو ضئيلٍ؛ فنحن -ولا شك- بحاجةٍ إلى إعادة النَّظر في كيفيَّة قراءتنا للواقع.
07-04-2018, 10:43 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
أمَّا المُغالطة الثَّانية التي يحملها السُّؤال فهو يتمثَّل في الاستسهال، الذي يُولّده تحكَّم العاطفة في الخطاب السياسي؛ إذ أنَّ أبسط قواعد المنطق والتَّفكير العقلي، تفرض علينا فعليًا الانتظار حتَّى وجود البديل (الحقيقي). فلو افترضنا أنَّ إطارات مركبةٍ انفجرت، وتقطَّعت إلى أجزاء صغيرةٍ، في منطقةٍ صحراويَّةٍ نائيةٍ، وكان الإطار البديل غير ملائمٍ (ولكنه سليمٌ ظاهريًا)، فإنَّه لن يكون أمام قائد المركبة إلَّا أحد حلّين: فإمَّا أن يقوم بالاتصال بأحدهم ليأتي لمُساعدته، حتَّى لو تأخر مجيء هذا الصديق أيامًا. أو المُجازفة بتركيب الإطار غير الملائم على أمل الوصول إلى أقرب محطَّة. فأي الخيارين أفضل يا ترى؟
07-04-2018, 10:44 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
الحقيقة أنَّ معيار المُفاضلة هنا لا يقوم على أساس توفير حلٍ فوريٍ (ولو مؤقت)، وإنَّما على أساس توفير حلٍ جذريٍ، حتَّى ولو تطلَّب الأمر زمنًا أطول. وكما يُقال (ألم ساعة ولا كل ساعة). لأنَّ الاستعجال باستخدام الإطار غير السليم قد يُؤدي إلى تكسير الجسم المعدني، الذي يحمل الإطار، وفساد الجسم المعدني لن يُصلحه إيجاد إطارٍ جديدٍ سليمٍ، ويتطلَّب الأمر وقتًا أطول بكثير من الوقت الذي يتطلَّبه مجيء الصديق بالمُساعدة. ورغم أنَّ الإطار غير المُلائم (مُقارنةً مع الإطار المُهترئ والمُتقطّع) يبدو أفضل حالًا، إلَّا أنَّ ذلك لا يجعله مُلائمًا، ولا يجعله حلًا مثاليًا أبدًا.
07-04-2018, 10:45 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
إنَّ كثيرًا من قوى المُعارضة يطغى على طريقة تفكيرها منهج (الصباح رباح)، وفلسفة (بكرة يحلّها الحلَّال). لأنَّ تفكيرهم ليس مُنصبًا على التَّغير؛ بل على إسقاط النظام، مُعتقدين أنَّهما شيءٌ واحدٌ، وهما ليسا كذلك أبدًا. ولهذا فإنَّ من يُفكّر بالتَّغير على حساب إسقاط النظام، قد يُتهم بالتَّخاذل، وخيانة القضيَّة، وهو ما يُدخلنا في دائرةٍ ملعونةٍ من المُزايدات السياسيَّة والوطنيَّة السَّخيفة، والسَّاذجة.
07-04-2018, 10:45 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
أمَّا عن شعار ومبدأ (المقاومة السلميَّة)، والذي يتمسّك به البعض إلى حدّ التَّعصب، اعتمادًا على فزَّاعة (الصَّوملة)، فهو –كما أرى- من أهم أسباب استمرار النظام في السُّلطة. ولا أعتقد أنَّ أحزاب المُعارضة كانت بريئةً أبدًا عندما طرحت هذا الحل كخيارٍ للمُقاومة. إنَّ طرح المُقاومة السلميَّة كحلٍ لإسقاط نظامٍ عسكريٍ قمعيٍ دمويٍ، يُماثل تمامًا افتراض راهبٍ بُوذيٍ أنَّ الأفعى ستُغيّر طبيعتها، ولن تلدغه، إن هو عاملها بلطف.
07-04-2018, 10:46 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
المُقاومة السلميَّة حلٌ يتم استخدامه مع الأنظمة الديمقراطيَّة، الحكومات التي قد ترضخ فعلًا لمطالب شعوبها، وتسمع لاحتجاجاتهم، لأنَّها في الأساس موجودةٌ لخدمتهم. أمَّا استخدام أدواتٍ سلميَّةٍ مع نظامٍ قمعيٍ ودمويٍ، هو إطالةٌ لحياة النظام، مع مُحاولة الاحتفاظ بماء الوجه، طالما أنَّنا (نُقاوم) ونرفض النظام، وهذا ما نراه حاليًا، لقد أصبح مُجرَّد مُعاداة النظام نضالًا، ومُجرَّد وضع صور المُعتقلين عملًا ثوريًا. وهذه العقليَّة لا يُمكن لها أن تُحدث أيّ تغيير؛ ناهيك عن إسقاط حكومة.
07-04-2018, 10:46 PM
صديق مهدى على
صديق مهدى على
تاريخ التسجيل: 10-09-2009
مجموع المشاركات: 10318
سلامات يا عزيزي هشام وعساك طيب وشكرا لك على المقال المحفز. أتفق معك في أن التغيير أهم من إسقاط النظام. وفشل السودانيين في إحداث التغيير بعد هبة أكتوبر وبعد هبة أبريل هو السبب في فشل هاتين الهبتين. ولكني رأيتك تستبعد إمكانية مقاومة الأنظمة القمعية بطرق سلمية إذ قلت في ختام مقالك:
Quote: المُقاومة السلميَّة حلٌ يتم استخدامه مع الأنظمة الديمقراطيَّة، الحكومات التي قد ترضخ فعلًا لمطالب شعوبها، وتسمع لاحتجاجاتهم، لأنَّها في الأساس موجودةٌ لخدمتهم. أمَّا استخدام أدواتٍ سلميَّةٍ مع نظامٍ قمعيٍ ودمويٍ، هو إطالةٌ لحياة النظام، مع مُحاولة الاحتفاظ بماء الوجه، طالما أنَّنا (نُقاوم) ونرفض النظام، وهذا ما نراه حاليًا، لقد أصبح مُجرَّد مُعاداة النظام نضالًا، ومُجرَّد وضع صور المُعتقلين عملًا ثوريًا. وهذه العقليَّة لا يُمكن لها أن تُحدث أيّ تغيير؛ ناهيك عن إسقاط حكومة.
وسؤالي إليك هو: ما هو اقتراحك لنوع المقاومة؟ هل ترى أن المقاومة المسلحة هي الأجدى. وطبعا كما تعلم فإن أحد مبادئ الماركسية ينص على "العنف والقوة هما الوسيلتان الأساسيتان الوحيدتان لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع".
ياسر
07-05-2018, 00:37 AM
علاء سيداحمد
علاء سيداحمد
تاريخ التسجيل: 03-28-2013
مجموع المشاركات: 17162
Quote: وهذا أمرٌ غير صحيح؛ إذ أنَّ بيننا وبين سقوط النظام، ما بين المشرق والمغرب. النظام مُستمرٌ وبقاءٍ رغمًا عنَّا، والإصرار على إسقاط النظام (مع عدم القدرة عليه أصلًا) هو الذي يُطيل أمد بقاء النظام في سُدَّة الحكم،
تحياتى هشام آدم
وشكراً لك على هذا المقال المحفز للقراءة والاطلاع والتأمل والتفكير بالرغم من الاثباط والاحباط الذى يكتنفه ويحيط به . حركة التغيير وارادة الحياة لدى الشعوب ضد الاستبداد والقهر والطغيان وحسب معطيات التاريخ حركة عفوية وليست مخططة ومنظمة ومدروسة .. يقينى التام انّ هناك كراهية لا يمكن وصفها فى نفوس الشعب السودنى ضد البشير وازلامه ما يجعلنى ان اقول وبلا مواربه ان التغيير سيكون فى السودان بعنف شديد ودماء كثيرة . واسأل الله ان يجنب بلادنا من هذا الشر الذى يدفعه اليه البشير دفعاً .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة