Post: #1
Title: شقّة في أرض اللواء
Author: Osman M Salih
Date: 05-04-2018, 07:07 AM
هبطت به الطائرة في مطار القاهرة قبيل منتصف الليل. وعندما تسلّم متاعه من سير الحقائب ثم خرج من البوابة الرئيسية رأى بين جمع المستقبلين الغفير رجلاً قصيراً بديناً قمحي اللون مدوّر الوجه يرفع اسمه المكتوب بالحبر الاسود على قطعة من الورق المقوّى فعرف أنّه صاحب الشقّة الّذي حادثه بالهاتف ينتظره بالعربة ليأخذه إلى شقّة تقع في حيّ أرض اللواء.
انطلقت بهما العربة في سكون الليل تشقّ شوارع محفوفة بأشجار النخيل قلّتْ فيها حركة المركبات. وتسرّب إليه من نافذة العربة نسيم لطيف منعش شرح صدره بالتفاؤل حتى بانت له معالم ميدان التحرير. ومن هناك عبرت العربة النيل وهو يحدِّق من على كبري قصر النيل في سكون الماء المظلم يطلّ عليه برج القاهرة.
كان صاحب الشقة رجلاً مؤنساً ذرب اللسان، ينتقل به برشاقة من موضوع إلى موضوع فلم ينتبه وهو يستمع إلى حديثه المُسلِّي عن موسم المانجو إلى أنّ العربة قد تجاوزت حيّ المهندسين، ثم تغلغلت في منطقة شعبية انقبض قلبه لمرآها، لكنّه تظاهر بالتماسك، منتفخاً في ملابسه الصيفية، مستبعداً سوء الظنون.
طالت المسافة كأنّها دهر من القلق والتوتر والعربة تتقدّم ببطء شديد متلوّىة في أزقة ضيّقة شحيحة الإضاءة تكثر فيها الكلاب الضالة العجفاء وهي تبحث في أكياس القمامة فزاد روعه وانقطع عن الحديث.
ثم توقّفت العربة أمام عمارة قديمة كئيبة المنظر يحرس مدخلها عدد من الكلاب الضالة الّتي كان بوسعه أن يحصي عدد أضلاعها من فرط الهزال. أخذهما المصعد الكهربائي إلى الطابق السادس، ثم أدار مرافقه المفتاح في باب فانفتحت أمامهما شقة كبيرة دخلها فإذا هي مختلفة كلّ الاختلاف عن الشقّة التي راقت له صورها الّتي وصلته عن طريق الواتساب.
سلّمه صاحب الشقة المفتاح، وأخبره أنّه يسكن مع أسرته في شارع قريب، ثم مضى بعد أن اتّفق معه على اللقاء في مساء الغد ليتحدّثا في موضوع الإيجار.
في الشقة القديمة الرثّة الأثاث عصفت به الهواجس المزلزلة وركبه الهمّ والخوف من المكان الموحش فأحكم إغلاق الباب. وقضي ليلته مابين النائم واليقظان يترامى إلىه بلا انقطاع نباح الكلاب المزمجرة.
وفي الصباح الباكر خرج من الشقة حاملاً متاعه ووصل بشقّ الأنفس عبر الأزقة الضيقة المتلوية إلى الشارع العام، ومن هناك استقلّ عربة تاكسي أوصلته إلى وسط البلد حيث استاجر غرفة في نُزُل قريب من شارع شامليون. كان مجهداً فنام حتى العصر. وعندما استيقظ اتّصل عبر الهاتف بصاحب الشقة في أرض اللواء، وأخبره أنّه قد غادر الشقّة، وأنّه لايرغب في استئجارها لأنّها تختلف عما اتّفقا عليه عبر الهاتف، وسأله أن يحدّد مكاناً للقاء ليسلّمه مفتاح شقته، فطلب منه صاحب الشقة متعلّلاً بالانشغال أن يحضر المفتاح إلى أرض اللواء وسوف ينتظره أمام مدخل نفس العمارة التي قضى فيها ليلة الأمس فأخبره أنّه لايتذكّر المكان الّذي زاره مرّة واحدة، دخله ليلاً، وخرج منه في الصباح الباكر، فأملى عليه صاحب الشقة تفاصيل العنوان قائلاً إنّه مكان ظاهر يستدلّ عليه سائقو عربات التاكسي بيسر لأنّه شديد القرب من مزلقان أرض اللواء الّذي هو معلم بارز في المنطقة يصلها بشارع السودان.
قبل صلاة المغرب استقلّ عربة تاكسي أوصلته بعد ساعة إلى المزلقان والكبري الشهير الذي يتجمّع تحته الباعة الجائلون ينادون لمعروضاتهم التي تمتد من الشباشب الى سندويتشات الكبدة الساخنة وهناك أنزله السائق رافضاً الدخول في أرض اللواء، قائلاً أنّ العنوان الّذي يقصده قريب جداً، ويمكن الوصول إليه مشياً على الأقدام. عرض العنوان على أصحاب المحلّات والمقاهي وسائقي عربات التكسي والتُوك تُوك فلم يعرفه أحد.. طال به الوقوف وهو يسأل رواد المنطقة الغاصة بالخلق تارة وتارة أخرى يحاول الاتّصال بصاحب الشقّة مابين صلاة المغرب والعشاء لكنّ هاتف الأخير ظلّ مغلقاً حتى نفد رصيده للمكالمات، ودوّخه الضجيج والزحام والغبار المختلط بروائح الأطعمة الشعبية، فيئس وقرّر أن يعود إلى النُزُل إذا لم يسعفه في محاولته الأخيرة سائقو عربات الأجرة الّذين هزّوا رؤوسهم نافين سماعهم باسم الشارع باستثناء واحد منهم أخبره أنّ هذا الشارع الّذي يقصده ليس موجوداً في أرض اللواء، وإنّما في أمبابة. ثم أردف قائلاً : صدّقني، أنا سائق تاكسي في هذه المدينة لمدة تزيد عن الثلاثين عاماً.
فتعجّب، وقال في سرّه: إذا كان مايقوله سائق التاكسي صحيحاً، فأين ياترى قضيتُ ليلة البارحة؟!، ولاشعورياً امتدّت يده إلى جيبه وتأكّد من وجود مفتاح الشقة.
وحين وصل إلى النزل عاود الاتّصال هاتفياً بصاحب الشقة الذي رفع السماعة هذه المرة وأخذ يلومه لعدم المجيء حسب الميعاد، فأخبره له أنّه عائد لتوّه من منطقة المزلقان في أرض اللواء بعد أن عجز عن الوصول إلى عنوان الشقة، فاتّفقا على اللقاء ثانية في صباح اليوم التالي عند مطعم فلفلة في شارع طلعت حرب، وهو ماحدث بالفعل حيث جاء صاحب الشقة مبكّراً وهو في طريقه إلى العمل واستعاد مفتاح شقته وهو يرميه بنظرات نارية ارتعدت لها فرائصه كأنّها منبعثة من جوف جهنّم. وحين مضى كلٌّ إلى سبيله شعر بهمّ ثقيل ينزاح عن صدره بعد أن تخلّص من مفتاح يفتح ويغلق باب شقّة يقع عنوانها المطوي في جيبه في حيّ لايعرفه، ولم يبِت ليلة البارحة في إحدى عمائره المحروسة بالكلاب الضالة.
عثمان محمد صالح
|
Post: #2
Title: Re: شقّة في أرض اللواء
Author: احمد عمر محمد
Date: 05-04-2018, 08:34 AM
Parent: #1
الاستاذ عثمان صبجك الله بالعافية ياخ سرد روعة وممتع ووصف ياخذك تتلفت كانك في التاكسي والسائق يشق الازقة والكلاب تعوي والطريق مطلم والرجل مشتت الذهن من اجمل ما قرات من القصص القصيرة
تحياتي
|
Post: #3
Title: Re: شقّة في أرض اللواء
Author: Osman M Salih
Date: 05-05-2018, 06:21 AM
Parent: #2
أخي الأكرم أحمد عمر محمد ، وعليك أفضل السلام والترحاب قارئاً ممتازاً ومحفزاً لي بثنائك الطيب لهذه الحكاية المتواضعة على فعل المستحيل، على الحرث في البحر نفسه إن اقتضى الأمر، ولك في الختام تحيّاتي، عثمان
|
Post: #4
Title: Reم: شقّة في أرض اللواء
Author: نعمات عماد
Date: 05-05-2018, 08:59 AM
Parent: #3
سلام استاذ عثمان و ضيوفك
القصة جميلة و واقعية جداً رغم انها مجرد قصة.
تحياتي.
|
Post: #5
Title: Re: Reم: شقّة في أرض اللواء
Author: Osman M Salih
Date: 05-06-2018, 06:00 AM
Parent: #4
الأخت الفضلى نعمات عماد،
لكِ منّي التحيّة والشكر لاهتمامكِ المقدّر.
أنتِ مصيبة فيماذهبتِ إليه من أنّ هذه القصّة شديدة الواقعية، فوقائعها المذكورة ليست من اختراعي، بل هي ما وقع بالفعل بهذا الترتيب المعروض والخاتمة. وكلّ مافعلته أثناء الكتابة أنني انتخبت منها عناصر، وحجبت عناصر أخرى. ومماحجبته: تاريخ وقوع القصة، واسم الراوي، واسم صاحب الشقة، وعنوان الشقة. بهذا المعنى فهي قصّة واقعية، لكنها كُتِبتْ بطريقة نقلتها من لغة التقرير الجاف لما جرى إلى لغة الأدب الذي تنتفي فيه الأهمية عن تلك العناصر المهمَلة والمحجوبة.
ولكِ في الختام خالص الشكر والتقدير، عثمان
|
|