كيف يعمل العلم، الجنس نموذجا ..

***
دعني، بادئ ذي بدء، اوضح شيئا صغيرا .. يعتقد الكثيرين، و انا كنت منهم حتي قبل ان اقرأ كتاب مات ريدلي، The Red Queen، ان الجنس Sex مرداف ل "انتاج الاجنة" او زيادة النوع، حتي انهم اختاروا كلمة "تكاثر" كمرادف عربي لكلمة (Sex) في المقررات المدرسية .. و هذه ترجمة مغلوطة، او، علي افضل الفروض، غير موفقة .. فالجنس لا هو بالشرط الكافي و لا حتي الضروري للتكاثر (Reproduction) في كثير من الانواع .. مسوؤلية الجنس الاولي هي، يا سيدي، تبادل الجنيات .. فلكل فردين، الذكر و الانثي، تركيبة جينية مختلفة .. و حين يحدث الجنس و تندمج كروموسومات البيضة مع كروموسومات الحيوانات المنوي، و حين يحدث التصالب و العبور (Chromosomal crossover) و الازفاء الصبغي (chromosomal translocation ) بداخل الزايجوت المتكوّن، ينتج جنينا هجينا مكونا، ليس من جينات والدته و والده و حسب، بل و حتي من اجداده، بل و بعضا من افراد نوعه البعدين .. اذن، الجنس هو شيء نفعله، لا للتكاثر بالضرورة، بل للحصول علي جينات الاخرين .. فاما ان نُقحم هذه الجينات الجديدة في جينومنا الذاتي (كما يحدث في البكتريا مثلا) او أنْ نُمرِّر ما حصلنا عليه الي الجيل القادم .. في كثير من الانواع يحصل التكاثر بعد الحصول علي جينات الشريك مباشرة (اي بعد الجنس)، و في انواع اخري ليس هناك نمط و لا وقت محدد لحدوث التكاثر .. فالبكتيريا قد تحصل علي جينات غيرها (اما عبر اعضاء تناسلية او عبر الابتلاع)، ثم تمضي ممارسة حياتها اليومية و لا تتكاثر الا لاحقا ..
***
لاحظ العلماء ان التكاثر عن طريق الجنس عملية مكلفة (مقارنة بالتكاثر اللاجنسي Asexual reproduction) .. فالتكاثر الجنسي لا يُجشِّمنا عناء البحث عن شريك و حسب، بل و عناء استرضاءه و الحصول علي موافقته (و هذه عملية غاية في الصعوبة، ما يفسر نسب العنوسة العالية هذه ) .. و كان كل هذا محفزا لان يسأل العلماء انفسهم سؤالا: ما فائدة الجنس اذن ..؟.. لماذا تحولت بعض الانواع، ان لم يكن اغلبها، من التكاثر اللا جنسي الي التكاثر الجنسي ..؟
***
العلم يعمل كالاتي: يكون هناك ظاهرة (الجنس في حالتنا هذه)، يضع العلماء الفرضيات المختلفة لتفسيرها، يقوم ايا منهم بعمل توقعات Predictions بناء علي فرضيتيه (كأن يقول: لو كان فرضيتي هذه صحيحة، فاننا سنلاحظ كذا و كذا) .. ينطلق بعدها ليجمع ادلة امبيريقية يدعّم بها فرضيته (ليري ما اذا كان توقعه الذي وضعه سيتحقق ام لا) .. فاما ان ينجح في الحصول علي تلك الادلة، و تتحول فرضيته -بالتالي- الي نظرية او يفشل و تبقي فرضيته علي ما هي عليه: مجرد فرضية .. في حال انه نجح، فانه سيتم امتحان فرضيته (التي تحولت الان الي نظرية) بمزيد من الاختبارات، و ستتعرض للكثير من محاولات التكذيب .. اذا نجحت في كل ذلك (او علي الاقل نحجت فيه اكثر من منافساتها)، فانها ستتحول الي "حقيقة عملية".***وُضعت فرضيات كثيرة لتفسيرة ظاهرة الجنس (اي للاجابة علي السؤال: لماذا تخلّت كثير من الانواع عن التكاثر الجنسي و تحولت الي اللا جنسي ..؟) .. و سأتناول هنا فرضيتين (لسهولتهن):١. فرضية "ضغط التغيرات" و٢. فرضية "ضغط الطفليات" ..
***
تقول الفرضية الاولي ان الانواع تتحولت الي التكاثر الجنسي لان الظروف الايكولوجية (البيئية) تتغير بإستمرار .. و عليه، ان كان لذريتك ان تبقي و تعيش (او علي الاقل بعضا منها)، فانه لمن الافضل لك ان تحصل علي ذرية يختلف افرادها، جينيا، عن بعضهم البعض .. الجنس، لما فيه من خلط للجينات و تنويعٌ لها، سيضمن لك ذرية متعددة المقدرات و الاستعدادت .. فمنهم من سيكون مجهز، مثلا، للظروف الصحراوية، و منهم من سيكون مجهزٌ للظروف الجليدية، و منهم من سيكون مستعد لان يعيش في قمة جبل ... الخ .. اما ان اعتمدت علي التكاثر اللاجنسي، فكل افراد سلالتك سيكونون نسخة طبق الاصل منك .. و بهذا، فانهم ان لم يصادفوا البيئة المناسبة، فانهم سينقرضون جميعا و ستكون خسارتك فادحة .. الامر اذن اشبه باليانصيب: الافضل لك، إن اردت الفوز، أن تشترِ ثلاث بطاقات بارقام مختلفة، من ان تشترِ الف بطاقة بنفس الرقم ..
***
ما تقول به الفرضية الثانية لا يختلف كثيرا عن هذه الفرضية .. فقط قم بتبديل "الظروف البيئية" ب "الطفليات" .. الافضل لك ان تنتج سلالة بتركيبة جنية منوّعة (حتي، ان كنت محظوظا، ينجو بعضها من الطفليات)، و ذلك عبر الجنس، من ان تنتجها كلها نسخة طبق الاصل منك (مثلما يحدث في الاميبا التي لا تمارس الجنس اطلاقا )، فتنقرض كلها ما اذا صادفها الطفيل "المناسب" ..***الان لدينا الفرضيات، لننتقل الي مرحلة التوقعات ..
***
قام عالم يدعي Curtis Lively بعمل صياغة هذه التوقعات، واضعا "القواقع" موضوعا لاختباراته (لان القواقع يمكن ان تتكاثر بالطريقيتين: الجنسية و اللا جنسية):تثمثل المياة الجارية، بعكس المياة الراكدة، ضغطا بيئيا عاليا لانها متغيرة باستمرار و "جارية طواااالي"، و قد تدفع الكائنات التي تعيش فيها الي ظروف بيئية محتلفة و غير متوقعه .. الان، لو كانت فرضية التغيرات البيئية صحيحة، فانه يجب ان نلاحظ زيادة في عدد الذكور في مجموعة القواقع التي تعيش في المياة الجارية، الامر الذي يؤكد ان تلك المجموعة تتكاثر -بالفعل- جنيسا (اذ لا وظيفة للذكر، في القواقع، سوي منح جيناته عبر عملية الجنس)..اما ان كانت فرضية الطفليات صحيحة، فاننا يجب ان نلاحظ الاتي:يجب ان نلاحظ زيادة في عدد الذكور في مجموعات القواقع التي تعيش في المياة الراكدة (البرك) .. فالمياة الراكدة، بعكس الجارية، تعتبر مرتعا للطفليات، و زيادة الذكور، كما قلنا، تعني ان هذه المجموعة تتكاثر جنسيا .. هذه هي التوقعات ..
***
الان، كلما ينبغي علي العالم المذكور فعله هو ان يذهب الي مكان غني بالقواقع، المجاري و البرك .. و قد وجد ضالته في نيوزلندا .. و بصبر بالغ، و بأسلوب احصائي معقد، قام بعدِّ الذكور في مجموعتي القواقع .. خمنوا ماذا ..؟
***
اتَّضح أنّ عدد الذكور في المياة الراكدة اكثر منه في المياة الجارية .. اذن، الجنس ليس لمجابة الظروف المتغيرة، بل لمقاومة الطفليات .. و هذا منطقي ..فالبنسبة للكائن الحي، مشكلة الطفليات اكبر و اجلّ من مشكلة التغيرات البيئية .. فإحتمال ان نموت، انا انت، بفعل كائن حي (فايرس مثلا) أكبر بكثير من ان نموت بسبب زلزال او بركان أو جفاف أو تصحُّر..***تحولت فرضية "ضغط الجراثيم" هذه الي نظرية تعرف الان بنظرية الملكة الحمراء Red Queen Theory .. و لهذا الاسم قصة ادبية شيقة.

شكرا عواد على هذه المثاقفة المفيدة ..
ومرحبا بك ناشطا بما يفيد المعلومة في المنبر..
لو احسنت الفهم فكأن الدراسة تقول أن الدافع الأقوى للجنس ..
هو حماية النوع نفسه من الطفيليات والحفاظ عليه..
بجسبانها الأكثر تدميرا للحياة ..
لعل النظرية تاتي متسقة مع نظرية الاصطفاء الطبيعي ..
ولكن مثل هذه الدراسات تهمل جوانب أخرى قد تفتح الباب للتساؤل ..
مثلا / هنالك خصائص أو دعني أقول كيمياء باطنية أو ظاهرية ..
تساعد الكائن في إجراء عملية التفاضل في التزاوج بالاضافة لما جاء في الدراسة ..
بتوضيح أكثر هنالك بعض الأنواع يقوم الذكر أو الأنثى بادوار حركية معينة تجذب الآخر للتزواج ..
من خلال حواسه الظاهرية كالشم أو الصوت أو حركات الجسد وقوته..الخ ..
السؤال أين موضع هذه الخصائص المشاهدة في ما يتعلق بدوافع الحفاظ على الجنس؟

الوجيه الدكتور عوّاد التحايا والأشواق وسعيد بوجودك في سودانيز أون لاين وسعيد بمشاركاتك العلمية الرصينة التي لا تقف فوائدها عند المختصين فحسب بل تتجاوزهم إلي العامة أمثالنا فنستفيد منها غاية الإستفادة آمل أن تتيح لك ظروف عملك الضاغطة في المستشفي في مواصلة رفد المنبر العام بالجديد والمفيد