جَمَّة عبد الماجد

جَمَّة عبد الماجد


10-11-2016, 09:55 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=490&msg=1476219330&rn=1


Post: #1
Title: جَمَّة عبد الماجد
Author: حسين أحمد حسين
Date: 10-11-2016, 09:55 PM
Parent: #0

08:55 PM October, 11 2016

سودانيز اون لاين
حسين أحمد حسين-UK
مكتبتى
رابط مختصر

جَمَّة عبد الماجد (قصةٌ قصيرة)

كان عبد الماجد شديدَ الإهتمامِ بأناقتِهِ ونظافتِهِ لدرجةِ الهوسْ. ما رأيتُ أطيبَ منه نفساً، ولا أرفعَ منه ذوقاً وحساً، ولا أكثَرَ منه تبسُماً، وبه من الظُّرفِ ما يُضحكُ بيتَ عَزَاء. يمشى على الأرضِ بخفةِ عُصْفور، ويسلكُ سبلَ الجمالِ فى كل شئ، وخمرُهُ فى الحياةِ الوَنَسْ.

قامتُهُ تتوسط الطول والقصر، به انحناءةٌ واحْدِوْدَابْ، بخديه شُلوخٌ، عُمقُها يُوحى بما يؤول إليه حالُ البلد فيما بعد خليل فرح. يعمل بنَّاءاً بمؤسسة الرى والحفريات. إذا رأيته خارج محيط العمل، فإنَّك لا شكَّ عادَّه من رجال السلك الدبلماسى.

منبتُ الرجلِ هو حى البساتين بنواحى شمال السودان كما تقول الذاكرة الجماعية هناك. وهو من أُسرة كريمة الأرومة، عزيزة النّسب، تعيش فى متوسطِ حالٍ يتداعى نحو الفقر فى علاقة طردية مع فسادِ الحكام. غير أنَّ تلك الأُسرة غنيّةُ النّفس، وقادرة على صناعة الحياة مهما أحاط بها من تعاسة وبؤس.

عاش عبد الماجد حياته متنقلاً مع أُسرته بين كلٍ من حى البساتين والخرطوم وكوستى و مدنى وحلفا الجديدة. وذات مرة، جاء إلى مسقطِ رأسه، وكان نسيبه الحَبوب على قيد الحياة. قضى عبد الماجد كلَّ عُطلته السنوية بحى البساتين لأنّه كان يتوقع مولوداً. رُزِقَ عبد الماجد بإبنٍ رابع، فسماه محمد العاقب. ولعلّ من دلائل تواجده الدائم بمواضعِ الجمال، أنَّ كل أسماء أولاده مركبة من إسمِ نبيِّنا الجميل محمَّد "صلى الله عليه وسلَّم". فله محمّد المُقفى، محمّد الحاشر، محمّد الماحى وأخيراً محمّد العاقب. ما رأيتُ بينهم بخيلاً ولاعابساً قط، ويُشهَدُ لهم بالتُقى والصلاح. إذا صادفتَ أحدَهم فإنَّه يحتفى بك أحتفاءاً ويقدرك ويجلُك، ولا يدعك حتى تدعه. يملئونك بالغبطةِ والفرح. هذا البيتُ، بيتُ السُّرور.

قبل ثلاثة أيام من انتهاء العطلة، أخطر عبد الماجد أهله أنه سوف يرجع هذه المرة من دونهم. وما أنْ تكملَ الزوجة "أربعينها"، سوف يأتى ليأخذهم إلى الصعيد؛ سافر إذاً لوحده. لكنّ أربعيناً فى أربعينْ، لم يأتِ عبد الماجد لأخذِ أُسرته من حى البساتين، ولم يرسلْ لهم المصاريف. هذا الأمر أقلقَ النسيبَ قلقاً مبرراً على أوضاعِ إبنته، وتحرى الأمر معها، فأخبرته بما قال عبد الماجد، وأردفتْ قائلةً: الغائب له أعذاره.

لم يكن ذلك كافياً ليدرأَ عن النسيب القلق، وما أقلقه أكثر أنَّ عبد الماجد توقَّفَ عن إرسال المصاريف. غير أنَّ المصاريف فى حد ذاتها لم تكن المشكلة؛ فالنسيب قادر على تحمل إبنته بِعِيَالِها لأىِّ فترةٍ كانت. ولكنّ النسيب رأى فى انقطاعِ المصاريف انقطاعِ الصلةِ والعشرةِ، ولربما دخولِ امرأة جديدة فى حياة صهره نتيجةً لتقصير إبنته؛ فهذا مبعثُ قلقه. فهمَّ الرجل فى طلبِ صِهْرِهِ ليعرف السبب منه بنفسه.

يمَّمَ الحبوبُ شَطْرَ مدينةِ ودْ - مدنى، حيث كان يعمل عبد الماجد. ركبَ لورى الخواجة لمعى أندراوس البدفورد فى يوم الأربعاء فأصبح فى أُمدرمان خميساً، ومن ثمَّ إلى ودْ مدنى من الميناء البرى بالخرطوم تلاتة، فوصلها يوم الجمعة بعد الظهر. فبعد سؤالٍ هنا وسؤالٍ هناك، إهتدى النسيبُ إلى مكان إقامة الصهر. فحين وصل الحبوب إلى عبد الماجد بحى مايو- طَرَفْ استقبله استقبالاً منقطع النظير واحتفى به كالعادة وأكرمه أيَّما إكرام (حالُ النسيبِ إذا نزلَ به نسابتُهُ)، ثمَّ أخذ النسيبُ قسطاً من الراحة والنوم.

وحينما استيقظَ الحبوب، وجد كوكبةً من أبناء منحنى النيل، جُلُّهم من حى البساتين، يتحلقون حوله، يسألونه عن أحوال الناس بالقرية، ويسألهم عن أحوالهم الواحد تلو الآخر. حتى إذا ما جاء الدور إلى سؤال عبد الماجد، استوى النسيبُ الحبوب جالساً من إتكاءته، تنحنحَ ثمَّ قال لعبد الماجد وسط ربعه بتلقائية القروى القح: مالك قاطع الخبر يا ودَّ اخُوىْ؟ ليك ستة شهور، لا سألتَ عن أولادك، ولا أرسلتَ لهم مصاريف. هل إنتَ طلقتَ زوجتك؟ فقال عبد الماجد : لا يا عمى الحبوب لم أُطلقها. فسَرَتْ فى النسيبِ طمأنينة أتْرَفَتْ وجهَهُ بالوقار.

تململ البعضُ وهمَّ بالإنصراف، ليجعلَ الحوارَ بين النسيبِ والصهرِ فى شئٍ من الخصوصية، إلاَّ أنَّ الحبوب أقعدهم، ثمَّ استرسل قائلاً : هل إنت زعلان من زوجتك؟ هل قصَّرتْ بنتى فى حقك لا سَمَحَ الله؟ فقال عبد الماجد: حاشى لله يا عمى، لم تفعل (ولأِنْ قال فعلت، فقد قامتْ قيامتها). هنا أرخى النسيبُ عَصَبَه، لكنه تحول إلى كتلة من الترقب لمعرفة السبب، وأردف سائلاً : إذاً ما الأمر يا عبد الماجد؟ ماذا دهاك يا رجل؟ فقال عبد الماجد لنسيبه الحبوب بعفويةٍ وصدقٍ طفوليين، وعلى نحوٍ لم يتوقعه منه أحد : دَارْ آخُدْ لِ جَمَّةْ يا عمِى الحَبّوبْ.

ضحك الحضور ضحكاً لا هوادةَ فيه، وسرعان ما تحولتْ جِلسةُ التوبيخِ تلك إلى منادمة بين الصهر والنسيب. والكل يضحك ويستغفر ويقول: اللهْ يَجَازيك يا عبد الماجد. لكنَّ اللهَ قد جازى عبد الماجد بأنْ جعله، حاضراً كان أم غائباً، فاكهةَ كلِّ المجالس التى ينتمى إليها، وخفيف الظلِّ على واقعه الذى يعيشُ فيه ولم يستثقله أحدٌ فى حياته.

أما النسيب وهو فى طريق عودته إلى حى البساتين، فتارةً يضحك لقول عبد الماجد، وتارة يأخذه الهاجس بأنَّ هذه الإستجمامة ربما تتحول إلى إمرأة أُخرى. كان النسيب حين يضحك وهو يكلم نفسه يسأله الناس من حوله عن سبب ضحكه، فيخبرهم عن جمَّة صهره عبد الماجد؛ فيضحك ويضحكون. وهكذا كلما استجمَّتْ العربة التى يركبها فى مكان ما، حدَّثَ الناسَ عن جمَّة صهرِه، إلى أنْ وصل إلى أرض السخرية، حى البساتين بمنحنى النيل.

فى البدءِ أخطرَ صاحبة الشأن بما قال زوجها، غير أنّها لم تضحك لجمَّةِ زوجها. إذْ سرعان ما انصرفَ عقلُها إلى هاجسِ أبيها، وبدأت تلاحقُ زوجها بأنْ يأتِ ليبلَّ رَحِمَ أرضه البور، بزراعة بعض الفسائل. كان ذلك مخططها لتبديد الأموال التى تراكمت أباَّن تلكم الجمَّة الشهيرة. ولعلَّ، والله أعلم، الرجلَ كان يريد أنْ يبلَّ رحماً من نوعٍ آخر.

على أية حال حين أخبر الحبوب رجال المسيد بمقولة صهره وقت صلاة الصبح، ضحكوا ضحكاً مجلجلاً حتى نقضوا وُضوءَهم. ومن يومها، ما تأخرتْ ماهية، وما ألقى صهرٌ بِحِمْلِهِ على نسيب، فى منحنى النيل إلاَّ وذُكِرَتْ جَمَّةُ عبد الماجد.

Post: #2
Title: Re: جَمَّة عبد الماجد
Author: حسين أحمد حسين
Date: 10-12-2016, 10:22 AM

تُرى هل يعود رأس المال الإجتماعى هذا إلى السودان مرة ثانية بعد أن أزهقته الإنقاذ البئيسة، والقانون الماثل فى حياتنا هو "كل عامٍ ترذلون"؟ هل سنترك أطفالنا لضباع الإسلام السياسى والنيوليبرالزم دون أن نفعل شيئاً؟

Post: #3
Title: Re: جَمَّة عبد الماجد
Author: حسين أحمد حسين
Date: 10-13-2016, 00:12 AM
Parent: #2

إذاً بحق، لقد ذهب ذلك الرأسمال الإجتماعى إلى غير رجعة.

Post: #4
Title: Re: جَمَّة عبد الماجد
Author: حسين أحمد حسين
Date: 10-14-2016, 11:28 PM
Parent: #3

يا أبو النَّسب: تِتْعشى ولاَّ تنام خفيف.