الآن وبعد أن هدأت الضجة، قليلا، حول الحوار ومن شاركوا فيه، نعود لنلاحظ أن النظرة للحوار تكاد تكون نظرة دينية، وأن الدعوة له والتنادي عليه من قبل المشاركين يماثل تنادي الناس لأداء فرض أو شعيرة من شعائر الدين. حين أداء طقس ديني ينسد باب التفكير في أصل الطقس وبداياته.. كيف فرضت الصلاة وكم كان عدد الركعات في كل وقت مثلا؟ كانت النغمة الدائمة المصاحبة لدعوة الحوار التي وجهتها الحكومة هي "الحوار بمن حضر" لتترك لنا فرصة استيحاء أن من لم يستجب ولم يحضر كمن قصر عن اداء فريضة أو شعيرة. هو ذات الأمر الذي تبناه ما سمى نفسه وفد المنافي الذي جاء للسودان كالمستجيب لواجب مقدس وكأن الحوار مقصود لذاته والتواجد فيه هو الهدف الأسمى المقصود ومن حضره فقد نال شرف "الوطنية". استخدام مفردة الوطنية هنا يحقق مبدأ قسمة الناظرين للحوار بين وطنيين حادبين على مصلحة الوطن ومناهضين للحوار وبالتالي لمصلحة الوطن. النظرة تجاه الحوار كأمر متسامي تغفل أشياء كثيرة أولها أن هنالك وضعية يحفها كم من الكوارث والمشاكل ما يستدعي الحوار. ثانيها أن المتسبب في هذه الكوارث والمشاكل والمسئول عنها، هو ذاته من يعمل على إخراج مسرحية الحوار ويحدد الادوار ويكتب النص، وثالثها أن للحوار متطلبات وأرضية لا بد من توفرها وأطراف مشاركة يفترض فيها أن تمثل الطيف الاجتماعي والسياسي بشكل أصيل وليس بما تيسر من أفراد وجماعات لا تتفق بينها ناهيك عن تمثيلها لإجماع سياسي أو شعبي ما. الحوار ليس مفردة جامعة ولكنها عملية لها تعقيداتها وأطرافها ومناخها المحيط وهي مسائل تم تجاهلها ودفعها للخلفية بتقديم سؤال من يشارك في الحوار ومن يرفض؟ ثم أن الحوار غير التفاوض. الأطراف المتحاربة، المتناحرة، تتفاوض من أجل الوصول لحل يرضي الجميع. والحل يتطلب تقديم تنازلات من قبل الأطراف المتفاوضة. أما الحوار فيتطلب قدرة اصغاء وإلى اهتمام بالطرف المحاور وفهم دوافعه وتصوره للأشياء كما هي وكما يجب أن تكون عليه. لا يحدث ذلك إلا في جو من الوئام بين الأطراف المتحاورة، والثقة أيضا في حسن المقاصد والنوايا لدى كل طرف. الحوار يؤسس لما هو مشترك بين الفئات والأطراف كلها. المشترك هنا مصلحة عامة وتطلع لما هو أفضل. لا أعتقد أنه يمكن دعوة طرف يحمل السلاح للحوار.. بالكيفية التي رأينها بتمثيل مجموعة مهولة لفصائل قيل أنها تحمل السلاح ضد النظام وتجلس على مائدة الحوار (36 فصيلا بحسب بعض الأرقام التي صادفتني). الأولى هنا هو التوصل لسلام عن طريق التفاوض يؤدي لإلقاء السلاح ومن ثم الدخول في حوار من أجل تحقيق سلام مستدام ووئام اجتماعي ينزع فتيل الأزمة على المدى الطويل. لذا أعتقد أن الحركات الرئيسية الحاملة للسلاح لم تكن طرفا في مثل هذا الحوار. من ناحية مشروعية الجهة الداعية للحوار نرى أن النظام قد أخل بأي عقد له تجاه المواطن الذي يحكمه. لا نود نقاش تفصيلة أن النظام جاء عن طريق انقلاب عسكري وبالتالي لا مشروعية له. لنفترض أنه جاء عن طريق انقلاب وأنه حظي بقبول شعبي سمح له بالتحول إلى أمر واقع.. يتوقع المرء هنا أن يعمل النظام على رد جميل هذا القبول الصامت أو حتى الاستسلام الشعبي، وذلك بحماية تراب البلد وحدوده، توفير الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وأمن.. هذا ما يفعله مستبد عادل على الأقل، وهي المسائل اللازمة لتحقيق الرفاه والتنمية الاجتماعية والاقتصادية. لم يفلح النظام في الحفاظ على هذه الخدمات كما ورثها من النظام الديمقراطي الذي انقلب عليه وسلك سياسات أدت لهدم كل هذه الخدمات والحقوق والمكتسبات من أساسها. ليس ذلك فحسب بل تحول النظام لقتل شعبه بدلا عن توفير الأمن له ليفقد بذلك أي مشروعية له في ادارة الدولة، فكيف يكون هو الجهة الداعية لحوار يحقق الوئام الاجتماعي والاستقرار السياسي على المدى الطويل. ومن الذي يقبل بدعوة مثل هذا النظام ويأخذه بجدية رغم أوزاره التي لا تخفى كراعي لحوار يؤدي لهذا المقصد النبيل؟ جاهل، ساذج، متواطئ أم مستفيد؟ الحوار (كمفردة أو مفهوم نحته نظام البشير) وأغرى الناس بالتعامل معه كمفردة وليس كـ (اجراء) وتنفيذه بهذه الطريقة يشهد على جزئية افلاح النظام في خلق خطابه وترويجه وادماج الكثيرين فيه. قبل الحوار كانت هنالك (الوثبة ) التي كانت مثار تندر في الأيام الأولى ولكن سرعان ما تحولت لمفردة عادية لا يتساءل الناس عن مراميها أو معناها لتنصب نفسها كمفهوم (نقلت الأخبار تمديد الوثبة لأجل غير مسمى). الوثبة تكون للأمام، للأعلى، أو لاختصار مسافة بين نقطة وأخرى ولكن الشواهد لا ترينا أي تقدم أو تجسير مسافات في سياسة النظام وسلوكه اليومي. تماما مثل أن تقول جمهورية الواقواق الديمقراطية في بلد لا تحمل طبيعة نظامه أي قدر من الديمقراطية، وكما سمى القذافي في السابق بلاده : الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، التسمية التي سخر منها أحد كتاب الأعمدة بتسمية الجماهيرية: بلاد التفاح الأحمر اللذيذ المقشر المغذي. من ناحية المدعوين للحوار يتوقع المرء تمثيل أجسام اجتماعية أو منظمات مجتمع تمثل فئات المجتمع المختلفة سواء كانت شواغلها اجتماعية، مهنية، أو حقوقية .. الخ، يتوقع المرء ايضا اشراك احزاب سياسية تمثل قواعدها وتملك تفويضا بذلك، أو شخصيات عامة ذات تأثير ويجمع الناس عليها حالة كونها رمز يقتدى أو لحكمتها وتجربتها العريضة.. ولكن اشراك شخصيات مهارتها الأساسية توجيه السباب للناس بشكل جماعي يفضح مقاصد الحوار ويفضح دوافعه لمن يعقل. ختاما إن كان ثمة اجتماع في مكان ما وسمع الناس ضجة في الفناء الخلفي اثر شجار وعراك، يتوقع المرء انفضاضهم لاستكشاف جلية الأمر.. ولكن أن يستمروا في جلستهم والمضيف الداعي يقتل أهل داره، فيندرج تحت مسمى الكوميديا السوداء، وأحداث الجنينة مثال ناصع على ذلك.
01-14-2016, 02:59 PM
مني عمسيب مني عمسيب
تاريخ التسجيل: 08-22-2012
مجموع المشاركات: 15691
موضوع في جرح .. وحا ابني عليه ركايز افكاري عن الحوار .
Quote: الآن وبعد أن هدأت الضجة، قليلا، حول الحوار ومن شاركوا فيه، نعود لنلاحظ أن النظرة للحوار تكاد تكون نظرة دينية، وأن الدعوة له والتنادي عليه من قبل المشاركين يماثل تنادي الناس لأداء فرض أو شعيرة من شعائر الدين
كلام مواقع ومنطق موزون .. وصدقآ لي كلامك الحوار اخذ مأخذ القدسية من قبل بعض الناس ليجعلوه كما سميت شعيرة من الشعائر ... حتي اصبحوا يهللوا ويكبروا كل ما ذكرت كلمة الحوار !
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة