الخيال والتخيل في الرواية

08:36 AM Feb, 09 2015
سودانيز أون لاين
هشام آدم -
مكتبتي في سودانيزاونلاين



* هذا المقال هو أحد مقالات كتاب الهرطقات

هنا سنحاول مناقشة هذين المصطلحين، بغرض تفكيكهما والتفريق بينهما؛ حيث أنَّ الفارق بينهما كبير جدًا، ولكنه في الوقت ذاته غير واضح، إلى الحد الذي يسمح لنا بالفصل بينهما أحيانًا، لأنهما متداخلان بصورةٍ معقدةٍ للغاية، وسوف تتضح الصورة بشكلٍ أكثر جلاءً في هذا المقال. دعونا نبدأ الأمر من تصنيفات دور النشر العربية أو حتى غير العربية، التي تنزع غالبًا إلى تصنيف إصداراتها إلى نوعين أساسيين:
1- إصدارات أدبية Fictions
2- إصدارات غير أدبية Non fictions

على أنَّ الكتب غير الأدبية قد تكون أي إصدارٍ لا يتضمن محتواه أو متنه -بشكل رئيس- على جنسٍ من أجناس الأدب المعروفة من شعر أو رواية أو مجموعةٍ سرديَّةٍ قصيرة (روايات قصيرة) أو أدب رحلات، أو أنطولوجيات أدبية(1)، أو أي جنس آخرٍ مما يُمكن أن يندرج تحت تصنيف العمل الأدبي، الذي يمتاز بدوره بالخيال الأدبي Fiction؛ فالكتب غير الأدبية، على ذلك، هي ما لم يحمل متنها سمة الخيال الأدبي، ولهذا فإنها توصف عادةً بأنها غير أدبية Non Fiction: كالكتب العلمية، والفكرية، والفلسفية، والتربوية، والتاريخية؛ بل وحتى بعض الكتب الأدبية، ككتب النقد الأدبي، وكتب التراث الأدبي؛ وما إلى ذلك. وإذا حاولنا أن نبدو أكثر دقةً في توصيف الكتب الأدبية، والكتب غير الأدبية؛ فإننا لن نجد أدق من وصف الأولى بالذاتية، والثانية بالموضوعية؛ فالعنصر الذاتي والموضوعي هو ما يفصل بين هذين النوعين من الكتابات، بحيث يمكننا فعلًا أن نصف كتابًا يتناول الأدب أو أحد موضوعاته بأنه ليس كتابًا أدبيًا، ببساطة لأنه ليس عملًا أدبيًا، أي لا يتمتع محتواه بالخيال الأدبي؛ بل هو كتاب يتناول الأدب بشكل منهجي وأكاديمي وموضوعي أو كسرد تاريخي. وفي هذا الإطار فإنَّه تجدر الإشارة إلى الفارق بين أدب السيرة الذاتية والتراجم؛ فعلى الرغم من أنَّ كلاهما قد يندرجان تحت تصنيف (سيرة - Biography)؛ إلا أنَّ تناول سيرة الآخرين يتحرى الموضوعية في نقل سيرة الأعلام، بحيث لا يُقحم المؤلف انطباعاته الشخصية فيما يذكره أو ينقله عن حياة الأعلام، بينما من يكتب عن نفسه، فإنَّه –بالضرورة- ينقل لنا انطباعاته وآراءه الشخصية عن الأحداث الموضوعية التي مرت به. فلو كتب أحدهم سيرةً ذاتيةً عن نفسه، ووصف فيها أحداث حرب الخليج الثانية(2) مثلًا، كجزءٍ من تاريخه الشخصي، فإننا سنظل نعتبر سرده عملًا أدبيًا، ليس من حيث أنَّه يمتاز بالإبداع الأدبي، ولكن من حيث أنَّ ناقله يُعبِّر عن رأيه الشخصي حول هذه الأحداث أو بمعنى آخر: كيف رأى هذه الأحداث. وبمجرد أن يتدخل العامل الذاتي فإنَّ العمل يتم تصنيفه تلقائيًا في خانة الأعمال الأدبية، على أنَّه يجدر بنا في هذه الحالة التفريق بين: العمل الأدبي والجنس الأدبي، والفارق هنا هو الخيال الأدبي، كما تقدم.


--------------------
(1) الأنطولوجيا الأدبية Anthology تختلف عن الأنطولوجيا الفلسفية Ontology فالأنطولوجيا الفلسفية هي علم الوجود، وهو مسار فلسفي لا علاقة له بالأدب بشكل مباشر، وهو يدرس الوجود بذاته، أي الوجود بما هو موجود مستقلًا عن أشكاله الخاصة؛ إذ يدرس الوجود في عمومياته وكلياته، ولهذا فهو معادل للميتافيزيقا ####physique أو ماوراء الطبيعة. أما الأنطولوجيا الأدبية فهو عبارة عن كتاب يجمع كتابات أدبية مختارة من نفس الجنس الأدبي، أو نفس الموضوع قيد الدراسة؛ وغالبًا في نفس الفترة الزمانية أو التاريخية. وعلى هذا أيضًا فالأنطولوجيا لا تعتبر جنسًا أدبيًا مستقلًا؛ بل هو كتاب يجمع فيه المؤلف أعمالًا مختارة من واحدة من الأجناس الأدبية.
(2) حرب تحرير الكويت، والتي اشتهرت باسم (عاصفة الصحراء - Operation Desert Storm)، وهي الحرب التي شنتها قوات التحالف الدولي عام 1991 على العراق بعد غزوها واحتلالها للأراضي الكويتية.

إنَّ منابع الخيال والتخيل لدى الإنسان واحدةٌ، ولكن يكمن الاختلاف بينهما في الوظيفة الداخلية. فمن الواضح أنَّ كلتا العمليتين تتمان في الدماغ، ولكن وفي حين يشترك الخيال والتخيل في اعتمادهما على الواقع كمادةٍ أساسية، وهذا ما يُسبب الخلط بينهما غالبًا، فإنَّهما يختلفان تمامًا في الغرض من هذه العملية الذهنية أو أحيانًا في المنتج النهائي لكلٍ من العمليتين. يعتمد الخيال على الواقع كمادةٍ أساسيةٍ لتكوين عوالم أو حتى مجرد عباراتٍ يمكنها أن تكون موازيةً للواقع بشكلٍ أو بآخر، وعلى العكس من ذلك، فإنَّ عملية التخيل تعتمد على الواقع كمادةٍ أساسيةٍ لتكوين عوالم أو عباراتٍ لا يمكنها أن تكون موازيةً للواقع؛ بل إنَّها تُحدث قطيعةً معه بشكل كامل. وعندما نقول (الواقع)، فإننا نقصد به الواقع الموضوعي المستقل تمامًا عن تصوراتنا الذهنية عنه، وهو يشمل كل الموجودات في هذا الكون؛ بما فيها الإنسان نفسه. ويمكن اختزال فكرة التماهي مع الواقع أو القطيعة معه في قولنا: إنَّ الخيال هو بالتحديد ما يمكن تحققه، في حين أنَّ التخيل هو ما لا يمكن تحققه. على أننا لا نلتفت هنا إلى مبررات استخدام أي منهما في العمل الأدبي، فلا نتساءل: لماذا اختار المبدع هذا الأسلوب أو ذاك؟ فهذا لا يخدم موضوعنا في شيء، بل نركز على الجانب الوظيفي لهذا الاستخدام، وأنا أقصد بالوظيفة الداخلية المتعلقة حصرًا بإمكانية تحقق هذه العملية من عدمه.

وإذا حاولنا تقريب الصورة لنفهم المراد مما يمكن تحققه ومما لا يمكن تحققه؛ فإننا سوف نلجأ إلى استعارة بعض الأفكار الأساسية لكلٍ من الخيال والتخيل لنقف على الفارق النوعي والأساسي بينهما، ففكرة البيجاسوس(3) مثلًا هي فكرةٌ ليست خيالية، ولكنها فكرة تخيلية، وهي في المحصلة النهائية مستمدةٌ من عناصر واقعية؛ ففكرة الحصان فكرةٌ واقعيةٌ، وهو كائنٌ له وجودٌ حقيقيٌ ومتحقق، وفكرة الجناح أيضًا فكرةٌ مستمدةٌ من الواقع، ولكن دمج العنصرين الماديين الواقعيين بهذه الطريقة هو ما يخلق لنا في النهاية فكرةً تخيليةً تُحدث قطيعةً مع الواقع، فلا وجود لحصانٍ مُجنَّح في الواقع، وهو ما لا يُمكن تحققه؛ ولهذا فإننا نعتبره تخيلًا، لنفصل بينه وبين الخيال، الذي رغم اعتماده على العناصر الواقعية إلا أنَّه قابل للتحقق على العكس من التخيل. مع ملاحظة أننا هنا لا نتحدث عن مدى إبداع هذه الفكرة من عدمها، فهذا هو بالتحديد ما عنيناه من مبررات تطبيق الأفكار التخيلية أو الخيالية على حد سواء، ففكرة البيجاسوس بالضرورة هي فكرة مبتكرة، وبها جانب كبير من الإبداع، بصرف النظر عن إمكانية تحققها من عدمه، ولكن هذه الفكرة ليست لها وظيفة داخلية؛ بمعنى أنها غير قابلة للتحقق، وهي بذلك لا تمثل الواقع في شيء؛ إذ ليس للفكرة حضور فعلي في الواقع، وإنما فقط في الأخيلة.



------------
(3) بالإنجليزية Pegasus وهو كائن خرافي عبارة عن حصان له جناحان، وهو ما يعرف بالحصان المجنح. عرف هذا الكائن الخرافي في الميثولوجيا الإغريقية، وجاء ذكره في أسطورة هرقل ابن زيوس والعديد من الأساطير الأخرى.

وعلى العكس من ذلك الخيال، فهو يستمد مادته من الواقع ليتماهى مع الواقع أو ليُشكِّل واقعًا موازيًا، بحيث يمكننا تصديق احتمال تحققه، بصرف النظر عن حضوره الفعلي في الواقع، كقصة سندريلا الخرافية وحذائها الزجاجي، فعلى الرغم من عدم تحقق حضور هذه القصة بتلك التفاصيل في الواقع الفعلي؛ إلا أنَّ القصة ذاتها قابلة للتحقق، حيث أنَّ عناصر القصة كلها عناصر واقعيةٌ متحققة الحضور؛ إذا استثنينا بعض العناصر التخيلية في القصة ذاتها: كمساعدة الطيور والفئران لها في بعض الأعمال المنزلية. وعلى هذا فبإمكاننا الآن معرفة الفارق النوعي الكبير بين الخيال والتخيل، لنتمكن في النهاية من إصدار حكم على قصة البيجاسوس بأنها قصةٌ تخيليةٌ، وعلى قصة سندريلا بأنها قصةٌ خياليةٌ، على الرغم من عدم تحقق كلا القصتين في الواقع الفعلي، فنحن هنا لا يهمنا ما إذا كانت القصة قد حدثت فعلًا أم لا؛ بل يهمنا ما إذا كانت القصة ممكنة الحدوث أو التحقق أم لا، وعلى هذا فإننا يجب أن نهذب أفكارنا تجاه مصطلح القصة الواقعية، فهي لا تعني بالضرورة أنها حدثت فعلًا؛ بل تعني ببساطة أنها ممكنة الحدوث، وهذا في اعتقادنا خطأ شائع لدى الكثيرين، فما أن يقرأوا وصف (واقعية) حتى يسارعوا بإصدار حكم على القصة بأنها حدثت بالفعل، متناسين بأنَّ سرد أحداث وقعت فعليًا لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال تصنيفه بأنَّه عملٌ أدبي، لأنَّه في هذه الحالة سيكون سردًا تاريخيًا ملتزمًا بعنصر الموضوعية، وهو ما لا ينطبق على العمل الأدبي، الذي يتسم بالذاتية كما تقدم آنفًا.

يزداد الأمر تعقيدًا عندما يمتزج المُتخيَّل بالواقع؛ بحيث تصبح العناصر المُتخيَّلة جزءًا أصيلًا من الواقع الفعلي؛ فقصص الجن والعفاريت والأشباح وعلاقتها المُباشرة مع البشر في كثيرٍ من المجتمعات هي جزءٌ أصيلٌ من ثقافةِ ووعي أفراد المجتمع. فتلك المجتمعات التي تعتقد بشكلٍ جازمٍ بأنَّ ثمة جنيَّاتٌ يسكنَّ النهر، ويُنادين على الناس ليلًا ليغرقنهم فيه، وتَعتبر حوادث الغرق امتدادًا طبيعيًا لهذه الفكرة المُتخيَّلة، هم -في الواقع- نموذجٌ جيدٌ جدًا لامتزاج المُتخيَّل بالواقع، والأمر ذاته ينطبق على فكرة التشاؤم من البوم أو من الكلاب السوداء باعتبارها شياطين أو عفاريت متجسدة، أو فكرة تحول التوائم البشرية إلى قطط في الليل، كل هذه الأفكار هي في الحقيقة أفكار مُتخيَّلة أو تخيلية Imagination لا علاقة لها بالخيال Fiction فهل يمكننا اعتبار النصوص السردية التي تتناول هذه الظواهر المُتخيَّلة عملًا تخيلًا أم عملًا خياليًا؟ إنَّ الإجابة على هذا السؤال هو بالتحديد ما يجعلنا نخلط كثيرًا بين الخيال والتخيل في الرواية، لأنني أعتبر التخيل في الرواية عملًا خياليًا من حيث مطابقته للواقع وتماهيه معه، وليس من حيث وظيفته؛ فالرواية هي في المقام الأول واقعٌ موازٍ للواقع الفعلي، وهو بذلك ينقل لنا الواقع كما هو، بكل تفاصيله، بكل ما تحتويه من عناصر؛ حتى المُتخيَّلة منها، لأنها بالنسبة إلى أفراد الواقع حقائق وليست متخيلات؛ وبالتالي فقد ساعدت هذه الأفكار التخيلية في صياغة أنماط تفكيرهم وأنماط حياتهم، إلى الدرجة التي أنتجت معها ثقافةً قائمةً على هذه الأفكار التخيلية. ولكن، ورغم ذلك، فإنه لا يمكننا تصنيف هذه الأعمال الأدبية تحت خانة الروايات الواقعية؛ بل هي في هذه الحالة تصنف مباشرةً تحت ما يُسمى بالواقعية السحرية، والواقعية السحرية هي "ذلك النوع من الأدب الذي تكون فيه العناصر السحرية جزءًا أصيلًا من البيئة الواقعية."(4) وعلى هذا فإنَّ هذا النوع من الأدب لا يعتبر واقعيًا من حيث أنَّ عناصره مُتحققة الحضور، ولكن من حيث تحقق الاعتقاد به في الواقع من قِبَل أفراد المجموعة التي يتناولها النص السردي؛ وإلا فإنَّ هذه العناصر غير متحققة الحضور فعليًا.




----------------
(4) النص الأصلي باللغة الإنجليزية: "Magical Realism is a genre where magic elements are a natural part in an otherwise mundane, realistic environment" ترجمة المؤلف بتصرف – راجع Faris, Wendy B. and Lois Parkinson Zamora, Introduction to Magical Realism: Theory, History, Community, 1995. pp. 5

النص الروائي يمثل المرايا التي تعكس الواقع بكل تفاصيله، فهو يعكس عناصر البيئة المجتمعية الذي هو في المحصلة النهائية نتاج مزجٍ للعناصر الثقافية والاقتصادية والسياسية والتاريخية، بلا انفصالٍ أو انقطاع. وأي إسقاطٍ لأي من هذه العناصر قد يُفقد الكتابة الروائية مصداقيتها، بحيث يُعطي للرواية دورًا ووظيفةً غير المناط بها، فليست وظيفة الرواية تجميل الواقع أو تشويهه؛ بل نقله كما هو عليه، بإضافة العنصر الخيالي طبعًا، حتى لا يُصبح النص الروائي نصًا تاريخيًا موضوعيًا. وإلى هذا الحد يمكننا الآن معرفة الفارق بين الخيال والتخيل في العمل الأدبي، بحيث يصبح التخيل وظيفةً ذهنيةً بغرض إحداث قطيعةٍ مع الواقع، في حين يكون الخيال وظيفةً ذهنيةً بغرض مجاراة الواقع، والمزج بين هذين العنصرين يمكن أن يكون واقعيةً سحريةً كما تقدم، ولكن هل للتخيل استخدامات أخرى في النص الروائي؟ الحقيقة أنَّ عملية التخيل مستخدمة بكثرة في الأعمال السردية سواءٌ في الروايات أو الروايات القصيرة، ولكن دون أن يتدخل هذا الأمر تصنيف العمل السردي وإخراجه من إطاره الواقعي؛ فالروائيون يعتمدون دائمًا على العملية التخيلية في التشبيهات، التي تمثل جانبًا هامًا من العمل الإبداعي، ففي إحدى أعمال الراحل غارسيا ماركيز نقرأ: "لقد لاحقتني تلك الرؤيا لسنواتٍ طويلةٍ، مثل حُلْم جماعيٍ شاهدت القرية كلها مروره من خلال النوافذ، إلى أن استطعتُ التطهُّر منه في قصة قصيرة."(5) في هذا المقطع يصف الروائي-الراوي مشهد السيدة التي في منظر الحِداد، وبرفقتها فتاة في الثانية عشر من عمرها، وهي تحمل باقةً من الأزهار اليابسة الملفوفة بأوراق جرائد، وهما ليستا سوى أم وأخت اللص الذي قتلته السيدة ماريا كونسوبغرا عندما حاول أن يتسلل إلى بيتها. ويُشبِّه منظر الأم والأخت، وهما تحملان الأزهار إلى قبر اللص، بحلم جماعي شاهدته القرية عبر النوافذ. وبطبيعة الحال، فإنَّ هذا التشبيه هو تشبيه تخيلي لا يمكن تحققه، ولكنه، ورغمًا عن ذلك، لم يجعل من الرواية شيئًا آخر غير عمل واقعي، فاستخدام العنصر التخيلي في التطبيقات التشبيهية لا يعتد به في تقييم العمل من وجهة نظري على الإطلاق؛ بل هو ضرورة إبداعية متاحة للجميع.



------------------
(5) غبريال غارسيا ماركيز، عشت لأروي، ترجمة صالح علماني. مطبوعات دار المدى للثقافة والنشر، دمشق-سوريا، ص38

up