|
مشاهدات عائد من دار الريح
|
مشاهدات عائد من دار الريح محمد التجاني عمر قش mailto:[email protected]@hotmail.com تهطل الأمطار هنا بغزارة كأن أبواب السماء قد فتحت بماء منهمر يحمل الخير والبشرى للناس والحيوان قاطبة؛ فنبت الزرع وامتلأ الضرع واكتست الأرض بساطاً سندسياً أخضراً يمتد حتى كأنه يعانق الأفق البعيد، واستبشر الرعاة والمزارعون، على حد سواء، بموسم يرفع عنهم موجة الغلاء التي سيطرت على الأسواق. عموماً، الناس في دار الريح، هذه الأيام، لا يتحدثون عن الحوار الوطني المزعوم ولا عن اللقاءات الفارغة بين زعماء الأحزاب وصناع القرار من كافة المشارب السياسية؛ فقد صار حديثهم مكرراً ممجوجاً لا يتعدى ترديد بعض الوعود التي لم تتحول إلى واقع ملموس حتى هذه اللحظة، بل هم مشغولون بشئون حياتهم اليومية ومعاشهم وزراعتهم وأعمالهم الأخرى. من ناحية أخرى، تشهد المنطقة تحولاً كبيراً في نمط العيش وطريقة الحياة لا تخطئه العين؛ فقد تغيرت معالم القرى وبدأت تأخذ شكلاً مختلفاً من حيث العمران والأثاث؛ فكثير من المنازل الآن مشيدة بالمباني الثابتة بدلاً من "القش" ودخلت الكهرباء المحلية وبدأت المدنية تدب إلى حياة الناس مع ما يرتبط بها من مظاهر حضرية مثل الإنارة والثلاجات والتلفاز وأجهزة الهاتف المحمول ووسائل المواصلات السريعة بين القرى والمدن، مع توفر المياه النقية إذ طوي "الرِشا" ولم يعد الناس "ينشلون" المياه من الآبار بالدلاء بل حلت محلها الماكينات وخزانات المياه والمضخات والآبار الحديثة وذلك فضل من الله الذي جعل من الماء كل شيء حي. ولعل السبب في ذلك كله يعود إلى التعدين الأهلي الذي ساعد كثيراً من الشباب على الكسب السريع والحصول على أموال طائلة كان من الممكن أن تحدث تنمية حقيقية في المنطقة لو وجدت رعاية وأحسن استخدامها؛ مع أن هذا النشاط الطارئ ينطوي على مخاطر جمة بعضها ظهر للعيان مثل الفاقد التربوي الكبير وترك الناس مزارعهم ومواشيهم سائبة، الأمر الذي قد يضر بالاقتصاد الكلي للبلاد في المستقبل القريب، وبالطبع هنالك المضار والمخاطر الصحية الناجمة عن استخدام المواد الكيماوية شديدة الخطورة، فضلاً عن حالات الوفاة بسبب الإنهيارات! من جانب آخر، تظل ولاية شمال كردفان هي الأكثر أمناً واستقراراً من بين ولايات الغرب كافة؛ إذ لا يوجد شيء يعكر صفو النسيج الاجتماعي إلا الانتشار المروع للأسلحة بأيدي المواطنين وغياب هيبة الدولة في كثير من المواقع خاصة في الأطراف النائية. على كل حال يسير نفير نهضة شمال كردفان بصورة طيبة، خاصة داخل مدينة الأبيض حيث أوشك العمل على الإنتهاء في المسجد العتيق بينما يتواصل البناء في مستشفى الولادة والميناء البري وتبذل جهود حثيثة من أجل نقل المياه من حوض بارا الجوفي عبر الأنابيب التي يشاهدها من يسير على الطريق بين بارا والأبيض. أما طريق بارا-جبرة الشيخ- أم درمان فعلى الرغم من ابتدار العمل فيه لدى زيارة الفريق أول بكري حسن صالح النائب الأول لرئيس الجمهورية إلا إنه يحتاج لمزيد من الوقت والصبر والتمويل محلياً وأجنبياً ويا ليت أن الجهود كافة توجه إلى إنجاز هذا المشروع العملاق الذي يعد حلماً لأهل الولاية وما جاورها. أما فيما يتعلق بالتعليم والصحة، يمكن أن يقال إن الدولة قد رفعت يدها عن هذه الخدمات الضرورية حيث بات دورها يقتصر على النواحي الإدارية وصرف الرواتب وفقاً للبند الأول من الميزانية الفقيرة بينما تركت أمر البناء والصيانة وأحياناً الإجلاس لمنظمات المجتمع المدني المحلية التي لا حول لها ولا قوة على الرغم مما تقدمه بعض المنظمات الطوعية والخيرية من عون محدود ولذلك تردى مستوى الخدمات التعليمية والصحية بشكل لافت للنظر فلم تعد هنالك حملات مكافحة دورية للبعوض والناموس والذباب مثلما كان يحدث سابقاً وليست هنالك صحة بيئة بالمعنى المفهوم وهذا لعمري ينذر بكارثة وشيكة واضعين في الاعتبار المعدل الهائل لنزول الأمطار هذا الموسم ولله الحمد! اجتماعياً، لا يزال الناس يتواصلون في الأفراح والأتراح كسابق عهدهم بل أشد؛ نتيجة لوفرة المواصلات وسرعة الإتصالات، ولكن بدأت مظاهر البذخ والصرف غير المرشد تطغى على المناسبات الاجتماعية، الأمر الذي يتطلب تدخلاً سريعاً وحاسماً من قيادات العمل العام وأصحاب الحل والعقد حتى لا تخرج المسألة عن نطاق السيطرة وتتحول إلى ظاهرة يصعب كبح جماحها مستقبلاً، والناس هنا لا يزالون بخير ويستمعون إلى النصح والإرشاد فهم على سجيتهم وفطرتهم السمحة التي قد تعصف بها تأثيرات المدنية التي أشرنا إليها آنفاً إذا تقاعس المرشد الواعي والمدرك. وبحسب رأي المراقبين فإن الوضع يتطلب تحركاً عاجلاً لضبط مسيرة التحول والاستفادة من المعطيات المتاحة حالياً حتى تجتاز المنطقة هذه الفترة المضطربة وتحافظ على قيمها وتسير قدماً نحو التطور والانفتاح على العالم بعد الإنطواء الذي ظل جاثماً لقرون متطاولة ولكن هذا كله لا يجدي ما لم تتوفر وسائل ومدخلات حديثة لزيادة الإنتاج لترفع من دخل الفرد وتحسن مستوى المعيشة والخدمات لمقابلة متطلبات الحياة الباهظة إذ الغلاء والبطالة هما سيدا الموقف الآن.
|
|
|
|
|
|