قصة كفاح ربة منزل (مصرية)

انتشلت أسرتها من ضيق الفقر المدقع إلى رحابة الاكتفاء وسعة العيش،
لها التحية،
والتحية لكل النساء اللائي قمن بتحمل أعباء أسرهن أثناء غياب الزوج في دروب الحياة،
فحافظن على تماسك الأسرة بمهارة يعجز عنها حتى بعض الرجال..

أول ما قدمت إلى السعودية ذهبت إلى الطائف حيث يعمل أشقائي، جلست معهم فترة (حوالي ثلاثة أشهر)،
حتى نجح أخي الأكبر في الحصول على وظيفة لي في شركة قريبة من مكان عملهم، وبعد ذلك أصبح حضوري إليهم نهاية كل أسبوع،
أخي كان يعمل في مصنع للطوب البلك، يدير شئونه، كان العمال والسائقين يسكنون في نفس المصنع، هنود وبنغالة ومصريين، وسيرلانكيين..

عم سعيد يعمل سائق ونش، كبير السن، لطيف جداً، ومهذب لأبعد الحدود.. كان عم سعيد يجلس كثيراً في الغرفة التي أجلس فيها، يعد الشاي أو يساعد في طبخ الغداء، أو يلعب الورق.
راتبه بسيط جداً (1500 ريال)، ويعمل من الصباح وحتى العصر، وماشاء الله له نشاط وحيوية ملحوظة، يقوم بإرسال راتبه كله (صرة وخيت) إلى أسرته، وذلك المبلغ يكاد يغطي تكاليف إيجار الشقة ومصاريف أبناءه، حيث يدرس أبناءه الكبار في الجامعة.. يعيش على الأوفر تايم، ويحرص يومياً أن يعمل (رد أو ردين إضافيتين) بالونش فيتوفر معه حوالي (50 ريال) يدفع حق الميز ويشتري سجاير ويبقى له بضع ريالات يدخرها، فعندما يتعطل الونش ويجلس يومين أو ثلاثة بدون عمل يصرف منها أو يضطر للاستدانة من زملائه..
المصنع يمنحه إجازة سنوية، عادة يذهب كل سنتين، يتوفر معه مبلغ راتب شهر وقيمة تذكرة، يبوس يده وجه وقفا ويحمل معه هدايا بسيطة لأسرته ويأخذ الباقي معه كمصاريف أثناء الإجازة..

في مرة اتصلت عليه زوجته وقالت له، طلعت قطع أرض ورخيصة ونحن نستحقها وقدمنا لها، وجاءتنا الموافقة فأرسل لنا المبلغ (حوالي 6000 ريال)، حتى نكمل إجراءات التسجيل، بصورة أو بأخرى تمكن من توفير المبلغ في فترة وجيزة وأرسله لها، وبقى يستقطع من راتبه على مبلغ راتب الإجازة وتذكرة السفر حتى تمكن من تسديد دينه.

يقول:
عندما نزلت إجازة وجدت القطعة التي اشترتها زوجتي في مكان بعيد، لا حياة فيه، لا كهرباء لا ماء لا طريق مسفلت، فقط قطع أرض، بعضها بدأ العمل فيها، المهم المكان لا يبشر، فشعرت بالغضب وضربت زوجتي وصرخت فيها، وطردتها، فهذه القروش لا تأتي بسهولة، وظنيت إنها قد أضاعت علي مبلغ كان يمكن استثماره بصورة أفضل، تدخل الأهل وأصلحوا بيني وبين زوجتي، واعتبرت القروش ضاعت ونسيت الأمر برمته، وقلت لهم لا أريد أحد أن يذكر لي هذا الموضوع مرة أخرى.. وبعد أن رجعت إلى السعودية استمرت حياتي كما هي، آخذ راتبي وأرسله وأدعو الله أن يكفيهم ويبعد عنهم الأمراض، هذه المرة جلست أربعة سنوات متواصلة، ونسيت موضوع الأرض..

بعد الأربعة سنوات نزلت إجازتي، جاء أخي واستقبلني في المطار، وأخذني بسيارته التاكسي إلى خارج المطار، في الطريق إلى البيت توقف فجأة أمام عمارة ثلاثة طوابق، قال لي أنزل، قلت له أنا تعبان وما عايز حاجة غير أصل البيت وأرتاح، قال لي طيب أنزل، سألته: إنت عندك شنو هنا؟ قال لي أنزل ياخي هذا بيتك .. وبدأ ينادي على أولادي .. تعالوا يا ولاد استقبلوا أبوكم ..
يا إلهي .. هذا بيتي ؟؟؟ استغربت واعتبرته يقول ذلك على سبيل المجاملة أو الدعابة، قال لي والله دا بيتك وعيالك فيه جوة، في هذه الأثناء جاء أبنائي وأخذوا يقبلوني، وحملوا الأغراض إلى داخل المنزل.. والفرحة عمت البيت .. زوجتي بناتي الصغار، أبنائي تخرجوا من الجامعة وصاروا رجالاً .. جاء أخوتي من مكان بعيد لاستقبالي، كلهم كانوا فرحين بحضوري إلا أنا ..

الحقيقة تسرب إلى شك أقرب إلى اليقين بأن أحد أبنائي أصبح تاجر مخدرات أو لص كبير، والمسألة مسألة وقت لاكتشف من هو .. هذه العمارة الجميلة شقتين ومصنع تريكو في الدور الأرضي لن استطيع بناءها العمر كله....
ذهبت إلى غرفة خصصوها لي، أعدوها وهيئوها بأفضل الأثاث والمفارش، رغم ذلك لم استطع النوم تلك الليلة، وكلما يغلبني النعاس يوقظني القلق والألم والتفكير في هذا الكــلب الذي يريد أن يدمر سمعتي وسمعة عائلتي، فقد ربانا أبي على العفة والشرف ولم تلوث سمعتنا أي شائبة، فيأتي هذا الحقـــير ليدنس هذه السيرة الناصعة، فقررت أن أقتله، وتظاهرت بالهدوء، ولكن لماذا لم يخبرني أخواني قبل أن يستفحل أمره ويذهب بعيداً في هذه السكة، قلت لنفسي ربما استطاع شراء سكوتهم وبقيت الليل كله أفكر..
كلما أخرج من الغرفة أجد شيئاً يبهرني، الشقة كانت فخمة وأكبر من إمكانيات عامل بسيط مثلي..

كل القصة يا سادتي كانت من حسن تدبير زوجتي.. أي نعم .. امرأة تستطيع أن تقول إنها المعنى الآخر للتدبير وحسن التصرف والتضحية..

بعد رجوعي إلى العمل بفترة وجيزة، أرسل راتبي كل شهر، توفر منه جزء بسيط، وذلك بعد أن استطاع ابني الأكبر بعد التخرج أن يحصل على وظيفة صغيرة، وبمسئولية استطاع أن يوفر حوالي 70% من احتياجات الأسرة، أكل وشرب وكهرباء، المشكلة الكبيرة كانت في إيجار الشقة، مصاريف البنت والولد في الجامعة،
من المبلغ الذي أرسله لهم يتوفر لديهم مبلغ محترم، وضعت قواعد صارمة في المنزل، لن يخرج جنيه واحد من بين يديهم إلا في شيء ضروري وأساسي، وكل شيء مسجل ومدون في دفتر حسابات أعدته ابنتي التي تدرس المحاسبة في الجامعة، كانت تدون الميزانية بدقة مبالغ فيها، حتى الكسور كانت تعرف إلى أين تذهب.
كلما توفر لديهم مبلغ اشتروا مواد بناء ثم شرعوا في بناء غرفتين في قطعة الأرض، بعد اكتمال الغرفتين، استعجلت زوجتي وأخذت الأسرة وسكنت فيها بدون كهرباء، بدون مياه، حتى بدون سقف، وضعوا الخشب وثبتوه كسقف للغرفتين،
كانوا يحضرون المياه من منطقة بعيدة، في تلك الفترة بدأت المنطقة تنتعش شيئاً فشيئاً، بدأ وصول السكان الجدد، بعضهم بنى مباني فخمة، وبعضهم بناها كيفما اتفق.. اكتمل توصيل المياه والكهرباء .. وازداد عدد السكان .. وبالتالي تحسنت الخدمات

إذن توفر لهم المبلغ الذي أرسله وهو مبلغ (1500 ريال)، وهو مبلغ ضخم نسبياً، لا يصرفون منه شيء سوى مصاريف الجامعة، شيئاً فشيئاً بدأت الشقة تكتمل وتحسن الوضع بإدخال الكهرباء والمياه إليها، لم يخبرني أحد طوال هذه الفترة، تخرج الابن الآخر من الجامعة ووجد عملاً شاقاً – عاملاً في مجال البناء - فتحسن دخل الأسرة قليلاً، وبدأت الشقة تتجمل رويداً رويداً، وعندما اكتمل السقف الخرساني للدور الأرضي فكر الأبناء في شقة أخرى في الدور الأول، وفعلاً اكتملت في فترة وجيزة، فانتقلوا إليها وأجروا الدور الأرضي، وتحسن الوضع كثيراً وأنا لا أعلم كل ذلك، وكلما اتصل وأسألهم يخبروني بأنهم بخير وكل شيء تمام ويجب علي ألا أقلق من أي ناحية ولكن ابني لم يخبرني عن كل ذلك، وعندما يحس بأنني قلق أو حزين كان يدعوني إلى الصبر قليلاً، كلها سنة أو شهور وحنشتغل ونريحك .. ويلاطفني أو يخبرني بأخبار مفرحة..

وفي هذه المرحلة انفرجت الأمور عندهم وأنا أعمل بجد ولا أجد وقتاً للراحة، وأدعو الله أن يكفيهم شر الحاجة، استطاعوا توفير مبلغ محترم فأخلوا الدور الأرضي من المستأجر واشتروا مكائن خياطة، ومعدات وأنشئوا مصنع للتريكو، وأصبح لهم إنتاج وبزنس حقيقي وبمرور الوقت استطاعوا الدخول إلى السوق في المنطقة، والمدن القريبة، واصبح لدى كل واحد فيهم وظيفة في المصنع، بنات وأولاد.. تغيرت الأمور تغيراً مذهلاً ..
استطاعوا بناء شقة أخرى، دور ثاني، أفخم وأجمل من الشقة التي يسكنوها..
كل ذلك وأنا لا أعلم، طب ليه ما كلمتوني يا ولاد الكلــب ؟؟؟؟
كانت حجتهم: حبينا نفاجأك يا بابا .. وعايزنك تسامح ماما ، وكنت لا زلت على جفوة معها ..
دا مش أسامحها، دا أنا أبوس رجليها .. مامتكن دي أعظم مرا في الدنيا
لا أنسى عباراته تلك وهو دامع العينين..
دا الوقت نحن محتاجين نشتري سيارة ميني باص، نوزع بيها الإنتاج حقنا .. وبعد داك إنت تجي ترتاح في غرفتك وتستقبل ضيوفك فقط ...
ونحن حنسدد ليك دينك اللي دفعتوا لينا عمرك كله ..
وأنا الآن جايي اشتغل السنة دي، أخلص أموري من هنا، وأحزم حقائبي وأرجع، أديهم كل ما أملك وأخليهم يسيروا أمور الأسرة هم وأمهم.. وفعلاً بنهاية السنة ذهب ولم يرجع مرة أخرى.. واستقر بصورة نهائية في بلده..
الحقيقة ربما أكون سعدت أكثر من عم سعيد نفسه، لأنني أحبه لأنه كان يحبني في الله، كان لا يتردد في أن يحضر كأس الشاي إلي وأنا مستلق أشاهد التلفزيون، (خد يا بني)، اعترض قليلاً، عيب يا عم سعيد، نحن مفروض نخدمك، على الأقل خليني أساعدك، فينهرني خد يابني عيب تقول الكلام دا، كان يخدم الآخرين بتجرد وبإنسانية، روحه مرحة جداً، رغم الإرهاق والتعب كان لا يكف عن الحركة في فترة راحته، يجهز الغداء أو العشاء، الشاي، يحضره أمام الآخرين.. ولا يجرح أحد..
مليون سلام لك يا عم سعيد

قصة جميلة
وين نلقى زى دى يا ابا بكر ؟
مبارك عليك الشهر

كل سنة وإنت طيب يا أب صالح
يا زول نحن عندنا المرا أمها توصيها تقول ليها: كملي قروشو عشان ما يعرس فوقك
تحياتي مثنى وثلاث ورباع