الساقية .. الأمن المجتمعي .. والارث الاداري للنوبيين

أردت أن أقدم فذلكة عن الموروث الاداري لدينا .. وكيف شاركنا في إثراء من حولنا بالضوابط الادارية التي كانت تمارس ايام السواقي .. فالساقية كمصطلح ليست آلة صماء ترفع الماء .. ولكنها منظومة إقتصادية وإجتماعية تحتوي على ثوابت وضوابط تنظم المجتمع وتضبط حقوق العاملين وتوازن من ما بين الملاك المزارعين .. فقد عرف أهلنا الهيكل التنظيمي للادارة منذ زمن بعيد لا يمكن تحديده بفترة زمنية .. وهذا الانضباط والتسلسل الوظيفي في منظومة الساقية هي التي اورثت انسان المنطقة نوع من التقدم الفكري والتطور السلوكي .. كان الهيكل التنظيمي للساقية يبدأ من (السمد) وهو بمثابة ( الرئيس التنفيذي) ويتم اختياره من قبل ملاك الساقية (حاملي الاسهم ) والسهم بالدنقلاوية ( أوربق) وهو نصيب الفرد في الساقية ولا يأتي الاختيار هكذا او بطريقة عشوائية بل بعد تدقيق وبشرط ان يتمتع (السمد) بكل مزايا القيادة .. من حكمة وكاريزما .. وخبرة عميقة في الزراعة ومعرفة بميقات الزرع والحصاد .. وأن تكون له خبرة في عملية القسمة .. وتحديد الحدود ( كيل ) .. وكيفية توزيع زراعة الجروف بعد انحسار الفيضان بالاضافة إلى أنه الحكم والوسيط العادل في المشاكل الاجتماعية داخل العائلة ( الطلاق والزواج والاختلاف .. الخ ) وإمعاناً في العدالة يتم تكوين منظمومة شبيهة بمجلس الادارة اليوم .. وتتكون من عدد اربعة سمد من السواقي المجاورة يرأسها احدهم بناء على الكفاءة ويسمى ( سمدن بير) ولفظ (بير) في النوبية هو الكبير او السيد ، وفي حالة اي ظلم من السمد يمكن للمزارع ان يلجأ على هذه المنظومة التي تحاكم السمد .. وبعد السمد يأتي ( التربال ) فهو كان بمثابة مدير الموقع وغالباً يكون من الشركاء في الساقية مؤهل في كل فنون الزراعة .. شق الجدول .. رفع الاحواض .. رمي البذور .. معرفة بالحيوانات .. الخ .
ثم يأتي ذلك ( باينتود ) وهو أقل رتبة من التربال وغالباً ما يكون من خارج ملاك الساقية .. وهو مثل المتعاقد في العصر الحالي .. وله حقوقه ونصيبه من الزرع .. ثم يأتي بعد ذلك ( الاروتي) وهو من يقود الساقية .. والمعروف في اولوية توظيف التربال او إعطائه الاولوية في زراعة الموسم كان يتوقف على شيء في غاية الاهمية وهو امتلاكه للبقرة التي تجر الساقية وهي انواع خاصة من الابقار وسلالاتها كانت معروفة لدى أهلنا .. وتسمى ( تي همرا) وهي بقرة تعرف المواعيد وتفهم اساليب ( الاروتي ) وتطرب لحداء الاروتي (سلاد) وتضبط حركتها مع ايقاع صوت الساقية .
ومثل هذا الموروث هو الذي جعل انسان منطقة ذو تصرف حضاري ووطد الامن المجتمعي بين افراده ..

نواصل ..