سفير سابق : نظام الانقاذ افقدنى نحو ربع قرن من سنوات نضجى وعطائى ..( نوستالجيا )

سفير سابق : نظام الانقاذ افقدنى نحو ربع قرن من سنوات نضجى وعطائى ..( نوستالجيا )


01-01-2014, 12:21 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=460&msg=1388575265&rn=0


Post: #1
Title: سفير سابق : نظام الانقاذ افقدنى نحو ربع قرن من سنوات نضجى وعطائى ..( نوستالجيا )
Author: wadalzain
Date: 01-01-2014, 12:21 PM

كتب السفير السابق المقال ادناه فى جريدة الراية القطرية

Quote:

بقلم - عوض محمد الحسن:

نوستالجيا (في جلباب أبي)

في صغري، كنت أسمع والدي، رحمه الله، يُقسم قسما غريبا على أذني محدودة المعرفة. كان لا يُقسم بالله كما يفعل معظم الناس، ولا بالطلاق كما يفعل معظم أهل السوق، بل كان يقول (في غير تحذلق): "فالق الحَبِّ والنوى". ولم أدرك بلاغة هذا القسم وجماله حتى كبرتُ وأصبتُ شيئا من العلم في اللغة والفقه والعلوم الطبيعية. عندما كنت أسمع في صغري والدي يُقسم بذلك القسم الغريب، كانت تمر بذهني صور رأس مشجوج (إذ أن "فلق" بالعامية السودانية نعني "شجّ" وقد ارتبطت عندي آنذاك بشج الرأس في ألعاب الصبية التي يتقاذفون فيها بالحجارة، أو بالمشاجرات التي تُستخدم فيها العِصي "وأسلحة الدمار الشامل" الأخرى). وحين أذكر هذا القسم الآن، تأتيني على الفور صورة البذرة اليابسة الميتة في ظاهرها، النابضة بالحياة في باطنها، تكمن في ظلمة الأرض، تنتظر إذن بارئها وقليل من الماء، لتنفلق وتخرج فسيلا يصبح شجرة ضخمة من النخل والتبلدي والسنديان والبلوط والحراز، وتزدهر قمحا (ووعدا وتمنيا)!

كان والدي قارئا نَهِما، ولا أدري من أين جاءته هواية القراءة الحرّة، فقد تلقى تعليمه في خلوة والده التي حفظ فيها القرآن، وتعلم الكتابة والقراءة والحساب. أذكره في حانوته الصغير في سوق "ود عكيفة" في غرب مدينة الأبيض، في غرب السودان الأوسط، مُكباً، في وسط جلبة السوق ونهيق حمير أهل بادية الأبيض الذين حضروا للتسوق (قبل اختراع مهرجانات التسوق)، على "سِيرة عنترة بن شداد" المكوّنة من خمسة وعشرين مجلدا، و"ألف ليلة وليلة" المكّون من مثل ذلك العدد من المجلدات أو أكثر. وهي كتب امتلأت بالمبالغات والحشو والشعر الركيك، غير أنها كانت لي، وله فيما يبدو، مليئة بالتشويق والإثارة والمغامرات العجيبة، وبينها هجر عنترة لمضارب عبس وذبيان، وحروبه القبلية التي لا تنتهي، وركوبه البحر إلى جهات أشك أنه سمع بها! وحين أكملت كتابيه اليتيمين، لجأت إلى مكتبة كردفان، جزى الله أصحابها (الفاتح النور ترير وإخوانه، عليهم رحمة الله ورضوانه) خير الجزاء، أشتري من مصروفي كتب الجيب وأرسين لوبين وطرزان قبل أن أنتقل إلى ترجمات "شوامخ الأدب العالمي" وغيرها. وجزى الله الملكة اليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا وإيرلندة الشمالية على فتحها لمكتبة المجلس البريطاني بالأبيض والتي نهلتُ، وبعض أبناء جيلي، من معينها كتب الأدب الإنجليزي.

أورثني والدي حب القراءة وأورثني معها تآكل أطراف مؤخرة النعال عند الكعبين، ولعله أورثني سمات أخرى بعضها ظاهر، وبعضها خفي. كلما تقدم بي العمر. أرى وجه والدي حين أتطلع للمرآة، واكتشف أنه قد أورثني ما هو أكثر من حب القراءة وتآكل كعب النعال؛ أعرف بعضا من ذلك، لكني أدرك أنني قد أجهل الكثير، ومنه قلق آمل أن يكون خلاّقا، ويقين بالعودة للقرية أفلح هو في تحقيقه، وفشلت أنا فيه حتى يوم الناس هذا. وقد توفى والدي عن ثمانين ونيف، وكلّي أمل أن أبلغها، مع اختلاف النشأة والظروف ونوع العمل، ونوع الحكومات التي تٌقصِّر الأعمار!

قُبِض والدي، عليه الرحمة، في عام 1989- (عام الجراد كما سيؤرخ له في تاريخ السودان). ذهب هو وجيله من الرجال السودانيين والنساء السودانيات السمحين والسمحات، المتسامحين والمتسامحات، المتدينين الدين الحق والمتدينات، قبل أن تميد الأرض من تحت أقدامنا، وتبدل الأشياء (وتِتْبَدِل)، وتتفسخ القيم والمعايير، وتنحط أقدار الرجال والنساء. يعتريني غضب لاهب حارق كلما تذكرتُ أن نظام الإنقاذ أفقدني نحو ربع قرن من سنوات نضجي وعطائي، وأفقد أجيال بأكملها سنوات طفولتهم وشبابهم، وكلها سنوات لا تُعوّض. وشتت، بسياسة التمكين والقمع والجهل، آلاف السودانيين والسودانيات المؤهلين على حساب الدولة في مهاجر ما كنا نظنّ أنّا بالغيها ولو امتد بنا العمر كنوح عليه السلام، يسهمون في بنائها ونهضتها وبلدهم ينهض من كبوة لأخرى، ويسير نحو هاوية لا قرار لها. وأكثر ما يُثير غضبي شعوري بالعجز عن تصحيح ما أرى من خلل بيِّن، وتدهور لا يتوقف، ودمار يصعب إصلاحه حتى لو تغير الحال.

أقول قولي هذا، ولا أملك إلا أن أكون متفائلا لأنني على يقين أن الأحوال غير الطبيعية (مثل ما نحن فيه) قد تستمر، ولكنها قطعا لا تدوم. أسأل الله أن يجعل عام 2014 أفضل من سابقه، وكل عام وأنتم بخير!

كاتب سوداني

[email protected]