حفريات جوتنبرج ..

(1)

نفضَ الغبارَ عن بعضِ الحجارةِ التي برزتْ من تحتِ سَكِّينِهِ الصَّغيرْ , كانَ عليها بِضْعُ رسوماتْ , ألوانُهَا تنقَسِمُ بينَ (الأزرق والأحمر) , ..
ما إن بدأت (تلوح ) لهُ من تحتِ الرَّملِ , حتَّى صارتْ يداه تتحرَّكانِ بسرعةٍ أكْبَر , فقد كادَ الفضولُ يقتُلُه , قبلَ أنْ يرى ما تحتَ الرَّملِ من رُسُومات , ..
بدأتِ الرُّسوماتُ تتَّضِحُ , ظهرَ له وَجْهُ رجُلٍ مُلْتَحٍ ثمَّ فمُه وأسنانُه , ..
و..
فجأةً رمي بأدواتِهِ وولَّى هاربًا , فقد كانَ الوجهُ الذي بَدَأَ له رَسْمًا,يُغلِقُ فمَهُ ويفتحُهُ متبسمًا , ..!!

ذهبَ عالمُ الآثارِ الألمانيُّ (جوتنبرغ) ولم يَعُدْ , كانَ يَجْزِمُ أنَّهُ رأى رسمًا أثريًّا , لكنَّه من شحمٍ ولحمٍ ودَمْ , وابتسمَ له , اِبتسامةً لا شكَّ أنَّها حقيقيَّة , وربَّما تَفِلُّ على يديْهِ حينَ أرادَ التَّخَلُّصَ من الرَّملِ العالقِ على وجهه لقرون , كلَّما يتذكَّرُ ذلك الرَّسمَ , وتلك اللَّحظَاتِ , ينصحُ الناسَ بعدمِ الذَّهابِ إلى موقعِ القصرِ الْقَديم, فهنالك أرضٌ ملعونةٌ , لا تَجَفُّ على ثَرَاها الدِّمَاء , وحدَثَتْ بها مَذابحٌ على مَدارِ التَّأريخ , ..
ولا شَكَّ سيتكرَّرُ الأمرُ .


مَوْضِعُ القصرِ القديم , طريقٌ أسفلتيٌّ يَشُقُّه , كان موقعُ قصرِهِ القديمِ عندَ إحدى منحنياتِ (النِّيل) , عندَ موضعِ حجرتِهِ وزوجتِهِ بالضَّبط , ..
كانتْ (لَفَّةُ الموت) , السَّيَّارات تَجِنُّ عندَها , وتَكْثُرُ الحوادث , دونَ أسبابٍ منطقيَّة , وتتناثرُ الجثثُ وتسيلُ الدِّماءُ , في ذاتِ الموضعِ الذي سالتْ بهِ الدِّماءُ قديمًا..!!
الحفيدُ وُلِدَ على ذات المترِ المربَّع , الذي خرج فيه جَدُّهُ صاحب القصر القديم إلى العالَم ,
بزمانٍ آخر , كان والدُه يبحثُ عن موضعِ قدمٍ بين الأكرمين , عانى ذُلَّ
الفَاقةِ وانعدامَ العضدِ وقلَّةَ العَشيرة , فألبسَ اِبنَه زَيًّا من زمانٍ آخر , ليس زمانَ جدهم الذي كان ملكاً, كما أنَّهُ ليسَ زمانَنَا هذا , زمانٌ ليس له وجود الا بحفريات الخواجة جوتنبرج وحكايات تجري على افواه اهل البلد بامسياتهم واسمارهم , ..

حكاية الحفيدٌان اللذان ولدا بذاتِ العام , وتسابقا إلي البحث , عن مَجْدٍ لا يَفْنَى وسلطانٍ مُتَوارث , وذِكْرٍ في الْخَالدين , ..
الأوَّلُ صاغَ دينًا توافَدَ إليه النَّاسُ من مجاهلِ (إفريقيَّة) , أما الثَّاني فصنعَ جيشًا , قاتلَ ذاتَ الأفارقة وعملَ على بيعِهِم , واسترقاقِهِم , ..
وردَ اسْمُهُمَا بأسفارٍ كثيرة , وترانيمَ وأغنياتٍ ونُبُوءات , عاشا أكثرَ ممَّا يجِبْ , ..
دينُ الأوَّل صار دينَ الكثيرين , وجيشُ الثَّاني اسْتَرَقَّ ما يُسَاوي أتباعَ الأوَّل , صدقَتِ الرُّؤيَـة , ..
وصارَ الحفيدُ الأوَّلُ (نَبيًّا) جديدًا , حملَ تعاليمَ بعضِ مَنْ سَبقوُه من الأنبياء , لكنَّه مزجَهَا ببعضِ مَا يدْفَعُ بسلطانِهِ ويوَطِّدُ ملكَه ..!
وهناك أيضًا , صدقتِ الرُّؤيةُ الأُخرى , وصارَ رصيفُهُ تاجرَ رقيقٍ محتكرًا لرِقَابِ بعضِ القبائل , جاءتْهُ النُّبُوءَةُ طائعةً , رفضَهَا واختارَ أنْ يكونَ مُقاتلًا , وتاجرَ رقيقْ ,رضَخَ أتباعُ الأوَّلِ لِمَنْ سرقَ هويَّةَ الإله , ورَضَخَ أتباعُ الثاني لِمَنْ سرقَ سلطةَ الإلَه .

النَّبيُّ الكاذب و تاجرُ الرَّقيق يقول عنهما رواة التاريخ : هولاءِ رجالٌ عُظَمَاء .

نُبُوءةُ الكاهن الأعظمْ , أشارتْ إلى عامِ ما بعد ميلادِ المسيح , عَوْدتُهُ إلى الحياة, ثم عودَةُ (الرُّوح) لآلهته , التي حبسَهَا قروناطويلة , ..
قالَ كاهنُهُ بسِفْرِ (عودتِهِ) الخَاصِّ :
ستُنفَخُ فيك الرُّوحُ مرَّةً أُخرى , وستولَدُ على منحنى قصرِكَ هذا , مَرَّةً أُخرى , ستتبعُكَ امرأتُكَ , لكنَّها ستلتقيكَ بمنتصفِ الطَّريق , فقد تُولَدُ هي بمكانٍ آخرَ , ستلتقيها , ورُبَّما تتعارفانِ من الوهلةِ الأولى , وربَّما لا , لكنِ الدِّماءُ ستسيلُ , وستعودُ روحُكَ إلى اللَّمعَانْ , وسيَنْبُتُ حاجباكَ من جديد , لكنْ ، حَذَاري ألا تَقْتُلَ (أُمَّك) مَرَّةً أُخرى , فبحياتِها رِقَّةُ قلبِكَ التي لمْ يُرَدْ لها أنْ تشع ..
أرجعَ البصرَ مرَّتينِ , وما رأي سوى (دخان) ,(دخان ) ليس وراءَهُ (نار) , وقف عند حافةِ النافذة , (نافذة) حجرتِهِ بالقصر , التي منها كان يُخاطِبُ شعبَه , ومنها كان يَحْكُمُ بإعدامِ أعدائه , ومنها نظرَ إلى شعبِهِ فرآها , تقف في خشوعِ الرَّعية , قَرَّبَ زوجَهَا , قَرَّرَ أن يتزوَّجَها , ..
ثمَّ ومِنْ ذاتِ النافذةِ قرَّرَ إعدامَ زوجِهَا , وبذات النافذة أدخلها إلى حجرته , وصارتْ زوجَهُ و(أُمَّ الشَّعْب) ..!!
عالِمُ الآثارِ الألمانيُّ (غوتنبرغ) , عاد إلى موقعِ القصرِ القَديم , أملًا في معرفةِ (أسرار ) , مَا حدثَ هنا , ..
بدأ يبحثُ عن وجهِ صاحب القصر الذي بدأ له من تَحْتِ موضعِ تَنقيبِه , ..
لم يجِدْ أثرًا لِمُوميَائه , وجدَ أربطةَ القماشِ (المُهترئة) التي كانتْ تَلُفُّ المُومياء , على عُمْقِ متريْنِ أوْ أقَلّ ولكنَّ قبرَه كانَ خالٍ ..!!
حين نفخَ الملاكُ الأوَّلُ ببُوقِهِ وتَبِعَهُ الثَّاني , ..
اخْتفى صاحب القصر وَحْدَه , وبَقِيَ عالمُهُ في انتظارِ المَلاكِ الثَّالث , ..
قبلَ أنْ يَنْفُخَ الْمَلاكُ الثَّالثُ بِبُوقِه , ..
كانَ صاحب القصر قَدْ استيقظَ على (سكين) (غوتنبرغ ) وهي تَعْبَثُ بشارِبِه , من فوقِ (الرَّمل) الذي طَمَرَه لقرونٍ حَسِبَها (بضعَ لحظات) ..!!
وجدَ نفسَهُ هكذا , عاريًا , وبعيدًا عنْ قصرِهِ وَحُرَّاسِه , نظرَ حولَهُ في فَزَع , لمْ يُقلقْهُ عُرْيُهُ , بقدرِ ما أقلقَهُ بعدَهُ عنْ قصرِهِ وحاشيتِهِ وحُرَّاسِه , كان الظلامُ قد خيَّمَ على المكانِ من حَوْلِهْ , صاحَ بعنجهيَّتِهِ تلك :
يا حُرَّاااس ..!
لمْ يُجِبْهُ سوى صدَى صوتِهْ , استغربَ للأمر , فهنالك الكثيرُ ممَّنْ يتربَّصُونَ بِهْ , طالبينَ ثأرَهُم منه , فقدْ قَتَلَ بحياتِهِ من البَشَر
ما يَجعله يَخْشَي كلَّ البَشَـر , ..
فلا بُدَّ أنَّ لأحدِ سُكَّانِ (البسيطة) علاقةً مَا بأحدِ ضَحايَاه , تطلَّعَ إلى السَّماء , والرَّملُ مِنْ حَوْلِهِ على مَدِّ (الأُفُقْ) , حاولَ أنْ يُدقِّقَ النَّظَرَ مِنْ حولِهِ ويُمْعِنَ عَلَّهُ يبصرُ حدائقَه أو قصرَه , أو إشارةً إلى مَمْلكتِه , رائحةُ الصَّحراءِ ليستْ كما ألِفَهَا , .تلكَ الرَّائحةُ التي تَخْتَلِطُ مع نسائمِ المساء , التي تَهُبُّ على رمالِهَا , مُحَمَّلةً قبلَ وصولِهَا بعبَقِ خضرةِ ما بجانِبَيِ (النِّيلِ) مِنْ جِنَانْ , لكأنَّ المكانَ لم يكنِ المكان , ..
لكنَّهُ لم يَدُرْ بِخُلْدِهِ قَط , أو يَتَصَوَّر أنَّ الزمانَ أيضًا , لم يكنْ ذاتَ الزَّمان ..!!

(2)
أمسيةٌ ليستْ كأماسيِّ زمان مضى , جَمَعتْ (ود منصور) بوُجَهَاءِ الزَّمانِ الجُدُدْ , (مرزوق الحلبي) و(حمد أبْحِجِلْ) ورفيقِهِما ورفيقِ عمرِهِما (يحي الفلاتي) , تَوَسَّطَهُم (ود منصور) وعلى وجْهِهِ ذاتُ النَّظراتْ , نظرةٌ يتخلَّلَها (احتقارٌ ) قديم , ونظرةٌ تشَرَّبتْ حِقْدَ عشيرةِ (صاحب القصر القديم)
وأقربائهم , على هؤلاء الذين ملكوا زمامَ أمرِهم بعدَ أنْ كانوا مُستخدميهم وخُدَّامَهم ومَنْ عاشوا على هامشِ عِزِّهِم وفَخَّارِهِم الذي بَلَي وطَمَرَتْهُ رياحُ عهودٍ جديدة , ..
كان (مرزوق ) وصاحِباه قدِ استطاعا خلقَ مجمتعٍ جديد , نظامًا آخرَ , يقومُ على العدلِ والمساواةِ واحترامِ الآخرين , جِلسَتُهم هذه كُلَّ مساء , يستمعونَ خلالَهَا على شكاوَى ومظالم ، ويستمتعونَ بشربِ (القهوة) و(الشَّاي) , ويذبحونَ من حَلالِهِم لِقِرَى ضيفِهِم , بينما يعملونَ على حَلِّ مشكلاتِ أهلِ البلدِ سادتُها السَّابقون , جاء أحدُ أحفادِ (صاحب القصر ) شاكيًا , اِقْتَحمَ مجلسَهُم دونَ إذنٍ أو حتَّى تَحيَّة وصاح بوجهِهم :
هويْ يا (مرزوق ) وجماعتو , كيفن بِتْسَكِّنوا (العبيد) في شِقَّ (الحِلَّة) ..؟
ردَّ عليهِ (مرزوق) ولم يَبْدُ عليهِ الضِّيقْ , فكأنَّما أعتادَ على هذا الأمر :
يا ودَّ الأصول , وحفيد الملوك , (عبيد) شِنُو ؟ إنتو لسَّـا ما قادرين تتعلَّموا إنُّو زمن العبوديَّة ده خلاص بح ؟ بعدين ديل ما سكَّنتهم أنا ، ديل سكَّنتْهُم ( الحكومة ) , كان عندكْ قول أمِشْ قولوا للحكومة , ودحين يا تقعد تشرب قهوتنا , يا إمَّا تمشي تنوم بدري عشان تتوكل صبحًا بدري وتمشي تشتكي في المديرية .
قبلَ أنْ ينبسَ الرَّجل ببنْتِ شِفَّة , سبقَه (ود منصور) قائلًا:
يا قريبي , إتَّ بتشتكي الْعب لي للحلبي , الحكاية يا خُويْ حرَّمْ جاطَتْ وأهو (ود منصور) القِدَّامك ده , قاعد يرتعْ في خير (مرزوق الحلبي) حلاق الحمير , و(أبْحِجِلْ ) بتاع الطِّين , و( يحي الفلاتي) الفقير , الدنيا ما يَاهَا الدنيا , و ..,
قاطَعَهُ (أبْحِجِلْ) :
إتَّ يا (ود منصور) قاعد في نُصَّنا وتاكل في خيرنا وتَشْتُمْ فينا , واللهِ أمانة ما قِلَّةْ أدب ..
ضحِكَ (مرزوق الحلبي) وقال :
يا (أبْحِجِلْ) يا خُوي , الجماعة ديل مافي يدَّهم حيلة , ما فَضَّلْ ليهم غير الشَّتيمة والكلام , والكلام عُمْرُو كَتَلْ ليهو روح , ولَّا عَمَرْ ليهو مَخَروبَة , خلِّيهم يقولوا قولُنْ ونحنا نعمل عملنا , (ود منصور) رشفَ رشفةً من قهوتِه , ومضَغَهَا كأنَّما يمْضُغُ لُقْمَةَ خُبْز , ثمَّ رمى بها بجوفِهِ وقال:
يا جماعة كمان الحكاية صَعَبة علينا شوَيَّة , وَحَاتْ الخُوَّة كان جِدِّي حَيْ وشافني قاعِدْ معاكم جِنِسْ القعدة دي , إلا يِطَهِّرني ..
هَبَّ نحوَه (أبْحِجِلْ ) غاضبًا :
واللهِ إتَّا طَهورتَكْ عليْ وحرَّم ما أخلِّيكْ .
حالَ بينهما (مرزوق الحلبي) و(يحي الفلاتي) , الذي ظَلَّ صامتًا كعادتِهِ كلَّما رأي أنَّ الحديثَ لا يَليقُ برجلِ دينٍ مِثلِه .


في زحمةِ اِنشغَالِهِم بالحَيْلولةِ بين الرَّجليْن , خَرَجَ لهم من بين طَيَّات ظُلمةِ اللَّيل رجلٌ ( عَـارٍ ) , فَغَروا أفواهَهُم دهشةً , وسادتْ بينهم لحظاتٌ
من الصَّمتِ قطعها الوافدُ الجديدُ قائلًا بلهجةٍ كانتْ غريبةً عليهم :
أينَ حُرَّاسي ؟
ردَّ عليه (ود منصور) :
حُرَّاسْ منو يَابا , قول وين ملابسي , ده السُّؤالْ المفروضْ تسألوا في حالتَكْ دِي ..!
صاح فيهم بعنجَهيَّة :
إنتو منو , عَبيدْ ولَّا أحرار ؟ مؤمنينْ ولَّا كُفَّارْ ..؟
ردَّ عليهِ (ود منصور) بسرعة :
واللهِ سؤالَكْ في مَحَلُّو , ياهو ده زاتُو الكُنَّا مختلفين فيهو ..
اسْتلمَ (مرزوق الحلبي) زِمامَ الأمرِ بعدَ أنْ خرجَ من دهشتِه :
يا ناس أسُتْروا الرَّاجِلْ بي هِدْمَة وبعدين شوفوهو مجنُونْ ولَّا واعي , ..
أسرعَ أحدُ الصِّبيةِ بإحضارِ ملابسَ منْ ديوانِ (مرزوق الحلبي) وجاءَ بها إلى الرَّجل , ..
ولكنَّهم فوجئوا بأنَّه رفَضَهَا بعنجهيَّةٍ قائلًا :
(الملك) مَا بِلْبَسْ جِنِسْ الهَلاهِيلْ ديل , ..
صاحَ (ود منصور) ضَاحكًا :
إنتَا زاتَكْ يا الغريب (العِرْيَان) جايِ بي نِغْمَة الملك دي , هُو إحْنَا ناقصين ..؟
ردَّ الرَّجلُ العَاري :
أنا (صاحب القصر ) ملك مابين النيلين , إنتو منو ؟
ضحِكَ (حمد أبْحِجِلْ) , وقال (ود منصور) :
الليلة أمانة ما جاكم جِنًّا ما عِرِفتوهو قَبُلْ كِدَه ..!!


حَسِبُوهُ مَعْتُوهًا , ألْقَتْ به الأرضُ فيما تُلقِي به من أصنافِ البَشَـرِ على بلدتِهِم , إلا أنَّ (ود منصور) كان يَرَى غيرَ ذلك , فأخذَه معهُ إلى منزلِهِ وباتَ ليلتَهُ عندَه .
اسْتيقظَ الرَّجُلُ صباحًا , ورَفَضَ اسْتِخْدَامَ مِرْحَاضِهِم وطَالبَهُم بالْعُطُورِ وَصَرَّحَ لهم بأنَّهُ اعتادَ حياةَ القُصُور , أقنعوه بأنَّ البلدةَ لمْ يَعُدْ بها قصور , صرَخَ بوجْهِ (ود منصور) :
وأيْنَ قَصْري ..؟
ردَّ ( ود منصور) :
يازول ما تِسْتَهدى بالله , البلد ده عادَّاني مجنون ومِتحَمِّلاني , مَاناقصين جِنَّكْ دَه , تقول ليهم إنَّكْ ملك , بِمَشُّوها ليك كلّنا مجانينْ سَايْ , لكين قصةْ قصركْ البِتْفَتِّشْ عليهو ده , بَكَمِّلا معاك , وبَكَمِّلْ ليك رايَكْ أرَحْ النَّوَرِّيكْ قصر جدنا الملك عشان ما تَفْلِقْني تاني بي كلامَكْ الخَارِمْ بَارِمْ ده .

أخَذَهُ (ود منصور ) إلى مَوْضعِ القصر القديم , بضعةُ أحجارٍ وأطلالٌ تدُلُّ على أنَّ المكانَ قد شَهِدَ بِنَاءً من طِرَازٍ آخَرَ ,طراز فخم , لكنِه الآنَ أطْلالٌ وبضعةُ (أعمدة) حجريَّةٍ وصخورٌ ضخمةٌ متفرِّقة , ما أنْ رآها صاحبُنا الغريبُ الذي أطلقوا عليهِ لقبَ (العِرْيَان) , حتَّى جَثَى على رُكبتَيْه باكيًا ..
أخرجَهُ (ود منصور ) مِنْ بينِ ثنايَا أحزانِه وبكائِه , وطَيَّبَ خاطرَهُ قائلًا :
يَا (العِرْيَان) ياخُويْ , ده حالْ الدّنيا , عالَم يتْوَلِدْ وعوالِم تموت , قومْ ياخُويْ أرَحْ على ديوان (مَرزوق الحلبي) .
مَضَى معهُ ساهِمًا , ما أن رآهما (أبْحِجِلْ ) قادميْنِ نحوَهم , حتَّى هَمَسَ لصاحِبَيْه :
إتْلَمَّ (المَتعوسْ ) علي (خايب الرَّجا) , بعد ما قلنا (ود منصور) شويَّة راسو أتعدَلْ , جَانا الأجَنَّا مِنُّو ..
قالَ (مرزوق) :
لكين عليَّ الحَرَامْ يا (أبْحِجِلْ) ياخُويْ , الزّول عليهو هَيْبَةْ مُلُوكْ , وَمشيتو مَشيَةْ ملِكْ فوقْ جَاهو ..
(يحي الفلاتي) تَمْتَمَ قائلًا :
قادِرْ الله , الْمَاشَافْ (النَّاظِرْ الصَّغير) , حفيدْ (الملك ) بَسْ يِعَايِنْ لي (الْعِرْيَان) ده , واللهِ الخَالِقْ النَّاطِقْ , ..
(مرزوق الحلبي) :
إتَّ يا (أبْحِجِلْ) ويَا (حاج يحي) بِتْسَوُّوا زَيْ ما سَوُّولْكُم النَّاسْ قَبُلْ , الرَّاجِلْ بِتْسَمُّوهُو (العِرْيَان) , زَيْ ما زمان النَّاس سَمّوكُم (الفلاتي) و(السّنجك) أسِّي المَابِنَّهَا زمان , بِتَقبَلُوها للرَّاجِلْ كيف ؟
رد (أبْحِجِلْ) :
صدَقْتَ واللهِ يا (مَرزوق) يَاخُويْ , لكين الرَّاجِلْ ماعْرِفْنالُو إسِم وهُو مَاسِكْلَنَا في حكاية (الملك) دي , وما راضي يِقُولَّنَا إسمُو مِنُو ؟
(مرزوق) :
خَلُّوهو يِجِي علينا وبعدين أنا بَتْفَاهَمْلَكُم مَعَاهو , عَسى ولَعلَّ رَبَّنَا يِقَدِّرنَا نعرِفْ أصْلُو وفَصْلو وحِكايتو ..!


أمضيَا يَوْمَهُمَا بديوان (مرزوق الحلبي) ومضيفتِه التي يتوافدُ إليها أهلُ البلدِ لقضاءِ حوائجِهِم , والْفَصْلِ بينهم بنزاعاتِهِم , كان (العِرْيان) أوَّلَ الأمرِ يَجْلِسُ بينهم صامتًا يَتَفَرَّسُ بوجوهِهِم , ثُمَّ أثارَ إعجابَهم حينَ صارَ يُشَارِكُ بالحديثْ , خاصَّةً فيما يَتَعَلَّقُ بالفَصْلِ بالنِّزاعاتْ , ..
عَلَّقَ (أبْحِجِلْ ) على الأمر :
وَحَاتْ الله زولَكْ كلامو كلامْ حُكَّامْ ..
مضى به (ود منصور) نحوَ بيْتِهِ , إلا أنَّهُ بمنتصفِ الطَّريقِ سألَهُ :
ما مُمكِنْ أنوم في (ديوان مرزوق) ..
أجابَه (ود منصور) :
ومالَكْ مَابي بيتي ..؟
ردَّ (العِرْيَان) :
واللهِ المكان هناك أوْسَعْ والنومة تَصْلُحْ لَيْ أكتر , عادَ بهِ إلى (الدّيوان) وَرَحَّبَ (مرزوق ) بمَبيتِهِ عندَه , ..
أشرقتِ الشَّمسُ وأصبحَ النَّاسُ على وفاةِ (العريان) الغَريبِ على سريرِ (مرزوق ) بديوانِه , تناقلَ النَّاسُ الخَبَرَ , وَجَدَهُ (مرزوق الحلبي)
وقدْ فارقَ الحياةَ أثناءَ نومِهْ , هَبُّوا لِدَفْنِه , أرادوا دَفنَهُ بالمقابرِ الجديدة إلا أنَّ (ود منصور) أصَرَّ على دَفْنِهِ بِمَقْبَرَةِ أهله أحفاد ملك مابين النيلين ..
قالَ (مرزوق) :
يا (ود منصور) أهلَكْ ديل مابوافقوا وبِسَوُّولْنَا مشاكل إحنَا ما صدَّقنا رَاقُوا ..!!
(ودمنصور) :
خَلَّهُم عَلَيْ .. الزّول زولي وبِنْدَفِنْ عندَ أهلي ..
دفنوه هناك , فقدِ اِكتشفوا أنَّ أحفاد الملك لَمْ يَعُدْ يَعْني لهمُ الأمرُ الكثيرَ , لمْ يَعترضوا على الأمر , وشَهِدوا دَفْنَ الرَّجلِ وصَلُّوا عليه .



(ودمنصور) بعدَ حادثةِ ظهورِ الغريبِ (العِرْيَان) الْمُفاجِئِ وموتِهِ المُفَاجئ , صارَ أكثرَ غرابةً , وجَنَحَ إلى صَمْتِهِ وعُزلَتِه , فكأنَّما عاد إلى الأيَّام التي أعقَبَتْ قتْلَهُ لزوجتِهِ ودفْنِهِ لها بضريحِ جده الملك , كانَ يَمشي ويُحَدِّثُ نفسَهُ , ولا يُسَلِّمُ على أحَدٍ وترَكَ مُجَالَسَةَ (مرزوق) وصُحْبَتَه , اسْتَمَرَّ على هذا الحالِ بضعةَ أشْهُر , ثُمَّ عاد فجأةً وأطَلَّ عليهم ذاتَ مساءْ , حَيَّاهم بإيمَاءَةٍ صامتةٍ وجلسَ , صمتوا في انتظارِ ما سَيُسْفِر عنه خروجُه عن عزلتِه , وكعادتِه لم يَطِقْ (أبْحِجِلْ) صبرًا , نَظَرَ إليهِ مَليًّا ثمَّ قال :
إتَّ يا(ود منصور) جَنّيتْ زَيْ قُبَّالْ , ولَّا ده كان شنو ياخُويْ ؟
ردَّ (ود منصور) بعدَ أنِ استلقى على ظَهْرِهِ وبَصَرُهُ إلى السَّماءْ :
ياجماعة الشُّفتُو أنا خَلَّاني أسْكُتْ تَبْ , خُفْتَا تقولوا الزّولْ جَنَّا , عَمَلتَا زَيْ الأنبياء صُمْتَا عن الكلام ..
(أبْحِجِلْ) :
شُفْتَا شنو , يازول ورِّينا الله يرضَى عليك ..؟
(مرزوق الحلبي) قَطَّبَ حاجبيْهِ ووضعَ يدَهُ اليُسرى على طَرَفِ شارِبِهِ وقال:
الزّول رجعْ لي حركات زمان زاتا , الله يستر ,..
(ود منصور) :
أها مَا قُلتَا ليكم , إنْ سَكَتْنَا جَنّينَا وإنْ نَضَمْنَا جَنّينا .ثمَّ هَبَّ واقفًا وغادرَهم قائلًا :
معاكم سلامة ..
لاحقَهُ (أبْحِجِلْ) :
تعال يازول , تعال ماتسمع كلام عمَّكْ المِخَرِّفْ ده ,..
لكنَّهُ لم يتوقَّفْ , ولمْ يَستَجِبْ لندائِهْ ,(أبْحِجِلْ) غضِبَ على (مرزوق) ونظرَ إليهِ شَذَرًا وصاحَ بوجْهِهْ :
الله يِمْرِضَكْ يا (الحلبي) , الرَّاجِلْ عندو كلامًا خطيرْ , وخبرًا عجيبْ و ..
وبدأَ حوارٌ آخرُ كحِوَارِ أيَّامٍ خَلَتْ , حتَّى قَطَعَهُ صوتُ (يحي الفلاتي) :
دَايِمْ هو , الليلة النَّاس كأنَّهم ناسْ زمان , حتَّى (ود منصور) رجعْ ياهو زولنا الزَّمان ..

(3)

(أبْحِجِلْ) لَمْ يَجِدْ إلى النَّوْمِ سبيلًا ليلتَهَا , فقدْ أرَّقَهُ مَا يُخفيهِ (ودمنصور) منْ أمرِ الغريب (العِرْيان) , لَحِقَ بهِ بِبَيْتِهِ واللَّيلُ قدِ انْتَصَفَ , وجدَه قد استلقَى على سريرِهِ ساهمًا كعادتِه , جلسَ قربَهُ وحدَّثَهُ هامسًا :
إتَّ يا (ود منصور) داسِّي شنو علينا , أنا بَعَرْفَكْ من يومك لمَّا تسكُتْ مِتْلَ السَّكْتَة , أمانة ما بكون وراكْ العَجَبْ ؟
تنَهَّدَ (ود منصور) وقالَ وكأنَّهُ يُحَدِّثُ نفسَه :
الدّنيا يَامَا فيها , شُفْتَا فيها وسِمِعْتَ العَجَب , لكين جِنِسْ حكاية جِدِّي (الملك ) دي أصلُو ما رأيت ؟
(أبْحِجِلْ) :
وجِدَّك ياخُويْ الدَّخَّلُو شنو في حكايةْ الغريب (العِرْيَان) ؟ إتَّ إتْعولَقْتَا تاني وجَنّيتْ ؟
(ود منصور) :
الغريب (العِرْيَان) ده مَا يَاهو جِدِّي ( الملك ) مَرَقْ من قَبروا وُجَانَا ؟
(أبْحِجِلْ) مَدَّ يَدَهُ وهُوَ يَسْألُه :
إتَّ ميرُودْ يَا زولْ ولَّا جِنَّكْ تَاوَرَكْ ؟
(ود منصور) :
ما قُلْنَا ليكم إنْ سَكَتْنَا مَجانين وإنْ نَضَمْنَا مجانين , حَرَّمْ الرَّاجِلْ ياهُو جِدِّي (الملك) , أنَا مَا شُفْتُو ولا حِضِرْتَا زمنُو , لكين سِمِعْتُو وشُفْتُو وَصَدَّقْتُو ..!
صمَتَ (أبْحِجِلْ ) تاركًا للرَّجُلِ فرصةَ الحديثْ , جلس (ود منصور) بطرَفِ سريرِه , وواصَلَ حديثَهُ هامسًا :
في الليلة دِيك أخَدْني علي الْمَقبرة القديمة , مكان القصر القديم , الْمكان الْبِحَفِرْ فيهو الْخَوَّاجَة دَاك ..
(أبْحِجِلْ) :
أيْوَة الخَوَّاجَة أبْ اسْمًا غريب , إسمُو قَلَبْنَا سمّينَاهُو (جون) , أصْلُو إسمُو قريبْ منْ كِدَه ,..
كان (أبْحِجِلْ) يَعْنِي (جوتنبرغ) ..
(ود منصور) :
اليوم داكْ سَأَلْتَ الْغَريب (الْعِريان) عن إسمو وأصْلُو وفصْلُو , قال لَيْ :
أنا مَلِكْ البلد دي منْ ( مصر ) ليْ حدود ( يوغندا ) ..
قُتَّ ليهو ياخُويْ ( الملك ) ده جِدِّي وماتْ ليهو زَمنْ , ناس تقولْ ألفِ سنة وناسْ تقولْ خُمْسُمِيَّة
, وناسْ تَقُولْ ( الملك الكبير) سيد الإسِمْوالقصر القديم كان قبلَ الإسلام , والحِضِرْ الإسلام دَه حَفيدو
سمّوهو علي إسمُو , وبَعْدُو شَالْ الإسِم جِدِّنَا (الملك) الاخير ..
قال لَيْ :
أنا ما بَعَرِفْ الناس البِتْقُولْ عليهُم ديل , لكين وَدِّيني علي مكانْ قَصُرْ جِدَّكْ البِتْقُولْ عليهو ده.
وَدّيتُو والرَّاجِلْ كأنُّو مَسَّاهو جِنْ , لَغْوَتُو إتْغَيَّرَتْ , وزولَكْ بِقَى يجري ويِصْرِخْ في المكان , ودّيتُو البيت , في نُصَّ الطَّريق , قال لَيْ وَدَّيني (ديوان مرزوق الحلبي) يبيتْ هناك وَدّيتُو , لكين العَجيبْ ..
قالَها وصَمَتْ ..
لاحَقَهُ (أبْحِجِلْ) :
العجيب شِنُو يَا (ود منصور) ..؟
(ودمنصور) :
إنْ قُتَّ لَكْ ما بِتْصَدِّقْ , وبِتْسَوَّني مجنون سَايْ ؟
(أبْحِجِلْ) :
أنا راجِلْ ماني صِغَيِّرْ وشُفتَا كتير , قولْ يا زول ؟
(ود منصور) :
بَعَدْ وَدّيتْ الزّولْ ديوان (مرزوق) , رجَعْتَا البيت ورَقَدْتَا في سريري ده , غَفّيتْ , ونُمْتَا نومَا مِن يوم كَتَلْتَا المَرَه مَقطوعةْ الطَّاري ما نُمْتَ جِنْسَ النّومة دي , فجأة جاني زول قَوَّمني من سريري ده وساقني معاهو على ديوان (مرزوق) , لقيتْ لَكْ (العِرْيَان) نايم والزّول السَّاقني من سريري ده يَاهو زاتو (العِرْيَان) وَقَفْتَا بيناتُم زَيْ المَجْنون , (العِرْيان) وَاقِفْ جنبي , وَ (العِرْيَان) زاتُو , نايم قِدَّامي , بِقِيتْ أنازِعْ في نفسي بَدُورْ أصحَا , مَسَكْني من يَدِّي , قَالْ لَيْ :
يا (ود منصور) ده جِدَّكْ (ا لملكالكبير) , قامْ من قَبْروا بِدُورْ مُلْكُو , لِقَا البلدْ مَا ياهَا البَلَدْ والزَّمنْ مَا ياهو الزَّمن , كانْ عاشْ بيناتْكُم تاني , ما بِتْشُوفوا إلا (الدَّم) , دَحين أخَنْقُوا , هو رَاجيكْ , تَرَجِّعُوا مكان مَا جَا ..
قُتَّ للزّول :
أكُتْلُوا إتَّ ، إتَّ مَالَكْ مَا عِنْدَكْ يدّين , ..؟
الرَّاجِلْ قال لَيْ : أنا يا زول أكْتُلْ نَفْسي كيف ..؟ الكَاتِلْ والمكْتُولْ مُو واحِدْ , أكُتْلُوا ينُوبَكْ ثوابْ في خَلْقَ الله , وتمسحْ ذنبَكْ القديم , الْمَرَه دَمَّهَا في رَقَبْتَكْ لِسَّـا , والدَّم مَا بِمْحَاهَو إلا الدَّمْ ..

زولك يا (أبْحِجِلْ) شالَ يدّيني وَخَتَّاهُم في رَقَبْتُو , وخَنَقتُو لمَّا سَلَّم وِدَاعتُو , ..
(أبْحِجِلْ ) :
أهَا وُبَعَدَا سَوِّيتْ شِنُو ؟
(ود منصور) :
بَعَدَا صِحِيتْ علي صوتْ السَّكَلِي , جَريتْ علي ديوان (مرزوق) سِمِعْتَ خَبَرْ (العِرْيَان) .
(أبْحِجِلْ) سَمِعَ روايتَهُ تلكْ , وتَوَجَّهَ نَحْوَ بيْتِهِ ونامَ ليْلَتَهَا وفي نفسِهِ شَيْءٌ منْ تَصْديقِ الرَّجُلِ أكثرَ مِنْهُ تَكذيبْ ..!

(*)

(مرزوق الحلبي) و(حمد أبوحجل الشايقي) و(يحيى الفلاتي) شركاء الغربةِ ووحشةِ اللَّيل الذي لا تسمعُ فيه سوى هذه الضَّحكاتِ المتقطِّعةِ الْمَاجنة.. أو ذلك الصراخَ المضمَّخَ بألَمٍ ,يُرجِعُهُ كلُّ سامعٍ إلى مُشتهاه.. ويُفسِّرُه حسبَ حالتِهِ النَّفسيَّة.
قطعَ صَمتُهم صَوتَ (يَحيى الفَلاتي):
إنتو يا اخوَانّا، قضيّة وأولاد سالم مع الجماعة.. حصلْ فيها شنو؟! الوليد هرب ولفَّقولوا التُّهمةوَلّا سوَّاها بالجد ؟
ساد الصمتُ برهةً كأنّها عامٌ من الزّمانِ قبلَ أنْ يستدرِكَ يَحيى :
البِنَيَّة.. مَرَةْ (ود منصور) كأنّوا الأرض انشقّتْ وبِلْعَتَا.. يا ربِّي صَحِي هربتْ مع الْجَنَا ؟؟
رد عليه حمد أبْحِجِلْ :
والله عِلْمَهَا عند الله.. لكينْ البِنَيَّة ماهَا بِنَيَّةْ عيشة لي قِدَّام.. عليَّ الحرام قاعدة مع ود منصور
بدون نَفِسْ.. واللهِ عَفيتْ مِنَّها كان هربتْ مع الْجَنَا.
قاطعهم مرزوق متهكمًا:
بالله شوف الفلاتي.. والسّنجكْ طَلَعلَهم لسان.. يا اخْوَانَّا ما تْسُكْتُوا وتْشُوفوا أكل عيشكم مالْكُم ومالْ البلدْ وحكاويها.. واللهِ بتدوروا تسَوُا نَفِسْكُم منْ أهلا.. هي.. اصحوا إحنا غُرَبَا وناس معيشة ساكِتْ.. وأهلنا قالوا زمان:
يا غريب كون أديب.
ردّ عليه أبْحِجِلْ غاضبًا:
يا خُويْ.. عشرَ سنينْ في البَكَان ده.. ولِسَّه غُرَبَا كنا معاهم في الخير والشر.. بَنينالُمْ وعَمَّرنالُمْ وبقينا مِنَّهُن وفيهُن.. برضوا لِسَّه تقول غُرَبَا.. حَرّم العارفِنُّو نحنَا عن البلد دي الناظرْ ماهو عارفو.
ضَحِكَ يَحيى الفلاتي.. وطَأْطَأَ قائلًا:
هويْ يا السَّنْجَكْ.. كمان بقيتْ تجيبْ سيرةْ الناظر زاتو.. يا اخوي أنا مَاني قَنْعَانْ من رِويحتِي.. والجماعة مِتَلَقِّينْ حِجَجْ.. وَعديمينْ عُشْرَة. عَلَيّ الْحَرَامْ يقِلْبُوا علينا زَيْ المابعرفونا.. ودَّعتكم الله.
لم يَكَدْ يُكْمِلْ جُمْلَتَه حتَّى غادرهم وابتلعتْهُ الظُّلمة..
إلا أنّ حمد أبْحِجِلْ صاح مخاطبًا له:
واللهِ فَلَّاتي جَدْ.. أمِشْ يَالرَّهَوْ الخَوَّاف , إن شاء الله يضبطوك معاها.. عَامِلْ فيها في حالك وكل يوم مع (بت رحمة), هاك يا ودودا.. وكلامًا دُقَاقْ.. البِنَيَّة التَّقولْ الفلَّاتي سوَّالا شِي.. عَلَيَّ الحَرَامْ تجيهو التَّقولْ مسحورة.
ثُمَّ الْتَفَتَ لرفيقِهِ مرزوق:
واللهِ يا مرزوق يا اخُوي , قُتَّ ليهو سَوِّي لَيّ شِي لـ (بت الإمام) خَلَّها تَعَشِقْني , باقي هي بايرة ما لاقْيَه اللِّي يعَبِّرا, أعَرِّسا وأسكنْ معاها في حوش أبوها الكبير ده.. يَبْقَالي مع ناس البلد نَسَبْ، ووليداتي يَبْقَالُمْ أصِلْ وفَصِلْ، وورِثْ في أرضهم الْمَا لاقْيَه الْيَزْرَعَا دي.
نهضَ مرزوق وهو يُهَمهِم:
لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.. والله جِنِسْ كلامكُم دَه يوَدِّي في داهية.
وتبعَ يحيى تاركًا أبْحِجِلْ لأحلامِهِ وآمالِهْ.

كانَ ثلاثتُهُم غرباءَ عنِ المكان , لا يَمُتُّونَ إلى أهلِهِ بصلةِ القُربى أوِ النَّسَب ,جمعتْهم صفةُ الغريبِ الَّتي يُطلقها أهلُ البلدِ على الوافدينَ عليهم, كان (يحيى الفلاتي) الفقير، مُعَلِّم القرآن..
و(حمد أبْحِجِلْ) الشَّايقي , البَنَّاء الَّذي يعملُ على بناءِ البيوتِ من الطُّوبِ اللَّبِن ويَبرَعُ في ذلك..
و(مرزوق) الصَّعيدي , (صاحب الكير) الَّذي يَمْتَهِنُ صناعةَ الأواني وصيانتَها ,ثمَّ إنَّهُ حَـلَّاق يَقُصُّ شعرَ البشرِ والدَّوابِّ على حد سَوَاء.
جمعتْهم غربتُهم ووحَّدَ بينهم فقرُهم , وآخَى بينهم هَمُّ العَيْشِ معَ قومٍ لا يَرَوْنَ فيهِم سوى أنَّهم فلاتيٌّ فقيرْ, وحَلَبيٌّ نَافِخُ كيرْ , وسَنْجَكٌ بَنَّاءْ ,عُزلتُهُم عَنْ أهلِ الْحَيِّ جعلتْ من ثلاثتِهِم أصدقاءً مُقَرَّبينَ وشركاءَ سُكْنَى ومَأْكَلٍ ومَشربٍ وندماءَ لَيْلْ.
كان القومُ دائمًا مَا يَتَجاهلونَ وجودَهم بينهم إلا عندَ الْحَاجَة , لا يَدْعونَهُم إلى أفراحِهِم ولا يَحْفَلونَ بحُضُورِهِم مُعَزِّينَ أو مُوَاسين ,كانتْ عزلتُهُم وغربتُهُم أمرًا مَحتومًا, لكنَّها لمْ تَكُنْ أمرًا مُدَبَّرًا أو مُتَّفقًا عليهِ , كانَ القَوْمُ هكذا , هكذا وُلِدوا، وهَكذا عاشُوا..
(يحيى) و(مَرزوق) و(حَمَد أبْحِجِلْ ) , ثُلاثيَّةٌ ذاتُ خطوطٍ مُتَوَهِّمَةٍ لا يحبون رؤيتَهَا إلا عندَ قضاءِ حَوائجِهِم.
حتى بعد أن جَمعوا مالًا لا بَأسَ بهِ , وبَنَوْا بُيُوتًا من الحجرِ والطُّوبِ اللَّبن , اِمْتَلَكوا الحميرَ وَالْمَاشية , وأجَّروا أرضًا وأفَلَحُوها واخضَرَّتْ وأثمرتْ , حصدوا وبَاعوا ولَبِسُوا الدَّمُّورَ وأكلوا لحمَ الضَّأن , وناموا على فُرُشٍ مِنْ القُطْن.. (عَنَاقْريبْ) عاليةٍ منسوجةٍ من السَّعَفِ المُلَوَّن.. إلا أنَّهم مَازالوا غرباءَ مَنبوذِين..
اِنقطعتْ صلاتُهُم بِمَوَاطنِهِم الأصليَّة , لمْ يَعُدْ (يحيى) يَذكرُ ديارَ الفَلَّاتة , لمْ يعدْ (مَرزوق) يَحِنُّ إلى أرضِ الصَّعيد, وانقطعتْ أخبارُ (حمد أبْحِجِلْ ) عنْ أهلِهِ فانقطعوا عَنْهُ ,أرادوا أنْ تكونَ لهم هُنَا جُذُورًا وأهْلًا وعَشيرةً لا يَحفَلونَ بالماضي , فهنا غَدُهُم ومُستقْبلُهم, ماضيهم لمْ يَحمِلْ سوى مَآسٍ ومعاناةً وشَظَفَ عَيْش ,صاروا ينامون وعلى أجفانِهِم أحلامٌ كأحلامِ أهلِ البلدْ ,وكلُّ يومٍ يَمُرُّ تتزايدُ فيه ثرواتُهُم، وتَخْضَرُّ أراضيهم، وتتوسَّعُ أعمالُهُم ,كانوا بمَثَابةِ جِذْعٍ آخَر، يتعمَّقُ في هذهِ الأرضِ وتتشبَّثُ بها جذورُهْ , وأهلُ الحَيِّ في شُغلٍ عنْهُم , فَهُم في أعيُنِهِم غُرَبَاء وأبناءُ سَبيلْ , لا شَكَّ يَشُدُّونَ الرِّحَالْ.

(4)

أشارَ إليه جَدِّي قائلًا : هذا ( ود منصور ) كُنَّا يومها نتجوَّلُ في سوقِ السَّجَّانة,ثم رَبَّتَ على كَتِفي وأضاف:
ألْحَقوا بدور أكَلِّمو..
سألته وأنا أنتقِلُ بنظري بينَ زِحَام الْمَارَّةِ :
يا جدي.. حَا أعرف ليك (ود منصور) بتاعَكْ ده كيف في الزَّحمة دي ؟؟
أجابني وهو يُسرِعُ الخُطَى:
هداك , أبو جلابيَّة بيضَا ده..
وما أكثرَ الجلابيب البيض في سوقِ السَّجَّانة, حِرتُ في أمرِه , ولما رأى منِّي انصرافًا عن تلبيَةِ رغبتِهِ في اللَّحاقِ بالرَّجل ,سارعَ هو للِّحاقِ به وسرعانَ ما غابَ عن ناظري ,لَحِقْتُ به وأنا ألْهَثُ , وجدتُّهُ يُحادِثُ رجلًا أشيبَ الفَوْدَيْن , قَوِيَّ الْبِنْيَة , على وجْهِهِ جُمُودٌ كالَّذي تَراه على وجوهِ الْمَوْتى , لا تستطيعُ أنْ تُميِّزَ من انفعالاته شيئًا ,عانقه جَدِّي عناقاً حاراً وطفقا ينظرانِ إلى بعضِهِما البعضِ دونَ كلام , بعدَها تصافحَا وَتَفَرَّقا.
سألتُهُ: ده منو يا جدي؟!
أجابني دون أن ينظرَ في وجهي : اييييه دنيا, ده (ود منصور) , سنين طويلة مافي حد شافوا كان مسجون كَتَلْ مَرَتُو ودَفَنَا جنب ضريح جدوأياميها اتهموا بيها وليد من عيال (أولاد سالم), قالوا هربتْ معاهو أتاريهو (ود منصور) كَتَلا ودَفَنَا وبعدها بقي زي المجنون , هايم علي وَشُّو , سجنوهوا خمس سنين و بعدها اختفى ,ثم واصل كأنّه يُحدِّثُ نفسَه:
الله يرحما , كانتْ مَرَه سَمْحَة , كانتْ غريبة من ناس بحري , عَرَّسَا وجَابَا البلد , تَمَّتْ معاهو سنة وبعدها اختفتْ يوم كَتْلَةْ عمِّي , كانتْ أيَّام عجيبة.. آآآه يا زمن.
أجلَسَني بجوارِهِ على مَسْطَبةٍ أمامَ بيته القديم في السَّجَّانة ثم بدأ كعادتِهِ في الاستمتاعِ بالْحديث عن زمانٍ مضى وقومٍ غَابرين وحكايا كأنَّها ألفُ ليلةٍ وَليلة , كنت أظنُّهَا من نَسْجِ خيالِهْ ,كنتُ أسمعُها ولا أُصدِّقُ منها شيئًا , لكنِّي أحفظُهَا عن ظهرِ قلب.. لماذا ؟! لستُ أدري..
رُبَّما لأنَّني أثِقُ في رَجَاحَةِ عقلِه , وربّما كنتُ في دواخلي أُصدِّقُه , فهوَ رغْمَ كِبَرِ سِنِّهِ ، لكنَّهُ ليس مِمَّنْ أدرَكَهُمُ الْخَرَفْ ..
حكايا جدي كانت دائمًا مَا تَشُدُّني , بعضُ رفاقي حين أقُصُّها عليهِمْ كانُوا يَتَّهِمُونَني بالجنون ,أنا الَّذي كنتُ أُصَدِّقُهُ دون أدنى ريبة..
أعادني إلى أيامِهِم الَّتي كُتِبَ عليَّ أن أعيشَها معهم بأثرٍ رَجعيٍّ.. مَوْتى وأحياء ,وأساطير وأفراح ومآسٍ , أبطالُها جميعًا لم يَرَني أحدُهُم.. لكنَّني أكثرُ النَّاسِ معرفةً بهم..

كيمو الزين
تحياتي يا عريس
بعد تنتهى قول عوك .
واتا عامل إيه بالله ؟

Quote: بعد تنتهى قول عوك . واتا عامل إيه بالله ؟

طلحة ..

تحياتي ياصديقي انتهي كيف لي اسي 6 سنة شغال عليها ابت تخلص :)

أنا بخير ياصديقي والحمد لله ..

محبتي




________________________________
رسل لي ايميك الجديد وصلني منك تحذير من القديم

(*)
أخذتُ بيدِهِ أُساعدُهُ على صُعُودِ الدَّرَج..
لم يكنْ أكثرَ من ستِّ خَطْوَات , تُصبِحُ بعدَها داخلَ الفناءِ الكبير , ضربَ بعصاهُ الأرضَ .. وقالَ كأنَّهُ يُخاطِبُ المجهولَ : أنا جيتْ اكتر
من سبعين سنة، لكين الطّريق ياهو الطَّريق.. كل شيء اِتْغَيَّر.. لكين ريحتكم لسَّه مالية المكان.. ومحبَّتكم في قلوبنا زَيْ نار أبواتكم ,ما بِتْمُوت.
ثمَّ تنهَّدَ وجلسَ على الأرض , وأردَفَ بصوتٍ تَعَمَّدَهُ خافتًا:
الله يرحمِكْ يا (بتَّ البدري) ,الله يِرْحَمِكْ يا (أم كلتوم).. الله يرحمكم جميعًا.
كان معي.. ولكنّه ليس معي ,مذ حطَّتْ أقدامُه هذا المكانَ تغيرَ كأنَّه ليس جَدِّي الذي أعرفُه.. انتصَبَتْ قامتُه، واختفتْ هذه الهالاتُ السوداءُ حولَ عينيه كأنّه فجأةً نفضَ عنه غبارَ السِّنين وعاد شابًّا قويًّا مُتَّقدَ الذِّهن.. حاضرَ الذَّاكرة.
سألته :
- على مَنْو بتترحَّمُ يا جَدِّي.. (بت البدري) منو ؟؟ و(كلتوم) شنو ؟؟ بعدين يا جَدِّي إنتَ واقفْ بدون عَصَايَة.. وشَكْلَكْ مختلف.. مَالَكْ يا جَدِّي؟!
ردّ دون أن يلتفت نحوي , كان بصرُه هنالك، عند نقطة لا أتبيّنها:
(بت البدري) دي ما ياها أُمِّي.. و(أم كلتوم) دي كانتْ مَرَتي.. ماتتْ هنا في الحوش ده.
قلت في حزن :
- جدي إنتَ عيّان ولا شنو؟ ماتتْ وين؟ ماتت هنا في نص السينما ؟ كنت بتحضروا في فيلم؟
رد غاضبًا:
- فيلم شنو يا مَسْخُوت؟ ده كان بيتنا هنا, هنا كان حوش الناظر , حوش البقر.
كتمتُ ضحكةً ساخرةً كادتْ أن تخرجَ رغمًا عنِّي , ورددت:
- جدي الله يهديك , أرح البيت , دي سينما كلوزيوم، من قمنا مافي حاجة غيرا هنا، ومِنْ قُمنَا بِنَعرِفْ بيتنا هناك.
أرجعتُ الأمرَ إلى تَقَدُّمِهِ في السِّن وضَعْفِ ذاكرته ,أخذتُه إلى بيْتِه ,ظَلَّ صامتًا طِوَالَ الطَّريق ,كانَ ساهمًا واجمًا..
يُحَدِّقُ في.. لا شَيْء يحدق في الفراغ .

(5)
جاءهم يحمِلُ مِخْلاتَهُ بيمينه, حافيًا متوَشِّحًا ثوبَهُ الْمُتَّسِخْ ..
أمامه تتراقصُ أحلامُه ويطاردُه من خلفِهِ ماضٍ مأساويٌّ حزينٌ عنوانُهُ الفَقْرُ والظُّلمُ وقلَّةُ الحيلة ,كل ما يَمْلِكُ كان حفظُهُ لكتابِ اللهِ وصوتٌ عذبٌ يردِّدُ به آياتِهِ وعجمة لسانه, تقودُكَ إلى هناك حيث ولد ونشأ, إلى ديار الفولاني في غرب إفريقيا.
كان حُلْمُ (يحي الفلاتي) كَغَيْرِهِ من أبناءِ عشيرتِهِ حَجَّةً يكسبُ بعدَها لقبًا يوازي الباشوية , لقب (حاج ) , حَطَّ رِحَالَهُ عندَ ملتقَى النِّيلين. وَجَدَ من أهل المكان كرمًا ومروءةً وحُسْنَ ضيافة , لم يَكْدِرْهُ سوى تلك النَّظرةِ الاستعلائيَّةِ الَّتي فهم مردَّها إلى أصلِه الفُولاني.
استقرَّ بهِ المَقَامُ بينهم يُحَفِّظُ أبناءَهمُ القرآنَ والتَّجويدَ مُقابلَ بضعةِ قروش ,أقطعوه أرضًا وبَنَوْا له منزلًا من الطُّوبِ اللبن, وهيَّأوا لَهُ باحةً للدَّرسِ , كان كبيرُهم يُجِلُّهُ ويحترمُه , لكنَّه ظلَّ في نظرِهم الفلَّاتي الذي لا يَرْقى لأنسابِهِم التي بها يُفاخِرون بين الناس.
لم يكنْ يلقى ذلكَ التقديرَ وتلك النظرةَ الآدميَّةَ التي لا يقفُ أمامَهَا أصلٌ ولا تُنْتَقَصُ عُجمتَهُ منها ذراعًا إلا حينَ تأتيهِ (بت رحمة) , بقامتِها القصيرةِ وجسمِها المكتنزِ ووجهِها البيضاويّ ,كانتْ تُعاني مرضًا نفسيًّا, وفي أعرافِ أهل البلد أنَّ المرضَ النفسيَّ هو مرضُ (فُقَرَا) والفُقَرَا
في عرفِ أهل السودان هم أولياءُ اللهِ الصالحون من المتصوِّفة وحَفَظَةِ القرآن,ويطلق عليهم هذا الاسم لزُهْدِهم وإعراضِهِم عنِ الدُّنيا ومباهِجِهَا.
كان هذا هو خيطُهُ الأوَّلُ الذي قادَه إليها,قرأَ لها القُرآنَ ,أرقاها كلَّ ليلةٍ رُقْيَة , كانت تأتيه كلَّ يومٍ بضعَ دقائقَ وتغادرُهُ في عَجَل , لكنَّ صورتها لم تكن تبرح خيالَه..

لم يكنْ أهلها راضينَ عن تزويجِ قريبِهِم (رَحَمَة) ابنتَه من (يحيى الفلاتي) .بل إنَّهم لم يتصوَّروا يومًا أنَّهم سيُصاهرون رَجُلًا مِثلَه, لكن والدها أوفى بوعده الذي قطعه ل(يحي الفلاتي) :
لو عالجتها يازول بعقدلك عليها ..
وكان أن عالجها وتزوجها ..
في ليلةِ مَوْلدِ ابنِهِ (عمرَ ) ركضَ (يحيى الفلَّاتي) نحوَ (ود منصور) يسألُهُ أنْ يوصلَهُ للمَشْفَى ,هو وزوجته (بت رحمة)، فقد جاءها المَخَاضُ ,ونصحتْهُ قابلةُ البلدِ أن يُسرعوا بها للمشفى ,كانتِ السيَّاراتُ تلك الأيام تُعَدُّ على الأصابع , كان (ود منصور) يَمتلكُ سيَّارةً من طراز (لوري) ,كان الوقتُ متأخرًا قليلًا طرقَ (يحي الفلاتي ) بابَ (ود منصور) ذلكَ اللَّيل ,جاءه (ود منصور) والنومُ على أجفَانِهِ يَرْسُمُ خطوطًا من الضيق والضَّجر, سأله:
في شنو يا (يحيى).. خير ؟؟
وضغطَ على أحرفِ كلماتِهِ تلك كأنّه يقولُ له:
ماذا تُريدُ في هذا الوقت؟؟
ردَّ (يحيى) جزعًا : (بت رَحَمَة) مِضَّايْقَة.. بنْدُورْ نودِّيها الاستباليَة..
رد (ود منصور) متهكِّمًا:
الاستبالية باللّيل ده.. هي بتدور تجيبْ لَكْ (علي الكرَّار).. ما تْخَلِّيهَا للصَّباحْ !.
رغم أنَّهُ لَبسَ ثيابَه وأوصلَهُم إلا أنَّ نفسَ (يحيى) مازالتْ بها شيءٌ من الغِلِّ تجاهَ (ود منصور) ,بعدَهَا رَوَى (يحيى) لصديقَيْهِ (مرزوق) و(أبْحِجِلْ ) ما كانَ منْ أمرِهِ معَ (ود منصور)..
قال (مرزوق):
الرَّاجل مَعَذُورْ .. ماشيَّلو في نُصَّ الليل؟!
رد يحيى:
يعني أخَلِّي الوليَّة تموت؟! هي قالولَكْ عرَّسْنَاهَا بالسَّاهل.. عليكْ أمانْ الله أنا من يوم عرَّسْتَهَا بَطَّلتْ أحْلِفْ بالطَّلاقْ .. والبِحَلِفْ بالطَّلاقْ.. ما بَصَاحبوا حتَّى..
ضحِكَ (أبْحِجِلْ) وتدخَّلَ قائلًا:
شوف يا (يحيى) يا أخوي.. أنا أدِّيك الخُلاصة في تلاتة حاجاتْ في البلد دي ما بتتغيّر..!
رد مرزوق ساخراً:
يلا.. اتفسَّحْ فينا يا بتاع الطِّين!
تجاهلَه (أبْحِجِلْ) وواصل موَجِّهًا حديثَهُ ليحيى:
شوف يَا يحيى يا اخُويْ.. الزَّيِّي ده عربي.. والزَّيَّك ده عَبْ.. والزَّيْ مرزوق أخويْ ده حلبي.. دي الخلاصة.. أها شِنْ قولك؟
نظرا إليه في أسًى ,فقدْ أصابَ كَبِدَ الحقيقة !

(*)

شكرا على لطفك أخي / عبدالله فقير ..

محبتي ..

(*)
انتظرتُهُ كلَّ يوم..
هناك عند منحنى النَّهر , حيثُ الْتقتُه للمَرَّةِ الأولى ,حين وَفدَ إليهِم ,غابة صغيرة كانت تُعرَف باسم غابة (عبد القيوم) ,لا أحدَ يَعرفُ من هو هذا الـ ( عبد القيوم) الَّذي حَمَلتِ الغابةُ اسمَه ,عندما يسأل السَّائلُ : مَنْ هو عبد القيوم ؟ تسمعُ جملةَ أقوالْ , كل شيء في هذا البلد عُرضة للتَّأويل . حتَّى تاريخِهِ يَرويهِ كُلٌّ على طريقتِهْ.
(بت رحمة) لا يَهِمُّها مَنْ هو (عبد القيوم)، ما يَهِمُّهَا أنَّها الْتقت زوجها (يحي الفلاتي) هنا أوَّلَ مرَّةٍ وهنا يجب أن تنتظِرَ عودتَهُ , تَجلِسُ بينَ عيدانِ القَصَبْ وتقضي وقتَها في قطفِ أوراقِ اللُّوبيا , الَّتي تُزرعُ عَقبَ انحسارِ الفيضان ,تظلُّ هكذا حتَّى المغيب , ثم تعودُ أدراجَهَا تنظرُ نحوَ بيوتِ البلدِ من أسفلِ النَّهر.
تتنهَّدُ في حسرةٍ على ما أصابَ البلدَ من نعمة. دخلتِ الكهرباء ,وكَثُرتِ السيَّارات وقلَّتِ المُروءة , كانت تحبُّها كما كانتْ ( بلدةً تغرقُ في الظَّلام) , ينامُ أهلُها وفي أجفانِهِم حنينٌ الشمسِ وضوئها الَّذي بدأَ لها أنَّه سِرُّ تَحنانِهِم وتَوادُدِهِم ,ربطَتْ بينَ غيْبَةِ زَوْجِهَا ( يحيى الفلاتي ) ومَجيءِ الكهرباء , فقد رَفَضَها (يحيى) وساندَه في ذلك كثيرٌ من أهلِ البلد , كادوا يتقاتلونَ فيما بينهم ، بينَ مُؤيِّدٍ ورافِضْ ، حتَّى حَسمَ الأمرَ ابنُهُ (عمر ) حين تصدَّى لأبيهِ قائلًا:
شوف يا (حاج يحيى) إنتَ رُحْتَا ولَّا جيت فلَّاتي ضيف وماكْ من أهل البلد سَكَّنوك ومَكَّنوك وناسبوك بس ده ما بِدِّيك الحق في إنَّك تعطِّلْ تطوُّر البلد..
قام (مرزوق) من بين الجمع وصفعَه على وجهِهِ وهو يُردِّدُ ثائرًا:
يا جنا بتعاير أبوك بي جنسو بعدين إنتا فاكر نفسك شنو ؟ إنتا فلَّاتي من صُلُب (يحي الفلَّاتي) ده..
ردَّ (عمر) وهو يُزمجِرُ غاضبًا:
أنا ود (بت رحمة).. ود (الناظر).. أنا ماني فلَّاتي..
(حمد أبْحِجِلْ ) وابنه (يحيي الصَّغير) و(أولاد سالم) , قاموا ليَفصِلوا بين الرَّجليْن وعَنَّفوا الصَّبيَّ على سوءِ أدبِهِ ووقاحتِه ,أرادَ (حمد أبْحِجِلْ ) أنْ يُطَيِّبَ خاطرَ (حاج يحيى ) تَلفَّتَ حوله فلم يجِدْ له أثرًا ,لم تكد تمضي اسابيع قليلة حتى غادرهم (يحي الفلاتي) الى الحج ولكنه لم يعد بعدها وانقطعت اخباره عنهم وسرت شائعة وفاته , (بت رحمة) لم تكنْ تصدِّق نبأَ وفاتِه , انتظرتْهُ سنواتٍ طويلةً كانتظارِها لأهلِهَا للموافقة على تزويجِهِما ,كلُّ حياتِها معه عنوانُها انتظارٌ طويل , انتظارُها له الآن ربَّما لن يكونَ الأخيرَ , كثيرٌ من القادمينَ من الحِجَازِ أخبروها أنَّهم رَأوْهُ هناك ,زوجها (يحيى الفلاتي ) بشحمِهِ ودمِهِ كانَ يلازِمُ الحَرَمَ, لا يخرُجُ مِنْ صحنِهِ أبدًا ,يقضي أوقاتِهِ في خدمةِ حُجَّاجِ بيتِ اللهِ ومُعتمريه , يطوفُ بينهم حَافيًا عارٍ ، والرَّأسُ حليقه , يسقي هذا ويطعمُ ذاك , لا يتحدَّثُ أبدًا ,صائمًا عنِ الحديث، كما أنَّهُ صائمٌ عنِ الأكلِ والشُّرب , صائمٌ مُذْ حَطَّتْ قدماه أرضَ الحِجَاز. ثمَّ ما تَكَدْ تَصَدِّق هذهِ الرِّوايةَ حتَّى يأتيها آخرُ وقد رآه في ليبيا , وقدْ عَمِلَ بالتِّجارةِ وصار من أغنياءِ (طَرابلس) وتجَّارِها الكِبَار , يَلبَسُ الحريرَ وعلى فمِهِ غليونٌ من الفضَّة لا يفارقُهُ أبدًا.
ثمَّ ما يلبَس أنْ يأتيَ آخرُ بخبرٍ آخرَ عن رؤيتِهِ في مكانٍ لا هو بالحِجَاز ولا هو بليبيا، وإنَّما هو داخلُ البلد , في الجنوبِ يُتَاجِرُ في العاجِ والأبنوسِ , أو في الغربِ يعمَلُ في تجارةِ الْجُلُودْ ,لم تكن تَرُدّ على هؤلاء ولا على أُولئك , تكتفي بالقَوْل :
كانَ حَيْ بِعُودْ .

(6)

غريبٌ أمرُ هؤلاءِ القَوْم ,عجيبٌ أمرُها هذه البلدة.. لا يُرضِي أهلَهَا شَيءٌ..
كلما يكمل جدي رواية قصة البلدة وأهلها تجدني دائماً ما أهتم بالتفاصيل دون غيري , لكن الحياةُ لا تَحْفَلُ بالتَّفَاصيل , تَمُرُّ أحداثُهَا على مَنْ عايشَهَا ، وفيها ما فيها مِنْ قُسُوَّةٍ وعَنَتْ ,تَحْسَبُ فيها الثَّوَاني كأنَّهَا اللَّيالي الطِّوَال , وتَمرُّ لياليها كأنَّها أعوام ,لكنَّها سرعانَ ما تصبح في عُرْفِ الماضي، وعلى لسان جدي تجري بضعَ كلماتٍ تختزِلُ المآسي وتَنْسُجُ من أحرفِ الكلامِ عقدًا من زمانِ الماضي ,هذه الكلمةُ السَّاحرة , (الماضي ) دائمًا ما يكونُ أجملَ ما في حياتِهم , رغمَ أنَّهم قد يعيشُون حاضرًا جميلًا زاهيًا ,ربَّما كانوا موعودينَ بِغَدٍ أزْهَى وأجمَل ,إلا أنَّهم دائمًا ما يحنون إلى ذلكَ الماضي ,يتنهدون حسرةً ويذكرُونهُ وفي حُلُوقِهم ذلك المَرَارْ , أنفسُهم دائمًا ما تَزْهَدُ فيما تمْلِكُ ,وتهفو إلى ما أضاعوه من ماض ,لم يكن جدي يتَّفِقُ معي في هذا الأمرْ ,غريبٌ أمرُ هذا البلدِ , أهلُهُ يُحْظَوْنَ بكلِّ شَيْءٍ ممَّا يَحْلَمُ به غيرُهم, إلا أنَّهُم يُصِرُّونَ على
إفسادِهِ, أراضيهِمُ الواسعةُ آلَتْ إلى بوَارْ , أُصُولُهُمُ الطَّيِّبةُ اختلطَتْ بأنسابَ كثيرةٍ لا تَرقى لأنسابِهِم ,يقتتلون فيما بينهم والعدوُّ يتربَّصُ بهم يرقُبُهم عن قُرْب..
أحاطتْ ببلدتِهِم ثلاثةُ أحزمةٍ على شكلِ مستعمرات.. ينزَحُ أهلُها للبلدِ قبلَ شُـرُوقِ الشَّمسْ ,يَفترِشونَ الأسواقَ , يبيعونَ كلَّ شَيْء..
حتَّى إذا غَرُبَتْ الشَّمسُ بدأتْ هِجْرتُهمُ العكسيَّةُ في كلِّ اتِّجَاه ,إلا قلب البلد, فقلبُها كان حِكرًا على أحفاد (الناظر) , كان أهلُ البلدِ يحتجُّون حتَّى على أمرِ تناسُلِهِم كانوا يَرَوْنَ أنَّهم يتناسلون في مستعمراتِهِم كالْقَمْلِ والذُّبَاب , يُعَلِّمونَ أولادَهُم في مدارسِ البلد ,ويَحرِصونَ على ذلك.. تَارةً تراهم مُسالمين , وتارةً كأنَّهم في انتظارِ ساعةِ الصِّفْر ,يَغيبونَ في الأعياد , فتبدو البلدةُ كأنَّها هي تلكَ التي كانتْ على أيَّام (الناظر).
كنت أرى أن (الناظر) الذي ظل جدي يحدثني عنه باعجاب , لم يكن سوى طاغية مثله مثل (الإسكندر الأكبر) , و (نابليون) و(هتلر) , كان يَحْلَمُ بالسَّيادةِ على العالمِ الذي يعرفُه , فكلُّ طاغيةٍ كان عالَمُه تختلفُ حدودُه عن عالمِ الطَّاغية الذي يليه , طموحاتُ الطَّواغيتِ يحدِّدُ سقْفَها العلماءُ , ثمَّ يروحونَ ضحيَّته , ويضيعُ قبْلَهم العالمُ الذي صنعتْهُ الْمَعرفة , ليبدأَ حلمٌ جديد , يستنِدُ على مَخْطُوطاتِ التَّأريخ , لا يعترفُ الإنسانُ بأنَّ الجَنَّةَ التي وصفتها المخطوطاتُ قد آلتْ إلى زَوَال , بل يبدأُ في الإستعانةِ بالتَّنجيمِ والأحلامْ , للبحثِ عنْ جنانٍ ضائعة ,صنعها العِلْمُ في مكانٍ ما من العالم , حتَّى يأتي أمثالُ (غوتنبرغ) , ليخرجونَهَا من تحتِ الأنقاضْ , حضاراتٌ أتتْ على نفسِهَا .

ولم يكن جده ( الملك الكبير ) صاحب القصر القديم سوى طاغية اخر , كانَ يتهيَّأُ لغزوِ العالَمِ عبرَ خُطَبٍ كانَ يُلقيها على شَعْبِه , شعبُه الذي كان يُعاني ظلمَهُ , والغريب انه كان يتوقَّعُ أن يساعدَه هذا الشَّعبُ على تحقيقِ حلمِه الشَّخصيّ , أخرج جوتنبرج مخطوطات كثيرة من تحت أنقاض القصر الفديم , أعطاني جدي إحداها وهو يفخر أنه حفيد الملك العظيم , أطلق ا جوتنبرج على المخطوطة إسم ( ملحمة الشعراء الجوعى ) وقال أنها كانتْ تُغنّى على حَوَاشي دولتِهِ سرًّا , يُقالُ إنَّه عَذَّبَ (الشعراءَ والفنَّانين) و(العلماءَ ) , وحَبَسَهم بأقفاصٍ صغيرةٍ في سراديب على صخورِ البحر , جوَّعَهم , وجعلَهم يَنظرونَ للماءِ الذي يَرَوْنَه من تحتِ سراديبِهِم , ويحلَمونَ به, .كانوا يَرَوْنَه حُلْمَ نجاتِهِم , كتبوا أشعارَهم بدمائهم , مات أغلبُ شعراءِ دولتِه جَوْعَى , وكذلك علماؤُها وفنَّانوها , لمْ يَبْقَ من (الشَّعب) سوى (المُقاتلين) , ظَنَّ (الملك) أنَّ المقاتلينَ هم فقط مَنْ يصنعونَ الإمبراطوريَّات , أسمى عاصمتَه على إسمِ مَعْـدِنٍ نفيسٍ انتشَرَ بنواحيها ومثَّلَ مصدرًا لثروتِهَا وقوَّتِهَا , ..
قالَ جوتنبرج : إنَّه يُوازي مَعدِنَ (اليورانيوم) بالحضاراتِ اللاحقة , كان بِطَانَتُه المُقرَّبون يملكونَ مفاتيحَ خزائنِهِ ومناجمِهِ دونَ غيرِهم , وبهِ أسَّسوا ملكَهُم الْعضُـود , وبه صنعوا تلك الحضارة , وبه أيضًا أذلُّوا شعبَهم .
يقول جوتنبرج :ذات عام قتل ( لملك ) أحدَ وُزرائه ويتزوَّجُ من زوجتِهْ , (الإغريق) وأقوامٌ أُخرى تتربَّصُ بإمبراطوريَّتِه , وهو غارقٌ بينَ فخذَيْها , جلس على عرشِهِ ذات مساءً , اِستقبلَ تقاريرَ قُوَّادِهِ ووزرائه , فجأةً نهضَ عن عرشِهِ مُتثاقلًا وصاحَ بِهِم :
أجَّلُوا كُلَّ شَيءْ ..
قال وزيرُه الأوَّلْ :
(ولكن يامولاي , العدو يتربَّص بنا وشعبُكَ جائع , ودولتُكَ بمهَبِّ الرِّيح , ..)
واصلَ سيرَهُ نحوَ مَخْدَعِها وكأنَّه لم يستمعْ إلى وزيرِه , إرتمي بأحضانِهَا , بدأ مضاجعتَهَا , أحسَّ أنَّه هنا فقط ملكٌ حقيقيّ , بين أفخاذِها المفتوحةِ أمامَه , وهيَ تُحدِّقُ به في شَغَف ,أعطى عالَمَهُ ظهرَه , وأنكفَى على وجهِهِ بينَ فَخْذَيْهَا , ومن شبَّاكِ غرفتِهِ بقصرِه الذي يرتفعُ آلافَ الأمتار , بَدأتْ نيرانُ النِّهاية , وسحبُ الدُّخان ,وأنقض عليه أعداءه .

(*)
إمبراطوريَّةِ صاحب القصر القديم , كما تَصَوَّرَهُا (جوتنبرج) لم تكن مقنعة بالنسبة لي , رغم أنه ترك لجدي مخطوطة قديمة أسماها جوتنبرج مخطوطة (الحُكَماءِ الثلاثة) ,لماذا لا أدري ربطت بين الماضي والحاضر حين سمعت هذا الإسم وتخيلت (مرزوق ويحي وأب حجل) , رغم أن مصير الحكماء الثلاثة في عهد صاحب القصر القديم , كان مختلفاً , تروي المخطوطة أن صاحب القصر القديم قتلهم وهم نيام ,جرى دمُهم على بلاطِ قصورِهم , دون أن يجَفَّ ,لم يحفلْ بأمرِ موتِهم كثيرًا , وعلى المخطوطة رسومات غريبة , تصور صاحب القصر القديم يجلسَ على عرشَهَ يُراقبُ السَّماء , السماء كان لونُها أحمرًا , الدماءُ هي التي كانتْ زرقاءَ , ظلَّ يُراقبُ السَّمَاءَ مِنْ خلالِ سقفِ بلاطِهِ الزُّجاجيِّ ,
..ثُمَّ راقبَ جيشاًكان قد أرسلَهُ لقتال أعدائه , أظنُّهُ كان يستهدِفُ (مصر) , التي كان حاكمُهُا يطمَعُ بمملكته
هوأيضًا كان يطْمَعُ بالسَّيْطَرةِ على (مصر) , تفيد المخطوطات أن شعبُه كانَ قادرًا على صنعِ كلِّ شئ , كانتِ (المَرْكِباتُ) الفخمة تتنقل بينَ نواحي الإمبراطوريَّةِ تجرها أفيال ضخمة , , كان كلُّ شَئٍ بإمبراطوريَّتِهِ يُوحي بأنَّهم أقوياء , حتى إنَّ (جوتنبرج) كتب على حواشي المخطوطة أنهم علموا (الغيب) وأن صاحب القصر القديم قد تركَ رسائلَ خطيَّةً إلى (أرسطوطاليس) و(سقراط) , وُجِدَتْ بعدَ قرونٍ وكأنَّهُ يعلمُ أنَّهم لا شَكَّ سيولدُونَ ,كانتِ الرَّسائلُ تَحمِلُ عناوينَهُم , وأسماءَهم.

وهنالك جملة كتبت تحت صورة صاحب القصر القديم :(أنَا مَنْ وَهَبَهم الْحياةَ ..وأنا مَنْ أخَذَهَا) وهو يقِفُ على مَقْرُبَةٍ من جثثِ قتلاه , كانت دماؤهم الزَّرقاءُ تغطِّي أرضَ بلاطِه , وهو نظرَ إليهِم بتَشَفٍّ , كانت والدتُه التي تتوسَّطُ جثَّتَها جثَثُ القتلى ,
تنظُرُ إليهِ كانها تُحَدِّثُهُ قائلةً : لماذا قتلتني يا بُنَيَّ ؟

تفيد مخطوطات (جوتنبرج) أن (نهر النيل) كان يجرى من منبعِ بالقمر , كان جريانُهُ من أعلى إلى أسفل , تَصُبُّ مياهُهُ جنوب إمبراطوريَّةِ صاحب القصر القديم , تَدُقُّ الأرضُ مُخلِّفَةً حَفْرًا عميقًا , ثمّ ما تَلبث أنْ تجريَ على الأرضِ ناحيةَ الشمال , لتستقبلَها قنواتٌ وسُدُودْ , ومَجَاري بينَ حدائقَ أشجارُهاذات شكل غريب .

(*)

خَيَّمَ الصَّمتُ على الْمَكان , انشغلَ كلُّ منهم بما في يدِه ، كأنَّه يُبَرِّرُ شرودَهُ والتزامَهُ الصَّمتَ على غيْرِ عادتِهِم حين يجمعُهم شاطئُ النَّهر..
(حمد أبْحِجِلْ) طفق يُنَظِّفُ شِبَاكَهُ الَّتي عَلِقَتْ بها بعضُ حَشائشِ النَّهرِ وطَميِهِ الَّذي يأتي كُلَّ عامٍ في نفسِ الموعدِ كأنه ساعي البريد الَّذي ينقل لهم خبر دنو فيضان النيل الذي يُنْذِرُ خيرًا وَشَرًّا.
(مَرزوق) رَاحَ يُنَظِّفُ مِقَصَّهُ العتيقَ مستخدمًا رمالَ الشَّاطئِ حتَّى لَمَعَتْ أنصالَهُ وبدَأَ كأنَّه يَعُدُّهُ لذَبْحِ بهيمَةٍ وليسَ لقَصِّ شعرِ إنسان.
أمَّا (يحيى الفَلَّاتي) فقدِ انشغلَ عنهم بقراءةِ بعضِ آياتِ الْقُرَآن.. رُبَّمَا يَتَحَجَّجُ بِهَا عنْ التَّحَدُّثِ معهم، واحتمال سخريَتِهِم على أمرِهِ وأمرِ (بت رَحَمَة) الَّتي صارتْ زوجًا لَه، وأُمًّا لابنائِه.. وَمَازالَ أهلُها يعاملونَهُ وَكأنَّه عَبْدٌ لَهُم.
قطعَ ذلكَ الصَّمْتَ صوتُ (يحيى الصَّغير) ابْن (حمد أبْحِجِلْ) وهوَ يَجْري نَحْوَهُم صائحًا مُلَوِّحًا بيديْهِ كأنَّهُ يحمِلُ خبرًا خطيرًا رُبَّمَا أخرجَهُم مِنْ عُزْلَتِهِم لِيَعيدَهم إلى صَخَبِهِم ومُشَاحناتِهِم, فَـأْيًّـا كانْ الخبرُ لابدَّ أنَّهم سينقَسِمُونَ حولَهُ كعادتِهِم , سينتَظِر (أبْحِجِلْ) حتَّى يُبْدي (يحيى الفلاتي) رأيَهُ ليأخذَ جانبَ المعارضة.. بينما سيرفُضُ (مَرزوق) رأيَهُما كعادتِهِ لا يَقبلُ بشيءْ , دائمًا ما يَجيدُ اِلرَّفضَ والمعارضة.
وما كادَ الفتى يقتربُ منهم حتّى رَمَى بما في جُعْبَتِهِ صائحًا:
الخواجة لقى كنز ... الخواجة لقى كنز
قاطعه ( يحيى الفلاتي ) : يا ولدي كنز شنو ؟ الخواجة ده ليهو خمسين سنة بحفر في بكان القصر القديم ده ويشيل ويرص في الحجار ويطلع في جلود الغنم والفخار ويقرا في الكتابة الغريبة ديك ويسافر بلدو , يتملو فيها سنين وتنقطع أخبارو والجماعة يقولوا ياحليلو (جون) مات ,يرجع تاني زَيّ (الكديس).. عندو عشرة أرواح.
سرعان ما حدّد (أبْحِجِلْ) مَوقفَه من الأمر معارضًا لِرَأي (يحيى)، بالطَّبع :
يَا بَهيمَة.. المَرَّة دِي شكلو لقالو دهب , القصر ده قصر جد (الناظر) , وعليّ الطَّلاقْ قالوا كان ملكاً قوي خلاص وعندو خزاين قدر القطر , كلها مليانة دهب .
لم يُخَيِّبْ (مرزوق ) ظَنَّهُم وحافَظَ على طبيعةِ الأشياءْ .. حين صاح في وجوهِهِم:
(جون) شنو البلقالو كنز ويكلم أهل البلد ؟حرم كان لقالو قطعة دهب واحدة الا يدسها, ده خواجة يازول وكافر مابخاف الله ,ثم إنتو يا سَجْمَانين صالِحْكُم شِنُو؟! إنتو بالكتير متفرِّجين في البلد دي , إتْخَلقْتُوا عشان تتفرَّجوا وبَسْ..
تَخَيَّرَ (الصَّغير يحيى) مَوْقعًا لجُلُوسِهِ يَتَوَسَّطُ ثلاثَتَهُم , فكأنَّمَا يُعَبِّرُ عن حَيْرَتِهِ في أمرِهِم,ثمَّ راحَ يتنقَّلُ بينهم بأعينِهِ الصغيرةِ الحائرة وعلى وجهِهِ يلوحُ سُؤال :
أنت يا أبوي.. أخير حكم (الملك ) القديم ده وَلَّا (الناظر) وَلَّا (الحكومة) الاسي دي ؟!
رمى الفتى كلَّ أوراقِ حَيْرتِهِ هكذا بِوُجُوهِهِم دونَ مُقَدِّماتٍ .. وكأنَّمَا تَعَمَّدَ إربَاكَهُم.
ردّ أبوه وهو يَحتمي بشباكِهِ المُتَّسخةِ وفي كلماته ذلك المَرَار:
يا ولدي.. أنا جدي كان في زمن (الملك) سنجك بَنَّا.. وأبوي في زمن (الناظر) سنجك بَنَّا.. وفي زمن
(الحكومة)الأسي دي مافي شي إتغيّر.. برضو ياني نفس السنجك البَنَّا.. اسأل عمّك (يحيى).
وكأنَّما انتظرَ ( يحيى الفلاتي ) دورَهُ فقال دون أن يعطي للفتى فرصةَ التّعليق:
أنا جدي اظنو في زمن (الملك ) عَبْ.. وابوي في زمن (الناظر) عَبْ.. وفي زمن الحكومة دي أنا ياني نَفْس العَبْ ,كدي أسأل حكيم الزّمان عمَّك (مَرزوق) ده يمكن يفيدك.
أمَّا ( مَرزوق ) فقدِ اتَّفقَ معهم على غيرِ عادتِهِ فقال:
وأنا شرحوا.. يَاني (مرزوق الحلبي).. حلَّاق الحمير ونافخ الكير.. الملوك والنظار والحكومات كلَّها ما زَحْزَحتني من مكاني.
مَرّ عليهم (ود منصور) على حمارِهِ العجوز.. ألقَى عليهم السّلامَ قبل أنْ يبادِرَ
أحدُهم بردِّ تحيّته صاح فيه الفتى:
يا (ود منصور) أخيرْ حكم الملك ولَّا الناظر ولَّا الحكومة الاسي دي ؟؟
رد (ود منصور) دون أن يلتفتَ إليهم.. ودون أن يتوقف:
أخيرْ الاستعمار الإنجليزي.
وراحَ يضرِبُ على ظهر حمارِه بقسوّةٍ كأنّه يُعجِّلُ في الابتعاد , وعادوا يناقشون أمر عثور (جوتنبرج) أو (جون ) كما يطلقون عليه على كنز الملك صاحب القصر القديم .

فوق..

حتى يتسنى لنا الوقت ..
فى هذا المساء.. للاطلاع..

(*)

سلمت أخي عمر عبدالرحمن ...

محبتي ...

(*)

اووو دندون من تحت الباب ..:)

أو دينا خالد بتاعة الفيس بوك , (كوسي العرس في الفيس بوك بتلقيهو)او كما قال حسن موسى ...








____________________________________________________
بيني وبينك دفعت 500 ريا ل , لكن الأستاذ / محمد زين الشفيع كملا مجاناً كتر خيرو ..

(7)

لَمْ يَكُـنْ هنالكَ أحَدٌ يستطيعُ رَدْعَه ,تَعوّدوا على أنْ يمتثلوا لأمرِه وعوّدوه ,يقالُ إنّه ورِثَ ذلك عن جدِّه الملك صاحب القصر القديم , تقول مخطوطات (جوتنبرج): إنّ ذلك الجَدَّ كان يحكُمُ ما بينَ النِّيليْن (الأبيض) و(الأزرق)، حتَّى حدودِ سنَّار جنوبًا, ويقولُ بعضُهم إنّ ملكَهُ لمْ يتجاوزْ جبلَ الأوْليَاء ,لا أهميَّةَ لذلك , ذلك عهدٌ قد وَلّى ,ومملكةٌ قد بادَتْ ,كان (الناظر) جبّارًا مثل جده (الملك) فحسب..
أمّا جدّتي , حفيدته , فكانتْ تقولُ: إنَّه كان (صالحًا) ,(وَرِعًا), (وَليًّا) من أولياءِ الله , وَرِثَ ذلك عن جدِّه الأكبرْ، الذي درسَ
بالأزهرِ الشّريف، وصارَ مُفتيًا بمِصْرَ، ثمّ هاجرَ جنوبًا حتّى تُوتي ,وتزوَّجَ ابنةَ الشيخ حمد ود أمريوم , فأولدها جدَّهم الأكبرَ الذي ارتحلَ بها جنوبًا، فأسَّسَ الخلاوَى، وأقامَ المساجدَ، ودرسَ على يده جمعٌ من علماءِ الشرقِ والغرب ,وكانتْ عزوتُهُ ومكانتُه دينيَّةً وروحيَّةً، حتَّى حوَّلها أبناؤها من بعدِهِ ملكًا عَضوضًا ,ففسدوا وأفسدوا مَا بناهُ الأوّلونَ , فأصابتهم لعنةُ إلى يومِ الدّين, حتى عهد جدِّهم الأصغرْ ,الَّذي فرّقَ طلابَ العلم وجمعَ من حولهِ طالبي الدّنيا.
كان الحيُّ عند الشروقِ كغيرهِ من أحياءِ الدُّنيا , يصيح الديك، تبدأ بعدَهُ الدَّواب في مناجاةِ بعضِها البعض , تلك المناجاة الحزينة ,بعدها يبدأ العمل , تأخذ الحياةُ دورتَها الرَّتيبة.. لا شيءَ يُستغرَب ,بعد المغيب، يَغرَقُ الحيُّ في ظلمةٍ داكنة تتراقص , أمّا الجميعُ خيالاتٌ ورؤى ,
تصيبُ الحيَّ لعنةٌ سوداء , فلا صوتَ إلا لماجِنٍ أو عِرْبيد.
لا تَمتدُّ الأيادي إلا ضاربةً أو صافعة , ولا تُمَدُّ الأرجلَ إلا ركلًا أوْ هرولةً من اللاشيءِ أوِ المجهول , أو ربَّما من عَدُوٍّ تراه رأيَ عَيْنْ.
وحين تشرِقُ الشمسُ من جديد ,يعودُ كلُّ شيءٍ إلى أصلهِ ومرجعِه , ينسى الجميعُ ما كان بالأمس , لا أحدَ يحصي الخسائر ,فكأنَّما الجراحُ تلتئمُ وحدها, ولكأنّما الأعراضُ لمْ تُهْتَك , ولا الحرمات قدِ انتُهِكَتْ.
كان الأغرابُ فقط يَلحظونَ ذلك , فكأنَّما على أعيُنِ القومِ غِشَاوة ,تجيئهم نهارًا , تُقسِمُ إنَّكَ لمْ تَرَ ولمْ تسمعْ أكْرَم وأنبل خلقًا من القوم ,تجيئُهم ليلًا ,وإن كنتَ من أسعفهم حظهم وخرجوا على أرجلِهِم من غيرِ سوءْ، تُقسِمُ على أنَّ القومَ من عجينةِ الشياطين , يحسبُكَ السَّامعُ إمَّا مُبالغًا أو مجنونًا.
كان (الناظر) كبيرهم ,قمَّةَ هذا الْجنون , كما أنَّهُ أيضًا قِمَّةُ تلك الحَفَاوةِ وذلك النُّبل , كان مُسيْطِرًا على الأمر نهاره في شأن, ولِلَيْلِهِ شؤون حتّى ذلك النَّهارْ، جَاءهُ الْفَتى وهوَ مستَلقٍ على بطنِهِ كعادتِه , تحتَ تلكَ السَّيَّالة , كانتْ (سكينه) كعادتِهَا أيضًانهارًا على عضدِهِ ,في غمدِها الَّذي صنعَ من جلدِ جاموسة , ربَّما أخطأت طريقَهَا إليهم.
وقفَ الفتى على مقربَةٍ منه , ثم خاطبه في أدبٍ شابهَ التَّرَدُّدْ:
- خالي أديني سكينك أسِنَّها ليك.. أنا ماشي سوقَ الجبل.
لمْ ينظرْ إليْهِ , لَمْ يرفعْ رأسَهُ , لمْ يَنْقلبْ على ظهرِه ,كان بين النوم واليقظة , أجفانه ثقيلة ورأسه عار , وقعت عمامته على الأرض ,كان خائرًالا يَقْوَى عَلَى رفْعِهَا , يداهُ ممدودتانِ على الأرض على جانبَيِ (العنقريب) الصَّغير ,لا يَقوَى على رَفعِهما ,أَوْمأَ للفتى إيماءَةً دَلَّتْ على الرِّضاء , وكأنَّه يأمرُهُ بأن يمُدَّ يدَه ويستلَّها من غمدِها.
تردَّدَ الفتي قليلًا ,ثم اسْتجمعَ شجاعتَه, مَدَّ يدَه ببطءٍ وأخذَها.
وقف الفتى مكانَهُ لا يُحرِّكُ ساكنًا, حتَّى سمعَ شخيرَهُ وتأكَّد أنَّهُ عاد يَغُطُّ في نومِهِ العميق ,اقتربَ منه ,ولمعتْ سكينُهُ تحتَ أشعةِ شمسِ النَّهارْ ,
وَجَزَّ عنقَ (الناظر) من الخلف , وسالَ الدَّمُ نهارًا للمرَّةِ الأولى .

برافوووووووووووووووووو

احييك يا مبدع, وشكراً لك كمال وأنت تنشد اسمك فى ما تكتب.

بالله عليك ما تقطع نضم اللؤلؤ.

وبا حبذا لو تميت نضم عقود قديمه, ناقصاها كم لؤلؤة واكيد جوهوه الختام.


تحياتي

(*)

شكراً أخي عماد ..
أتمنى أن أكون عند حسن ظنك ..
ربنا يسهل إن شاء الله ونكمل ...

محبتي ...

(*)
ليلة مقتل (الناظر) , ليلةً لَفَّها ظلامٌ من نوعٍ آخَر ,ليلةً لمْ يشربوا فيها خَمرًا، ولم يَهتِكوا عرضًا , ليلةً خَلَتْ من العُنف ,فيما عدا حادثة قتل (الناظر) , الذي اِلتفُّوا حولَ جُثَّتِهِ مذعورين , بعثوا لأهلِهِ في القوز ,أقسموا لخالِهِ شيخِ القوز إنَّهم وجدوه هكذا , وأنَّهم ما فعلوها, ولا يجرؤون.
أقسمَ خالُهُ شيخ القوز على أنَّه لنْ يَدْفِنَ , وَلنْ يَضمَّهُ باطنُ الأرض قبلَ أن يسبقَه مَنْ فَعَلَهَا إليه ,أوْقدوا سِرَاجَهُم ودُقَّتْ نُحاسُهم , ورَاحَ خالُه يرقصُ الْعَرْضَة , وهو في كاملِ عدته وعَتَادِه , ثوبِهِ وملفحتِهِ وسيفِهِ ودرعِه.
رَكِبَ فَرَسُهُ وجَالَ بين القوم .نزلَ عن صهوتِه ودارَ بينهم , يضعُ سيفَهُ على عنقِ هذا فيتملَّكهُ الذُّعْر، وينظر إلى آخر يكاد يطيرُ عقله جَزَعًا ,مَا أرْعبَهَا من ليلة ,إخواتُهُ النَّائحاتُ أقسمْنَ أنْ يُقَطِّعنَ مَنْ فَعَلَها بأسنانِهِنّ ,وَخارجُ الْحَيِّ، كانَ رجالُ الشُّرطة يترقَّبُونَ في حَذَر، فهم أيضًا لا يجرؤونَ على التَّدخل.
لم يفتقدِ الفَتَى أحد , ولمْ تَحُمْ حوْلَه شُبْهةٌ , فليسَ الفعْلُ فعلَ صبيةٍ ,أطَلَّ فَجرُ ذلكَ اليومِ ولم يَزَلْ جُثمانُهُ مُسَجًّى ,وعنقريبُهُ الصَّغيرُ في مكانه تحت السَّيالَة ,وما جَفَّتْ دماؤُهُ بَعْد.
خَيّمَ الظَّلامُ على الْغَابةِ الَّتي تُحيطُ بالْحَيِّ ,جَثَمَتْ هذه الليلةُ الليلاءُ بأحداثِها الداميةِ على صدورِهم كأنَّها دهرٌ , كلُّهم يتساءلون:
مَنْ سيدفع ثمنَ هذه الْفِعْلَة؟.
كانوا يعلمونَ أنَّ آل (الناظر) لا يَهِمُّهُم لوْ أفنَوْا الحَيَّ عن بَكْرةِ أبيه ,الْمُهِمُّ أنَّ أحدَهم قُتِل , مَقْتَلُ أحدِهِم يعني أنَّهم لَمْ يَعودوا كما كانوا ,أو أنَّ الأمورَ في طريقِها إلى التغيير ,الحياةُ بأكملِها تغيَّرتْ وتبدَّلَتْ، لأنَّ يدًا تجرَّأتْ وامتدَّتْ لتقْتُلَ أحدَهم, وليس أي أحد , (الناظر ) نفسه هو القتيل .
هناك قُرْبَ السَّيَّالة حيثُ وقعتِ الواقعة جلسَ (مرزوق الحلبي ) , عادَ بذاكرتِه الى عهد( الناظر الكبير) والد القتيل , أرجعتْهُ ذاكرتُهُ
نصفَ قرنٍ من الزَّمان , عادَ بالذَّاكرةِ إلى يومِ مَقتَلِ أحدِ الضُّبَّاطِ الإنجليز على يَدِ الناظر الكبير , تذكر كيفَ أنَّ (الناظرالكبير) وقف شامخًا وصاحَ في وجهِ الْمُفَتِّشِ الإنجليزيّ:
(كَتَلْتُو وَبَرُوحْ في دِيَّتُو).
اهتزَّتْ أنحاءُ مابين النيلين أجمعُهَا يومَ سجنِه ثارَ أهلُهُ حين قبض عليه الانجليز , جمعُـوا الْمَالَ والرِّجالَ واصطفَّتْ خَيْلُهم ودروعُهُم وسنُّوا رماحَهُم وامتشَقوا سيوفَهُم. تذكَّرَ يومَ أخَذَ (الناظر الكبيرَ) منْ بيتِهِ الَّذي كانَ يتوسَّطُ مابين النيلين، حَوْشهُ الَّذي كان يُسَمَّى «حَوْش الْبَقَر» ,لَمَّا كانتْ تَضُمُّهُ حظيرتُه من أعدادٍ كبيرةٍ من الماشية، تُعَدُّ ثروةً بحساباتِ هذه الأيام.
يومَ ترحيلِ الناظر الكبير إلى السِّجْنِ , خرجوا في مَوْكبِهِم ذاك ,وطافوا شوارعَ البلد ,يومَها أوْدَعُوه السِّجْنَ ومعه عبدُهُ (النَّصيح) يَحمِلُ فَرْوَتَه
وإبريقَه وآنيةَ طَعَامِه. اِعْتَرَضَ مأمُورُ السِّجنِ على دخولِ العَبدِ مع سيِّدِه ,إلا أنَّهُ سُرعانَ ما انْصَاعَ للأمرِ وسطَ صِيَاحِهِم وزَمجَرَتِهم.
جلس في باحةِ السِّجنِ , وضعَ كُرْسيَه لِيتوَسَّطَ الباحة ,وعبدُهُ النَّصيح يجْلِسُ القُرفُصَاءَ تحتَ أقدامِه. جاء أحدُ الضُّبَّاطِ الانجليز على صهوةِ حِصَانِه , وَجَدَهُ على هذه الحالة , انتَهَرَهُ قائلًا:
« إنتي مين.. قاعدة هِنَا تَعمَلي شِنُو.. ليشْ مَافيش شُغُل ؟»!
رمقه الناظر الكبير بنظرتَهُ تلك الَّتي تُذيبُ الْحَجَر وانتهرَهُ قائلًا:
أمِشْ شوف لَكْ شَغَلَة.. يا خَوَّاجَة!
غضبَ الضَّابطُ الانجليزي واستغربَ لوقاحَةِ الرَّجل وصاح في وجهِهْ :
«إنتي يا زول.. لازم تشيلي الجردل.. بتاع الحمام تعملي نضافة»!
كانتِ المراحيضُ في تلكَ الايَّامِ تُفَرِّقُ عبرَ جَرَادِل توضعُ تحتَهَا,استشاطَ الناظر غضبًا وَرَدَّ على الرَّجلِ بأبياتٍ مِنْ الشِّعْـر:
الْجردل دَه مَا حَقِّي.. حَقِّي المَشنَقَة والمُدْفع أبْ ثكَلي.. وحالف باليمين.. أعِزْ بنات أهلي..
صاحَ الضَّابطُ في وَجْهِهَ:
انتي راجِلْ مشْ كويِّسْ ,انتي لازوم خوف حكومة إنجليز.. لازوم شوية احترام قانون.
انتهره الناظر قائلاً في عنجهية:
(أمِشْ غُورْ كِدَه ولَّا كده.. يا أغَلَفْ ).

قطَعَ خَوَاطِره وذِّكرياتِه تلك صوتُ أحدِ أبناءِ إخوةِ الناظر القتيل يناديه :
يا(مرزوق )الجَنَا السَّوَّاها.. عِرِفناهُو.. والليلة مافي زولاً من أهلو بمرق على رجليهو.

(*)

(*)

ضاقتْ قاعَةُ الْمَحكَمة بالحضور, جاءوا مِنْ كلِّ حَدْبٍ وصَوْب، ليشهدوا بدءَ جلساتِ محاكمةِ الفتى الذي أتهم بقتل الناظر ,آل (الناظر) لمْ يَحْضُرْ منهم أحَدْ ,كلُّ الحضورِ كانوا من أهلِ القاتل، وبقيَّةِ أهلِ البلد ,وجمهرة من الفضوليين , وما أن تهيَّأَ القاضي لبدءِ الجلسةِ حتَّى دخلَ عليه جَدِّي مُقاطعًا :
لو تَسمِحْ يا مولانا.. عندي كلمة..
ردَّ القاضي مستغربًا :
نحن لسَّـا ما بدينا .. حا ندِّيك فرصة.. لما نبدأ في سماعْ الشهود..
أجابَهُ جَدِّي :
شهود شِنو يا مولانا.. إحنا عندنا كلمة واحدة.. وبعدها مانا جايين محكمتك دي..
أجابه القاضي:
طيِّب إتفضّل.. عاوز تقول شنو
ردَّ جَدِّي:
الزّول ده إن أعدمتو ميِّتْ.. وإن تركتوا ميِّتْ .. معاكم سلامة..
ثمَّ غادرَ قاعةَ المحكمة , وتَبِعَهُ بعضُ أهلِ البلد,(كان جدي يقصد أنهم لا يحفلون بحكم المحكمة وأنه لو تم إعدامه أو لم يتم فسيأخذون هم بثأرهم ) .

بعدها اجتمعَ أهلُ البلدِ في بيتِ جَدِّي , يتشاورونَ حولَ أمرِ محكمةِ الفتى، أهل الفتي القاتل أرسلوا (مرزوق الحلبي) لينقلَ وجهةَ نظرِهِم فهو غريب ولن يؤذيه أحد ,أمَّا بقيَّةُ أهلِ البلد فقد انقسموا بينَ مصدِّقٍ لزعم الفتى بأنّه بريءٌ من دمِّ الشّيخ , وأنَّه غادر البلد ليلتَها قبلَ شروقِ الشَّمسِ ,وبينَ مُكذِّبٍ لها ومُؤيِّدٍ لاتِّهامِهِ بتلكَ الْفِعْلةِ النَّكراء.
(مرزوق) قام مخاطبًا الجمع :
يا ناس البلد الجماعة قالوا مستعدِّين لكل طلباتكم إن دُرْتُوا الدِّيَة ,حلالهم كتير , وإن دُرْتُوا الدَّم بالدَّم , (الجنا) ياهو مَرْمِي في المركز..
وقف جَدِّي ثائرًا في وجهِهْ:
هوي يا الحلبي الشُّوم.. دِيَّةْ شنو.. البقبلوها (النظار) ,وحلالهم ده ما ياهو ,عطايانا ومنحنا, و(الجنا) براهو ما بشيلا.. دي ما فِعْلَةْ وليدات ,الجنا مَكْري.. أمِشْ لي لأهلو قول ليهم قِدَّامكنْ سبوع ,تخلو أرض (الناظر) بالكامل ترجعوا غرب البحر محل ما جيتو..
ردَّ عليه (مرزوق):
ده كلام شنو ده..؟ الناس ماهم ناسك الأمس ,الناس بقوا قبيلة تسِد عين الشمش يرحلوا كيف؟!

ابداااااع اخى كمال تسلم ياخى تسلم كتير

(*)

سلمك الله من كل شر أخي سامي ..

محبتي ...

عبادي أخر الزمان, كمال علي الزين.

ياخ امتعك الله

(*)

العزيز / عماد ...
شكرا على لطفك ..

محبتي ...

(*)

جاءَنا تلك الليلةَ, تصادفَ أنَّني مَنْ قابلَهُ عندَ البابِ , سألَني عَنْ جَدِّي ,أخبرتُهُ أنَّه مريض , دَعَا له بالشِّفَـاء ,سَمِعَهُ جَدي وهو يدعو له فقال:
الكُبُرْ دواهُ الموت ..
سألتْهُ جَدَّتي : الزّول مِنُو.. صوتَكْ مُو غريبْ عَليْ ؟؟
ردَّ عليها: غريبْ وعابرْ سبيل ..
ردَّتْ جَدَّتي: حبابْ الضِّيوفْ .. أدخلْ لي جُوَّه.
رافقتْهُ حتَّى ديوانِ جَدِّي على النَّاحيةِ المقابلةِ للمنزل , جاءتْهُ جَدَّتي بالعَشَاءِ والشَّاي, وضعته أمامه وأرادت الانصراف استوقفها الضيف متسائلًا : ده مَا ياهو حوش ( أولاد الناظر)؟؟
ردَّت : أيوه ياهو.. لكن حليل زمن الحيشان..
سألها: وحوش (أولاد سالم) و(أولاد الامام).. وأولاد عمكم (رحمة) مش كان مقابلكم ؟؟
استوقفها سؤالُهُ الَّذي كان سؤالَ العارفِ بالبلد وأهلِهَا..
سألته جدتي وهي تتفرس بملامحه :
الزّول منو.. أنا بقول الشَّكِلْ مُو غريب.. والصَّوت سامعاها قَبُلْ ؟!
أجابها : لا.. أنا من ناس غرب النِّيل.. كنتَ بجيكم موسم الحَصَاد مع العُمّال.. عشان كده عارف البلد وأهلها زين ..
أجابت وفي صوتها ذلك الحزن :
والله فيك الخير.. لكن الأيام غير الأيام.. والحال ما ياهو الحال الزَّمان ..
باغتها الضيف بالسؤال ,وكأنَّما اغتنمَ فرصةً لاحتْ بوجْهِهْ :
كيف وين الناس..؟؟
أجابتْه وكأنَّ أمرَ حديثِ الذِّكرياتِ قدْ راقَها :
أولاد (رحمة) ماتوا كلّهم.. ما باقي إلا شْوَيَّة من وليداتُمْ وكبارُهم ,وأولاد (سالم) نُصَّهُنْ هنا والنُّص التاني غَرَّب.. الحال هناك بِقَى أفضل..
باغتَهَا بسؤال :
و(مرزوق الحلبي).. و(حمد أبْحِجِلْ ) ؟!
أجابته: (مرزوق) الله يرحمو.. كِبِرْ وعِمَى ومات عَمَنَوَّلْ .. و( أبْحِجِلْ ) مات مقهور , باقيلك وليدو (يحيى) قالوا كَتَلوها في الجامعة..
الوليد ما لقولوا جُتة.. انتظروا حول كامل.. وقال: (كان حَيْ بِعُودْ ) ,ما اتحمل مات في نفس السنة ولِحْقَتو مَرَتُو (بت الإمام) عُقُب شهر.. الله يرحَمُن جميعًا..
ختمتْ حديثَهَا معه هكذا, واعتذرتْ بأنَّ معها نسوةً من البلد ,استأذنتْهُ ومضتْ .

جالَ الضيف ببصرِهِ حوْلَ المكانِ , ثمَّ سألني أن أقودَهُ إلى حيث يستلقي جَدِّي , قُدْتُّهُ إليه ,كان جَدِّي في فراشِهِ لا يستطيعُ الحِرَاكَ ,اقتربَ منهُ ومالَ عليهِ وهَمَسَ له في أذنهِ ببضعِ كلماتٍ لم أتبيَّنْ منها شيئًا, ثم اعتدلَ وَهَمَّ بالانصراف ,أمسكَهُ جَدِّي من طرفِ ثوبِهِ كأنَّه يدعوه للبقاءْ ,أفلتَ من بين يديْهِ وأسرعَ مُغادرًا وهو ينتحب بصوت عال , لَحِقْتُ به عندَ البابْ , وَجَدْتُّهُ مفتوحًا على مِصراعَيْهِ ولا أثرَ للرَّجل.
عدت إلى جَدِّي أسالُهُ: ده منو يا جِدِّي.. وقال ليك شنو؟؟
لمْ ألْقَ جوابًا, اقتربتُ منه وجدته وقد اغرورَقَتْ عيناهُ بالدُّموعْ ,أمسكتُ بيدِهِ وجلستُ قُـرْبَهُ على الأرض.,قُلتُ وقد تقطَّعتْ أحشائي ألمًا لبكائه:
جدي.. عمري ما شفتك بتبكي.. الرَّاجل ده قال ليك شنو؟
رَدَّ جَدِّي: ده ( يحيى الفلَّاتي) ...
رَدَدْتُ : تاني يا جدي.. حا ترجعْ لي قصصك .. أنا قلتَ شويَّة المرض شَغَلَكْ وُنَسَّاكْ الجماعة ديل .

(*)
: مرزوق الحلبي حلَّال المشاكل وزعيم أجاويد البلد , واللهِ عِشْنا وشُفنا حلَّاق الحمير (الحلبي نافخ الكير) بتزعم البلد.. و(أولادالناظر) يقصدوه في الملمات ,وبرسلوا ليهو كروت في الأفراح..
هكذا استهلَّ (ود منصور) حديثَهُ معهم , كان كعادتِهِ يَرمي بكلماتِهِ هكذا دون أن يفكِّرَ، ودون أن يأبَهَ لمحدِّثِه ثم ينصرفُ دون أنْ ينتظِرُ ردًّا .
كان (مرزوق الحلبي ) و(حمد أبْحِجِلْ ) و(عمر بن يحيى الفلاتي) يجلسون أمام ديوان (مرزوق الحلبي) الكبير الذي بناه لاستقبالِ الضيوف وإكرامِ عابري السَّبيل ,كما كان يستخدِمُه لإدارةِ شؤون تجارتِهِ التي توسَّعتْ وبهائمِهِ التي صارت تفوقُ ما يَمتلِكُه (اولاد الناظر).
أما (حمد أبْحِجِلْ ) لم يفلِحْ في شَيءْ، سوى أنَّه تزوَّجَ من ابنةِ (أولاد الإمام) , وصارت له دارٌ كبيرةٌ وأرضٌ يزرعُها كلَّ عامِ ,إلا أنَّهُ لمْ يتركْ مهنتَهُ كبنَّاءِ حتَّى وهو في تلكَ السِّنِّ , فقد ورِثَها عنه أبناؤه بشَيْءٍ من مُجَارَاةِ ما أصابَ البلدَ من نعمة , فقد تحوَّلوا من بناءِ الطُّوبِ اللّبِنِ إلى بناءِ الطُّوبِ الأحمر والأسمنت , كان آل (الناظر) دائمًا ما يُصِرُّونَ على دَفْنِ موتاهم ومَنْ هم مِنْ نَسل (الملك) صاحب القصر القديم
أمامَ ضريحِه , ويتعصَّبونَ لذلكَ الأمرِ حتَّى أنْ بلغَ بهِمُ الأمرُ إلى تحديدِ منطقةٍ فاصلةٍ بين الأماكنِ المخصَّصة لهم, والأماكنِ المسموحِ بها
لبقيَّةِ أهلِ البلد ,وكان أنْ عيّنوا لذلك الأمرِ أحدَ أحفادِ الذين يسكنون بالقربِ من الضَّريح، فكان كلَّما سمع عن وفاةِ أحدِهم يجيءُ لتوجيه مكانِ الحفرِ حسب قبيلةِ المتوفَّى وأصله وفصله ونسبه , وبذلك فاقتْ عصيبتُهم كلَّ تصوُّر.
ويومَ اكتشافِ جُثَّةِ امرأةِ (ود منصور) لم يزعجْهُم أمرَ مقتلِها على يدِ زوجِها ودفنَه لها بكاملِ ثيابِها على عمقِ ذراعيْنِ أو أقلّ ، حتَّى نبشَتْها الكلابُ الضَّالة الَّتي كانتْ تَتَّخِذُ من الضَّريحِ مأوًى لها ,بقدرِ ما هالهم أنَّ (ود منصور) دفنَ امرأةً غريبةً عنهم بالقربِ من مَثْوَى جَدِّهمُ (المقدس). كانَ (ود منصور) ينتسِبُ لهم من جِهَةِ أمِّهِ فقط , وهذه القَرَابةُ في عُرفِهم (لحمة مرة) أي أنَّها ليستْ بالقرابةِ التي يتوجَّبُ عليهم حسبانه
من (آل الناظر), جثَّتُها المتحلِّلَةُ لم تَشْفَعْ لها , أخذوا رفاتَها لتُدفَنَ من جديد في أطرافِ المقبرة.
أعيانُ البلدِ الجُدُدُ (مرزوق) و(حمد أبحجل) و(عمر ابن يحيى الفلاتي) يجتمعونَ كلَّ ليلةٍ للتشاورِ حول أمر البلد، أكثرُ ما يقلقهم هو بيعُ أهلِ البلد أراضيهم لغُرَبَاءَ يأتونَ من كلِّ مكان , كانتْ كلُّ بيوتِ البلدِ مُحاذيةً للنِّيل، مَا عدأ ذلك عبارة عن أرضٍ فضاء , كانتْ بمثابة مَرَاعٍ أثناءَ فصلِ الخريف ,الآنَ هذه الأرضُ الفضاء أصبحت عالمًا جديدًا. امتدَّتْ البلدُ حتَّى صار أهلُها غرباءَ فيها، بعد أن كانوا بِضعةَ حيشان, كلّ عائلةٍ لها حوش يعرَفُ باسم جَدِّهِمُ الكبير، كَبِرَ سوقُ البلد , أقامَ بعضُ الغُرباءِ مصانعَ ومزارعَ في ذلك الفضاءِ الذي كان يُعرَفُ بالخلاء ,بعد غياب (يحيى الفلاتي) وتواترَتْ أنباءٌ عن وفاتِهِ في رحلته لأداءِ فريضةِ الحجِّ ، أخذَ ابنُه (عمر) مكانَه بينَ أعيانِ البلد، ليُكمِلَ الضِّلعَ الثَّالثَ الذي افتقدَه (مرزوق) و(حمد أبحجل) , إلا أنَّه لم يكن كأبيه , فقد كان يفوقُ الرَّجلين علمًا ومعرفةً , ثمَّ إنَّه كان قويًّا بمُعاضَدةِ أخوالِه آل (الناظر) له.

(*)
تذكر (مرزوق الحلبي ) أمسية من أماسي الأمس , وهو يتطلع الى (عمر بن يحي الفلاتي ) الذي حل محل أبيه بينهم , و(ود منصور) الذي أتاهم متهكماً كما كان يأتيهم سابقاً ,في السابق كان (ودمنصور) ومنذ اختفاءِ زوجتِه والذي تزامنَ مع حادثةِ القتل واتهامِ أهلِ البلد لها بهروبِها مع الفتى وهو في شُرُودٍ دائم , يطوفُ البلدَ على ظهرِ حمارِه معظمَ النَّهار , توقّفَ عنِ العمل , آلَتْ أرضُه إلى بوار , وشَقِيَتْ أُمُّهُ وأخواتُه عَمَلًا بالزِّراعة ورَعْي مَا بَقِيَ من بهائمِهِم.
كلَّما حدَّثَه أحدٌ عنْ زوجتِهِ أوْ عن الفَتَى يضحكُ في بَلاهة لكنَّ عينيْهِ تَلمعانِ كأنَّه يقول:
أنتم لا تعلمون شيئًا..
ليلتها جاءهم (ودمنصور) فحيَّاهُم وجلس دونَ أن يدعوَهُ أحدُهم ,استغربوا مشاركتَهُ لهم اليومَ سَمَرَ , وجلستَهم الَّتي اعتادوها زَمَانًا رُبَّمَا يَفُوقُ
عمرَه ، لم يجالسْهُم قبلَه أحدٌ من أهلِ البلد , تسائلوا تُرَى لماذا كسرَ (ود منصور) هذا الْحصارَ وهذه العُزلةَ الَّتي فُرِضَتْ عليهم سنينا
صمتوا جميعهم ,اِتَّكَأَ (ود منصور) على بَرْدَعَةِ حمارِه بعدَ أن ألقاها على الأرض بجانبِهِم ,ثم سألَهُم :
عندَكم تُمْبَاك ؟؟
أجابه (يحيى الفلَّاتي) بأن رَمَى بعلبة التُّمباك أمامَه ,التقطها (ود منصور) وهو يُغمغم :
(فلَّاتي) بِسِفَّ التُّمباك.. عجايْبِكْ يا بلد.
أعادها له بعدَ أن ملأَ فَمَهُ منها ثم بَصَقَ ,وقال في صوتٍ لم يألفوه منذُ اختفاءِ زوجتِه:
كلّ شِي بِقَى مَا عندو طعم , الأكل.. الشراب.. الفرح.. الحزن حتَّى التُّمباك بقى مابسويلنا شي ,إتغيَّرْ التُّمباكْ ولَّا رؤوسنا هي اللِّي اتغيّرتْ ؟!!
انتبهوا فجأةً , لأنّهم يُشاطرونه ذلك الإحساسَ , فكأنّه يتحدّثُ بألسنتهم جميعًا , سأله (أبْحِجِلْ ):
إتَّ يا (ود منصور ).. ما توَاخِزْني.. ساكِتْ ليك زمن.. لا بْتَجَالِسْ النّاس ولا عندك شَغَلَة في زول.. عَليّ الحَرَام فاكرنَّكْ مَوَدِّرْ .. لكنْ كلامك ده مُو كلامْ مجانين.
ضحكَ (ود منصور) وتمدَّدَ على ظهرِه , ووضعَ يديه خلفَ رأسِه وشبكهُمَا , وقال وهو يتَّجِهُ ببصرِه نحوَ السماء :
(مجنون منو يا السنجك؟! أنا مَانِي مجنون.. أنا.. ولَّا بلاش ) ، ثمَّ صمتَ وظلَّ يُحدِّقُ في الأفق.
ردَّ ( أبْحِجِلْ ) وكأنَّهُ يَحُثُّهُ على الكلام :
لالا يا (ود منصور) اتكلَّمْ .. بلاش ليه.. إحنا اخوانك.. أفتحْ لينا صَدْرَك.. أنضُمْ .. ما تكتم جوّاك.. بتِتْشَقَّـا يا زول..
فجأةً هَبَّ ( ود منصور ) واقفًـا وصاح في وَجْهِهْ :
أنا ما بَنْشَقَّـا.. أنا كنتَ بَنْشَقْ لو ما خنقتَها بيديني دي لمّا قطعت النفس.. أنا كنت بنشقْ لو ما دفنتَها بيديني دي ودفنتَ معاها عاري وفضيحتي.. أنا (ود منصور) جِدِّي (الملك ) سيد القصر القديم الكان سيد البلد دي من حدود مصر لي يوغندا , كلّ النَّاس كانوا عبيدنا ,مافي راجلاً رفعْ عينوا فينا.. خُمسُمِيَّة سنة نحنا مالكين النَّاس.. تجي واحدة زي دي عاوزة تَخُتْ راسي في التُّرَاب؟!!
قام نحو (مرزوق) وهو يَرَبِّتُ على كَتِفِه:
اسْتَهْـدَ باللهْ يا (ود منصور) أقْعُدْ مالَكْ يا زول.. صلِّي على النبي..
أجلسَهُ في مكانِهِ وهو يتَحَدَّثُ إلى ( أبْحِجِلْ ):
السَّنجَكْ .. الله يِقْطَعَكْ .. مالَكْ عَلي الرَّاجِلْ.. (ود منصور) ده سنين مَا شُفناهو نَطَقْ .. ولا هاجْ مِتِلْ الهيجة!.
ردَّ (أبْحِجِلْ):
مالَكْ يا (مَرزوق).. الرَّاجِلْ ماهو مجنون.. الرَّاجِلْ شايل جُوَّاهو بَلاوي.. قلنا نخلِّيهو يفضفِضْ يمكن يرتاح.. يِمكِنْ يرجع (ود منصور) بتاع زمان.
رَمَقه (مرزوق) بنظرتِه تلك التي يستخدم فيها حاجبيْهِ الكثيفين للتأكيد على غضبِهْ:
يا زول إنتا غَشيم.. (ود منصور) ده الحُكَمَا غِلْبُوا فيهو .. قالوا خَلُّوهو ده مَمْسُوس.. (يحيى الفلَّاتي) ده قَرَالُو القرآن كُلُّو سبعة مرَّات فوق راسو ده.. ما سَوَّالو شِي.. بتْدُور تعالجو إتَّ يا مَعولَق ؟.

أعاده الى الحاضر صوت (ودمنصور) :
إت يا (مرزوق ) الجنا (عمر وديحي الفلاتي ) ده , مش ياهو الولدوهو في المستشفى يومي الوديت (بت رحمة) المستشفى باللوري بتاعي ؟, علي الحرام متذكر ولادتو متل البارحة , أسي أنا غير حماري ده مابملك شى , و (ودالفلاتي) من الأعيان ..

كيمو يا صديقي
غايتو لو وصفت لي الاستاذ الدرسك العربي ده كان رسلت ليهو إقامة حرة
ياخي انت مولود خلي بالك في حصة عربي زاتو









بالجمبة كده
وين الحي بيك لا حس لا خبر
أطنان من الاشواق ياخي

عزيزي كمال

شكرك لي لا يتأتى إلا بما تكتب, ولا أصبو إلا لأجزله.

تحياتي

(*)

شكراً أخي عماد فقد غمرني لطفك ..

محبتي ...

(*)

العزيز / طمبل ..
تحياتي ..

موجود والله ياصديقي ..

محبتي ...

مكرر

(*)
المعجزاتُ لا تَحدُثُ إلا في المَاضي , هي بِضعُ حكايَا أسمعُها من جَدِّي وجَدَّتي ، وزُمرةِ من أهلِ البلد , كلُّ معجزةٍ دائمًا ما يَسْبقها «عندما كان» أوْ «حينَ كنَّا» ,لماذا لم نُدرِكْ هذا الزَّمان , (زمان المعجزات) , فنحن أحوجُ إليها من أهلِ ذلك الزَّمان ,حتَّى حكاياهم عن الفروسيَّة والنُّبل ,أيضًا تنتمي إلى ذلك الماضي ,فررتُ من جَدِّي في ذلك الصُّبحِ ، سئمتُ حكاياه فَرَرْتُ وتطاردُني أشباحُ أولئكَ القوم.
(مرزوق الحلبي) و(حمد أبْحِجِلْ ) و(يحيى الفلاتي) (ودمنصور) وبقيةُ أهلِ ذلك الزَّمان الذي صرتُ أنتمي له أكثرَ من انتمائي للحاضر, هَوَّمتْ روحي بين أرواحِهِمأردتُ أنْ أكونَ أحدَهم رفضت أنْ أكونَ (مرزوق) , كما أنَّني لم أقبلْ بأنْ أكونَ (يحيى) ، وما رضيتُ بكوني (حمد أبحجل) ، فشلتُ حتَّى في أنْ أكونَ كجدي (الناظر) رغمَ حُبِّي له, أدركتُ أنَّ الإنسانَ لا يستطيعُ إلا أنْ يكونَ نفسَه فقط .
روى لي جَدِّي أنَّه وبعد أن تَمَّ إلقاءُ القبضِ على قاتل (الناظر) عثروا بين أغراضه على مخطوطات و أنية من الذهب الخالص , كان الخواجة (جوتنبرج) بعيدًا عن الشُّبُهات إلا أن كراهيَّتُه للناظر لا تَخْفَى على أحَدْ ,فقد كان (الناظر) عقبة بطريق شغفه بتاريخ مللكة صاحب القصر القديم , وكان يمنعه نقل أي من الأغراض التي يقوم باخراجها من باطن الأرض بحجة أنها ملك لأهل البلد وجزء عزيز من تاريخهم لا يجب أن يذهب إلى بلاد الكفار , وصارتْ لدَّي قناعةٌ تامَّةٌ أنَّ (جوتنبرج ) على الأقل تَواطَأَ على قتله.
حكايا جَدِّي كانت هي كلُّ مَرجَعٍ لي في حياتي , حينما يَروي أحدُهم إحدى الرِّواياتِ التي سمعتُها من جَدِّي , وتَختَلِفُ الرِّوايتيْن , لا تَهتَزُّ قناعتي بصدقِ روايتِه ,وأظلُّ أزعُمُ أنَّهم لا يعرفونَ شيئًا , فَجَدِّي دائمًا على حق .

كمال سلامات
متابع لهذا السفر الممتع
واظن ان بعض الملاحظات لن يضير

Quote: أرقاها كلَّ ليلةٍ رُقْيَة

رقى لها كل ليلة رُقية

Quote: رَقِيَ إليه، كرَضِيَ، رَقْياً ورُقِيًّا: صَعِدَ، كارْتَقَى وتَرَقَّى. والمَرْقاةُ، ويُكْسَرُ: الدَّرَجَةُ. ورَقَّى عليه كلاماً تَرْقِيَةً: رَفَعَ. والرُّقْيَةُ، بالضم: العُوذَ

Quote: فَلَّاتي

لاحظت فى اكثر من موقع كتابة الالف واللام بهذه الطريقة
مما يصعب قرأتها و الافضل كتابتها هكهذا " فلاتى"

Quote: الوليد

اظنك تقصد الوِليد بكسر الواو بمعنى "الجنا" كما اشرت اليه
فى نفس السياق .. والتشكيل الكامل يعطيها المعنى الكامل بعيداَ
عن الاسم المرادف للكلمة...


شكراُ لمتعة الفراءة

(*)
العزيز / أمير ..

تحياتي وشكري وأمتناني ..
فيما يتعلق بأستخدامي لكلمة (أرقاها ) فهو إستخدام صحيح ..
أما فيما يتعلق بكلمة (الوليد) فأنت محق تماماً وشكراً على الإهتمام والتصويب ..

( يفيد لسان العرب بأن أرقاه تعني تهدئة الإنسان لذا فإن الرقية هي التعويذة أو الحماية. وتقول: اسْتَرْقَـيْتُه فرقَانـي رُقْـية، فهو راقٍ، ورجل رَقَّاءٌ: صاحبُ رُقًـى. يقال: رَقَـى الراقـي رُقْـيةً و رُقـيّاً إِذا عَوَّذَ ونفث فـي عُوذَتِه، قال ابن الأَثـير: الرُّقْـية العُوذة التـي يُرْقـى بها صاحبُ الآفةِ كالـحُمَّى والصَّرَع وغير ذلك من الآفات.

يقول الله سبحانه وتعالى:and#64831;كَلاّ إِذَا بَلَغَتِ التّرَاقِي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍand#64830; [ القيامة:27].

وفي سنن ابن ماجة عَنْ أَبِي خزَامَةَ قَال:َ and#64831;سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا وَتُقًى نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا قَالَ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهand#64830;ِ.

وفي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ: and#64831;نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّقَى فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى قَالَ فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ فَقَالَ مَا أَرَى بَأْسًا مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُand#64830;.

وعند مسلم عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ يَقُول: and#64831;رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لآلِ حَزْمٍ فِي رُقْيَةِ الْحَيَّةِ وَقَالَ لأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ مَا لِي أَرَى أَجْسَامَ بَنِي أَخِي ضَارِعَةً تُصِيبُهُمُ الْحَاجَةُ قَالَتْ لا وَلَكِنِ الْعَيْنُ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ قَالَ ارْقِيهِمْ قَالَتْ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ ارْقِيهِمْand#64830;.

وفي سنن الترمذي عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَال:َ and#64831;شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَلَّمُوهُ أَنِّي مَمْلُوكٌ قَالَ فَأَمَرَ بِي فَقُلِّدْتُ السَّيْفَ فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ وَعَرَضْتُ عَلَيْهِ رُقْيَةً كُنْتُ أَرْقِي بِهَا الْمَجَانِينَ فَأَمَرَنِي بِطَرْحِ بَعْضِهَا وَحَبْسِ بَعْضِهَاand#64830;.

__________________________
مابين الأقواس منقول

(8)

(*)

خيم الصمت بينهم , سنوات طويلة وهم يجلسون كل مساء بديوان (مرزوق الحلبي) , جلساتهم تشبه بعضها , أمسياتهم جميعها تأخذ ذات الطابع , (مرزوق) ينطق حكمة , و(أبحجل) يهرطق ويثرثر , و(يحي الفلاتي)يتوارى خلف وقاره وتدينه , يأخذ منهم ولا يعطيهم سوى بضع كلمات , صمتوا جميعهم ذلك المساء , فكأنما نضب معين حكمة (مرزوق) وأنقطع لسان (أبحجل) , لكن (يحي الفلاتي) كأنما تبادل معهم مواقعهم , فكسر صمتهم قائلاً :
إنتو ياناس الليلة لاحقين (ودمنصور) في سكتتو , إن ما بتدورا تتكلموا أخير نمشي ننوم ..
نظرا إليه دون أن يرد أحدهما , فجأة دخل عليهم (الخواجة جوتنبرج) , سلم عليهم بلغته العربية الركيكة , وجلس بينهم , وأطرق في حيرة بدت كأنها مقدمة لحديث جلل , سأله (يحي الفلاتة) :
إت يا(خواجة) معزوم سكات ولا كيفن , أنا ماصدقتا جيتنا قلتا الناس يطلع لهم لسان ..؟
رد (جوتنبرج) :
إنتي ما تعرفيش حاجة مستر (يحي) , (جوتنبرج ) مش قادر يصدق ؟
(يحي الفلاتي) :
مش قادر تصدق شنو يا(خواجة) ؟
(جوتنبرج) :
(جوتنبرج) عشرين سنة تنقيب في قبور بتاع قصر قديم , قبر بتاع (الملك ) نضفتو وشلتا غبار من فوق , (جوتنبرج) يلقى (مومياء) محنط , (مومياء) يبصق على إيد (جوتنبرج) , ويحرك عين يرمش , (جوتنبرج) يجري , يرجع بعدين يلقى (قبر) فاضي , مافي غير شوية قماش بتاع (مومياء) ..
يخرج (أبحجل) عن صمته , ويهلل :
(ودمنصور) ماهو مجنون , (ودمنصور ماهو مجنون) , ..
وظل يصرخ هكذا وقام من مجلسه وغادرهم مسرعاً.

*

Up

(9)

تلكَ الجبالُ التي يكسوها لونٌ رماديٌّ، كنَّا نحسَبُهَا نهايةَ العَالَمِ ، هنالِكَ خلفَ النَّهرِ وتلكَ الأرضِ الفَضَاءِ الواسعة، كنَّا نَظُنُّ أنَّ اللهَ هناك، يُديرُ الكونَ منْ ورائِهَا، وأنَّ مَنْ يَقْرَبُهَا لا يَعُود .. حتَّى الْمَوْتى كنَّا نَظُنُّ أنَّ مآلَهم إليها، يحيون حياتَهم الأُخرى هنالك، حيثُ يأتلِفُ كلُّ تَضادْ،كُلُّ الأحياءِ تحيَا هنالك، دونَ حاجَةٍ إلى صراع.هنالك لا أحقادَ، لا ثَأرات، لا يُبْغِضْنَ أحدُهُم سوى ذكرياتِ حياتِهِ الدنيا، ودنيا عاشَها
حسب تصاريفِ الأقدارْ، تخيَّلتُهُما هناك، التقيَا هي وقاتِلها، ربَّما فرِحَتْ حينَ لحقَ بها إلى ما وراءِ الجبلِ بسرعةٍ لم تتوقَعْها، سَعِدْتُ حينَ علِمْتُ
أنّه قتلَها ثمَّ لم انتحرَ، قتلَهَا ولمْ يستطعْ تَخَيُّلِ العالمِ دونَها، لكنه لم يلحق بها ليلتقيا هناك، وتعودُ جذوةُ المَحَبَّةِ تستعِرُ كأنَّ شيئًا لمْ يَكُنْ، هنالِكَ لا شَيْءَ سوى المَحَبَّة، لذلك هنالك حريةٌ مُطلقة ولا وجودَ لسُلْطَانِ القضاءِ والقَدَر، أجزِمُ أنَّ القَضَاءَ والقَدَرَ كانَا هنالك في تلكَ الدُّنيا تَبَعًا للكراهيَّة، حتَّى اللَّونِ الأسودِ الذي لا وجودَ له هناك خلفَ الْجَبَل ، كانَ يستقي ظلامَه من الكراهيَّة.

(ودمنصور) و زوجته , كلُّ شَيْءٍ بينهما كانَ مستحيلًا، كانَا ضِدَّيْنِ في كلِّ شَيْءٍ كانَ يَراها بادئ الأمر امرأةً كاملةً وكانت تحلم هي بأن تكونَ لا شيء، يبدو أنَّها كانت تستمتعُ بكونِها إمرأة رخيصة , رُبَّما كانَ كمالُه هذاالذي أرادها عليه , أقَلَّ من اللاشَيْءِ الذي تنشده هي - على الأقلِّ بنظرِهَا هي – كان معطاء معها ,أحيانًا كانَ يُبَرِّرُ عطاءَهُ هذا بأنَّهُ كانَ على قدرِ حبِّه وأنَّه أيضًا يملكُ هذا العطاءَ كما يملكُ ذلك القلبَ الذي أحبَّها، فكأنما حين قتلها أراد إرسالها إلى هناك , حيث تمنَّاها هنالك خلفَ ذلك الجبلِ حيثُ كلُّ شَيْءٍ واضحٌ لا كذِبَ ولا نفاق، هنالك حيث الحقيقةُ المجرَّدة، حيث الألوانُ النَّاصعة، حتى السوادِ هنالك يَعُزُّ حين تخلِطُهُ بالأبيضِ على أنْ يكونَ لونًا رماديًّا، رماديَّةُ الأشياءِ هذهِ هي الَّتي جعلتْهُ يعشَقُ ما خلفَ الجبل، جبلُ الحقيقةِ المجرّدة. هنالك لا تمازُجَ إلا بين القَاتلِ والقاتِلِ والقتيلِ والقتيل، قاتِلِ (الناظر)
يمتزجانِ مع (ودمنصور) الذي قتلَ زوجتَهُ ليكوِّنَا شيطانَ ذلك المكان.. و(الناظر) وزوجة ودمنصور أيضًا يُشكِّلانَ شخصًا واحدًا، مَخْلُوقًا لا هو بِرَجُلٍ ولا هو بامرأة، لا هو شابٌّ وما هو بشيخٍ إنَّما مخلوقٌ كانمجرد ضحيَّةَ لمشاعرٍ متقاربة لا تَخْتَلِطُ إلا في تلك الحياةِ السَّابقة، مَحبَّةُ ودمنصور لزوجتِهِ التي أودتْ بحياتِها ، وبُغضُ قاتلِ ( الناظر) لضحيَّتِه ، المحبَّةُ والكراهيَّةُ أدَّتَا إلى نتيجةٍ واحدةٍ لا يَحدُثُ هذا إلا في تلك الحياةِ التي
لا شيءَ فيها بوضوحِ ما هو خلفَ ذلك الجبل.
حتى محبَّتي لهم لشخصيات عشت بينها ومعها دون أن أراها ,لم تكن لتتفتح معالمها إلا خلف ذلك الجبل، هنالك أحببتهم جميعا على أختلافهم ،
ربما كانوا يُمَثِّلونِ بعضًا من الخير الذي أنشده وبعضًا من الشَّرِّ الذي تمنَّيْتُ أنْ أكونَ عليْهِ ولم أستطعْ، حتَّى الحكام الظَّالمين الذين قرأتُ عنهم وشَهِدتُ ظلمَهم وبعضَ عدلِهِم، لمْ أمَيِّزْ ما بين الاسطورةِ والحقيقةِ في سِيَرِهِم إلا خلفَ ذلك الجبل، أشفقتُ على بعضِهِم حين رأيتُهُم في ذُلِّ الرَّعيَّة، وإلا أنَّني لمْ أخَفِ سعادتي حينَ رأيتُ بعضَهُم يدفعونَ ثمنَ ما اقترفَتْ أياديهم رغمَ أنَّ هذا الإحساسَ بالشَّماتةِ لا يَشْبَهُ ذلكَ المكانْ ، كنتُ
أمَنِّي نفسي برؤيةِ (مرزوق الحلبي) و(يحيى الفلاتي) و(حمد أبْحِجِلْ) و(الناظر) خلفَ ذلك الجبل، حيث لا تَعَالي ولا عُلُوَّ لبشرٍ على بَشَر، حلِمْتُ بأنْ تتحولَ هذه الحياةُ من خلفِ الجبلِ إلى تلك الدنيا التي نعيشها إلا أنَّني أعلمُ أنَّهُ لولا قُبْحُ تلك الحياةِ لما كانَ جمالُ ما خلفَ هذا الجبل.
كان (ودمنصور) يخشى على هذا الحُبِّ الذي يحملهُ لها، لم يَخْشَ عليه من نفسه، بل لم يخشَ عليهِ من كلِّ الورى مهما قَسَوْا كانَ بين أضْلُعِهِ وهيَ معَه، كانَ غنيًّا بها وكانت لا تَرى ذلك الغنى ولَمْ تعلم، بعدَ أنْ قَتَلَهَا، تَمَنَّى أنَّهُ لوْ أوقفَ بينَ فخذيها حيث تحترقُ حياته كلُفافَةِ تبغٍ بين كَفَّيْ مراهِقْ ، لم يذُقْ طعمَ النِّساء قبلَها وبعدَها , كان يكره محبته لها وشغفه بها , تمنى أنْ تكونَ امرأةً كغيرِها من النِّساءِ تتلاشى بين فخذيها وذكرِهِ كُلَّ محبَّةٍ حمَلَهَا لها ولِكُلِّ النِّساء، تمنّى أن تكونَ امرأةً فقط ، حين يذكرُها لا يَذْكرُ سوى ساعةٍ من المتعة، لكنَّها أرهقتْهُ حُبًّا فقتلها , ودفنَهَا هنالك عند ضريحِ (الناظر).
(ود منصور) كان بعضًا منَّا جميعًا، أحيانًا أشعرُ أنَّني يجبُ أنْ أقتلَ كلَّ مَنْ أحببتُهم، ربَّما كانَ هذا الشُّعورُ غريزةً إنسانيَّةً عصيَّةً على البوح فبكلِّ حبٍّ هنالك شرارةٌ تستطيعُ أن تدَمِّرَ الكونَ بأكملِه، و(ود منصور) كانَ ينظُرُ إليَّه وهو بين يديْ جَدِّه (صغيرًا) ويُرَبِّتُ على رأسه دون غيري من الأطفال، علمتُ فيما بعد أنَّهُ أحس أنَّ (الفتى) دون أهلِ الأرضِ جميعًا سيتفَهَّمُ دافعَهُ لقتلِهَا، وقدْ كان , هو فقط .. مَنْ حكمَ ببراءتِه, لأنه كان قاتل مثله .
قتل الفتى (الناظر) من أجل كنز أخرجه (جوتنبرج) وقتل (ودمنصور) زوجته التي تواطئت مع الفتى و(جوتنبرج) لقتل (الناظر) وأخذ ما أخرجه (جوتنبرج) من حفرياته بموقع القصر القديم , لكن (ودمنصور) قتلها ظناً منه أن علاقة ربطتها بالفتى , وماعلم أنها والفتى لم يكونا يحفلان بغير (حفريات جوتنبرج) وكنز الملك صاحب القصر القديم .

(*)

شكرا ياعماد على رفعه وساكمل الراوية كاملة إن شاء الله ..

كمال علي الزين

ياخي انت زول كتاب كتابة الجن زاتو ..

لمن اقرا لمحسن خالد وعماد البليك وكمال علي الزين احس بان الادب السوداني مازال بخير ومستقبله مدهش .... مشكور علي هذا الجمال ...

(*)

سلمت أخي أسامة ..
وتحية للأخوين محسن خالد رده الله الينا سالما وعماد البليك (الود العبقري)
شكرا يا اسامة على لطفك ..


محيتي ..

"أجزِمُ أنَّ القَضَاءَ والقَدَرَ كانَا هنالك في تلكَ الدُّنيا تَبَعًا للكراهيَّة، حتَّى اللَّونِ الأسودِ الذي لا وجودَ له هناك خلفَ الْجَبَل ، كانَ يستقي ظلامَه من الكراهيَّة"


سبب الأسباب وإن شاء الله تتمها.

(*)

شكرا أخي عماد على طيب كلماتك ..

سأواصل باذن الله ...

Quote: عبادي أخر الزمان, كمال علي الزين.

تحياتي اخي عماد

أعتقد أن عبادي أخر الزمان لقب يناسب الأستاذ / الأمين البدوي (كاكوم)

محبتي ...

(*)

بينما عكف الخواجة (جوتنبرج) على التنقيب عن كنوز صاحب القصر القديم , لم يتخلى وريثه (الناظر) عن عادتُهُ تلك ,التي ظلَّ يحافظُ عليها لسنوات ,كان يُداومُ على زيارة أهلِهِ في جزيرة ( توتي ) مساءَ كلِّ خميس , يَشْرَبُ خمرَهم ويحضُرُ احتفالاتِهِم ويستمتعُ بطربِهِم وغنائِهِم، ثمَّ يَبيتُ ليلتَهُ هناك وسطَ حفاوتِهِم وتقديرِهم، مُحاطًا برعايتِهِم وحبِّهِم وكرمِهِم, جاءَهُ زمانٌ صارتْ كلُّ عاداتِهِ مرهقةً ومكلِّفة , في الماضي كان لا يَهْتَمُّ، فالمالُ كثير والأراضي مخضرَّةٌ واسعة , وعبيدُهُ يقومونَ بكلِّ شَيْء , لمْ يَكُنْ غيرَ خازنٍ للمالِ بعدَ الحصاد , ومُسرفٍ في صرفِهِ وتبذيرِه ,لم يعرفْ معنى العمل , كانت مهنتُهُ ومصدرُ رزقه أنَّه (الناظر) وكبير القوم وحفيد الملك صاحب القصر القديم .
ذات ليلة أراد (الناظر) الذهاب الى حضور حفل ساهر عند اهله ب(توتي) , لكنه لم يكن حينها يملك المال اللازم لتغظية نفقات ليلته هناك , فقد أعتاد على توزيع الأموال على (الرقيق) ونثر الجنيهات على المغنية , في خِضَمِّ حَيْرتِه وبؤسِه , جاءه الخواجة (ديمتري)، كان ديمتري يونانيًّا متسودِنًا، وُلِدَ وعاشَ عمرَه المديدَ الذي ناهزَ السبعينَ بشجرةِ (محو بك) جنوبَ الخرطوم، كان يتمنَّى أن يمتلكَ أرضًا، فقد كان رغمَ ثرائِهِ وثروتِهِ الكبيرةِ التي جناها من بَيْعِ الخمورِ لا يجِدُ مَنْ يبيعه أرضًا، فقد كان القومُ يرفضونَ بيعَهُ لأنَّه خواجة، وأعرافُهم تقضي أنَّ الخواجةَ إذا اشترى أرضًا فقد أهانهم وقلَّلَ من شأنِهِم.جاءهُ (ديمتري) قائلًا:
إنتي ما عندك فلوس ليه ما تجيني أنا، أنا برضو صاحبك!..
رد(الناظر) خجلًا:
يا خواجة إتَّ ما بتقصِّرْ، لكن واللهِ خجَّلتَنَا بي كرمك.
لمَّا حارَ به دليلُهُ، عاد يُفكِّرُ ماذا لو باعَ بضعةَ أفدنةٍ للخواجة (ديمتري) ,بضعةُ أفدنةٍ ليسَ إلا، يعودُ بعدَها إلى سابقِ عهدِه، ولو لبضعةِ أيَّام، لماذا يخشى الناسَ وحديثَهم عن بيعِهِ أرضَه، ثمَّ ماذا فعلَ له النَّاس، أصدقاؤه من المنتفعين انفضُّوا عنه جميعُهم حتَّى أهلِهِ الأقربينَ لم يعودوا كما كانوا يُجِلُّونَهُ ويحترمونه ويخشَوْنَ غضبتَه .
حزمَ أمرَه وعزمَ على بيعِ قطعةٍ صغيرةٍ من أرضِه الواسعةِ للخواجة، يَفُكُّ بها حصارَ حاجتِهِ إلى حينَميسرة , ذهبَ ووجْهُه عابسْ ، وقلبُهُ منقبض، لكنَّ حاجتَهُ للمالِ كانت أكبرَ من عبوسِ وجهِهِ وانقباضةِ قلبه, نادَى على الخواجة والدُّنيا تغرَقُ في الظَّلام، وأرضُه الواسعةُ من حولِهِ، إرثُهُ وعِزُّ أهلِه، لم تكن سوى قطعةٍ من هذا الظَّلام :
تعالْ يا خواجة بعنالَكْ الأرض ..
تهلَّلَتْ أساريرُ (ديمتري) وصرخَ دونَ وعْي :
مِشْ حاتندمي حضرة (الناظر)، حا تدِّيني كم فدان ؟؟
أشاحَ بوجهِهِ عنه وقال :
جيب ستة جنيه وأُخُدْ الأرض وبلاش كلام كتير..
أجابه (ديمتري) : لكن مساحة لازم يكون معروف تعالي حدِّدِي ..
أطرقَ قليلًا ثمَّ رفعَ رأسَهُ إلى السَّماءِ وأشارَ إلى نجمي (الريا) و(الثريا) ,كانتِ المسافةُ بينهما في السماءِ هي مقدارُ ما بين سُبَّابتِهِ وإبهامِهِ ثمَّ قال :
أرضك يا خواجة من : (الريَّا لي أب تريَّا ) جيب القريشات خَلَّنا نغور نشوف مصالحنا.
أخرج الخواجة ستة جنيهات فضيَّة، وعَدَّها ووضعَهَا بيْنَ كفَّيْه.. أخذَهَا ومَضَى وبَدَأَتْ رحلةُ الأرضِ الْمُعَلَّقةُ بَيْنَ (الريا والثريا) وعُرِفَتْ هذه القطعةُ من أرضِهِ باسمِ (الْمُعَلَّقة),أخذَ الجُنيهاتِ السِّتَّ، وقلبُهُ يكادُ يتمزَّقُ، عبرَ (النَّهْـرِ ) إلى توتي انفَقَهَا جميعَها على الْخَمْر , عادَ صباحَ اليومِ التَّالي وجيبُهُ خالٍ وقد أضاعَ جُزءً عزيزًا من أرضِه .

Quote: Azzam Mohamedمليون شختة ونقطة وضمة وضربة .. ياخى الناس دى بقت عاطلة لى درجة غريبة خلاس ..ده كلو من عمايل الحكومة .. ما بنلقا لينا واحد يجى يضرب دار الرياضة بوهية ..

(*)

لقد صنعت يومي يا(عزام) ...

(*)
كانتْ إحدى أكثرِ القضايا التي نظرَها القضاءُ غَرَابةً كانتْ قضيةُ حصرِ تركةِ (الناظر) قضيَّةً استعصتْ على القُضَاةِ وعلى الحكومات الَّتي تَعَاقَبَتْ بعدَ زوالِ الاستعمارِ الإنجليزيِّ,فقد ظل الناظر ومن بعده ابناءه واحفاده يبيعون اراضيهم الواسعة لكل وافد رغب بها دون أوراق أو مكاتبات , وسرعان ما يتراجعون عن ذلك الاتفاق بعد ان ينقوا الاموال , حتى أختلط الحق بالباطل ,قدَّمَ (أولاد الناظر) مستَنَداتِهِم الَّتي تُثْبِتُ أنَّ أغلبَ الأراضي بينَ النِّيلينِ حتَّى جبلِ الأولياء وبعضِ الأراضي الزِّراعيَّة المُتَنَاثِرَة هنا وهناك , بين بحري والْخُرطوم جميعها مُسَجَّلةً باسمِ (الناظروالحكومة) أكثرُ من نصفِ قَرْنٍ من الزَّمانِ والْقَضيَّةُ تَنْتَقِلُ من محكمةٍ لأخرى دونَ حلِّ الحكوماتِ المتعاقبةِ ,تتوارثَهَا مع ما تتوارثه من الحُكَّامِ والذين سبقوهم من مشكلات.
(أولاد الناظر) يرفضونَ كلَّ تسويةٍ، يُريدونَهَا خالصةً لهم كما ورثوها عنْ جَدِّهم لا تنقُصُ ذراعًا ,بعضُهُم أنْفَقَ عمرَه على أبوابِ الْمَحاكِمِ وامتهنَ كتابةَ الشَّكَاوى والعرائضَ حتَّى أنَّهم صاروا مَرَاجِعَ في قانونِ التَّرِكاتْ.
أرادَت احدى الحكومات تسويةً معهم, فعقدَ رئيسها اجتماعًا مع كبرائِهم وزعاماتِهِم وأقَرَّ بحقِّهم مناصفةً مع الحكومة كما جاء في السِّجِلات
الرَّسميَّة إلا أنَّهم أدهشوه حين قالوا:
إذن كلها لنا ..
قال: لماذا لكمُ النِّصفُ وللحكومةِ النِّصفُ الآخَـر؟!
ردَّ أحدُهُم: نحنُ وَرَثَةُ الحكومة.
قال رئيس الحكومة: حتَّى الحكومة عايزين تورثوها, بس الحكومة ما ماتت؟!
ردَّ كبيرُهم: (حكومة) ماتت من زمان.. أصلك يا ريِّس مِشْ فاهم.. الحكومة المقصودة في السِّجِلات ماها حكومة السودان.. (حكومة)
دي أُخُتْ (الناظر).. يعني حَبّوبةً لينا.
استشاطَ الرئيس غضبًا وطلبَ أنْ يَغْرُبُوا عنْ وجهِهِ السَّاعة..

(*)

ماتَ قبلَ أنْ أكْمِلَ كِتَابَةَ هذه القصَّة ..
(ود منصور) آخِرُ رجالِذلكَ الزَّمانِ الذي عِشْتُهُ معَ جَدِّي وجَدَّتي كلَّ لَيْلة , ظَلُّ جَدِّي كُلَّ مَسَاءٍ يَرْوي رِوايَاتِهِم ويَحْكي حَكايَاهُم وجَدَّتي تُومِيءُ بِرَأْسِهَا كلَّما اسْتَشَارَهَا أوِ اسْتَشْهَدَ بِها , حين أخْرُجُ إلى الشَّارعِ , إلى عَالَمي الذي انتمي اليه ,أجِدُهُ غيرَ الذي أحْيَا بهِ معَ حَكَايَا جَدِّي , أَظُنُّ أنَّ (ود منصور ) ماتَ حتَّى لا أُوَاصِلَ مَا بَدَأْتُهُ منْ جَمْعِ قَصَصِهِ , مَوْتُهُ كانَ إشارةً إلى مَوْتِ عالَمِهِم . إشارةٌ خَصَّني بها , كأنَّهُ يَدعونَني للتَّوْقُّفِ
عنْ نَبْشِ ماضٍ لا يَمِتُّ لي ولِعَالَمي بِصِلة , يومَ أنْ رأيتُهُ (ودمنصور) لمْ يَبْدُ أنَّهُ ذاتُ الرَّجُلِ الذي يُحَدِّثُني عنهُ جَدِّي , بَدَأَ كأنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْكُهُولِ والشُّيُوخِ الَّذينَ أراهُم كُلَّ يوم , عَالَمُهُم هذا أُحِسُّ بأنَّهُ عَالَمٌ مِنْ خَيَالاتٍ وَرُؤًى لا تَخُصُّ أحدًا سِوَايْ وسِوَاهْ .
ماتَ (جَدِّي) قبلَ أنْ يَقُولَ الكثيرَ عنْ هؤلاءْ , الكثير ممَّا الْتَبَسَ عليَّ ولَمْ أستطَعْ فَهْمَه , حَكَايَاهُم جميعُها كانتْ ذاتَ تَتَمَّةٍ ناقصَة , وَعَدَني جَدِّي قُبَيْلَ وفَاتِهِ أنْ يُكْمِلَهَا لي , طَمِعْتُ بأنْ تُواصِلَ جَدَّتي مَا بَدَأَهُ جَدِّي , لَكِنَّهَا آثَرَتِ ( الصَّمْتْ ) , أرادَتْنِي أنْ أَحْيَا حَياةً مِنْ أنْتَمي إلى عصرِهِم , أرادَتْني أنْ أنَسَى مَا رَوَاهُ جَدِّي , أنْ أنْسَى وَجْهَ (ود منصور) , أنْ أنْسَى شَبحَ (يحي الفلَّاتي ) الَّذي رأيتُهُ حينَ زارَنَا ذلكَ المَسَاءْ ,..
لَيْتَني أستَطيع ..!!

(*)
انقبضَ قلبي ألمًا وحسرةً لمَّا روى لي جَدِّي أنَّ (بت رَحَمَة) تُوفِّيتْ دونَ أنْ ترى زوجَهَا (يحيى) مَرَّةً أُخرى ,فبقدر ماحزنت الا أنني عَجِبْتُ لتصاريف الأقَدارْ حين أخبرني جَدِّي أن(بت رحمة) كانت مع جَدَّتي بالدَّاخِلْ يوم عودةِ (يحيى الفلَّاتي) تلك، ومَجيئِهِ بيْتنَا ,ولَمَّا لمْ تتعرَّفْ عليه جَدَّتي لمْ تخبرْها عن أمرِهِ شيئًا, فغادرَ وفي اعتقادِهِ أنَّها تُوفِّيَتْ مع مَنْ توفَّاهمُ اللهُ من أهلِ البلد ,بِضعةُ أمتارٍ كانت تَفصِلُ بين حوشِ الحَريمِ وديوانِ جَدِّي إلا أنَّها كانتْ أطولَ من آلافِ الأميال..
سألتُ جَدِّي:
لماذا لمْ تخبرْهُ بأنَّها هنا ؟؟
رَدَّ جَدِّي:
أمسكتُ بطرفِ ثوبِهِ لأُحَدِّثَهُ.. لكنَّني أشفقتُ عليهِما من هذا اللِّقاءِ فأفلتَهُ ليمضي..
عجِبْتُ لأمرِ جدي وتساءلت :
أيُّ شفقةٍ هذي ؟!!
أجابني جدي : كلّ شيء عندو زمَنُو (يحيى) و( بت رحمة) لو كانوا اتلاقو بعدَ الغيابْ الطَّويلْ دَه.. ما كانوا حايشعُروا بي نفس الإحساس الأوَّل..
كأنَّكَ جمعتَ بينَ غُريبيْن.. ( بت رحمة ) منتظرة ( يحيى ) بتاع زمان.. شابٌّ قويٌّ حريصٌ على الدُّنيا.. بيفكِّر في المستقبل.. و( يحيى) خَلَّا وراهُ
(بت رحمة) البِنَيَّة السَّمحة.. الحَيَّة.. والليلة هم الاثنين رِجِلْ في القَبر ورِجل في الدُّنيا والماضي ذكرى حلوة و زبدة حياة الإنسان ,أمَّا المستقبلْ عايز قلوب مفتوحة وعقول بتفَكِّرْ في بُكْرة ,قلتَ أخلِّيهم على ذكرياتهم الحلوة.. يموتوا وفي الخيال صور ما افسدا الكُبُر..
ولا الضَّعف واليأس.
فَهِمْتُه وعَرَفْتُ كمْ هو حكيم.. وكم هي قسوةُ الحياة ..
ملأتُ صدري من هواءِ ذلكَ الفجرِ النَّقيِّ وأنا أتهيَّأُ للرَّحيل ,أغراني جَدِّي بالسَّفر, أخبرَني أنَّ ما في نفسي من كَدَرٍ لا يُذْهِبُه سوى السَّفَر..
لما رأى حَيْرَتي ويَأْسي من أمرِ البلد , دعاني إلى حُجْرتِهِ كان لا يستطيعُ الْحَرَكة ,خاطَبَني يومَهَا وفي صوتِهِ ما يبْعَثُ الأملَ , رغمَ علمِهِ أنَّني رُبَّما لنْ أراه مَرَّةً أُخرى :-
العمر بِقَى زَيْ ضُلَّ الضِّحَى.. ويمكن لما ترجع تلقاني بين إيدين رب كريم ,سافِرْ وشوف.. وأعرِفْ ليه لسَّـا رغم الحزن والدَّم.. الناس لسَّـا بتفرح وبتحب وبتغنِّي ,وحا تعرف كمان ليه رغم الظُّلُم والحُكَّام الْبِنْهَبُـو في النَّاس لسَّـا البلد لاقية تاكلْ وتَشربْ وتتعلَّمْ.. وتَحلم .
عملت بنصيحته تلك , حزمت حقايبي وغادرت وطالَ سفري , عدْتُ فلمْ أجِدْهُ ولمْ أجِدِ البلدَ الَّتي تَرَكْت لكنَّني عَرَفْتُ معنى كلماتِهِ تِلك.

(*)
رقصوا وطَرِبوا وأكلوا وشرِبوا ودارتْ عليهم خمرٌ معتَّقة, واللَّيلُ يُجَرْجِرُ أذيالَه مهزومًا أمامَ ضوءِ نهارِ ذلك الفجرِ الَّذي أرسلَ جيشَهُ خيوطًا من ضياء .. مَا تَفتَأُ ترتمي في أحضانِ كُثْبَانِ الرَّملِ الَّتي بلَّلَها ندى الصَّبح , فكأنَّها أوَّلُ مَنْ يُعْلِن استسلامَه ,وأهلُ البلدةِ أيضاً بدأوا في إعلانِ استسلامِهِم لجبروتِ النَّوم , فانْفَضُّوا من حَوْلِ المُغَنِّينَ وراحوا يتسلَّلونَ إلى بُيُوتِهم ؛ الواحدَ تلوَ الآخَر , كانَ عُرْسًا ستتحدَّثُ عنهُ البلدُ لسنوات ,جاء كلُّ أهلِ الزمامِ حتَّى الحكومة أرسلَتْ مَنْ ينوبُ عنها.. جَلَس (حمد أبْحِجِلْ) وحيدًا صامتًا مُتَّكِئًا على عصاه.. فكأنَّما يرمي بحمولهِ عليها. كانتْ ابنتُهُ تتزوَّجُ اليومَ.. مِنْ زهرةِ شبابِ البلد .. كيفَ لا.. وهو (ابْنُ مَرزوق) كبيرِ تجَّارِ البلدِ ومُمَثِّلِهِا في برلمانِ الحكومة.. تَذَكَّرَ أهلَه في ديارِ الشَّايقيَّة.. مضى زمانٌ دونَ أنْ يذكرَهم أوْ يَحِنَّ إليهِم.. أخذتْه الحياةُ والآنَ تأخذُ نُطفةً منه لتزاوجها معَ قومٍ آخَرين ,قومِ (مَرزوق الحلبي).. راحَ يُدَندِنُ معَ نفسِهْ:
طِريتْ أهلي وبلدنا الدَّايرْ أموتْ بي شوقَـة
واتذكرتَ لي أيَّامنا وِكتينْ نَسوقْ البوقَة
عَبْرة شديدة سَدَّتْ حلقي والعينين تَكُبْ سبلوقَة
واتأوَّه واقول يا حليلنا يا حليلْ البلد والرّوقَة
طافَتْ ذهني صورةْ أهلنا بي إيدينُنْ المعروقة
والكارديق مع الطورية واللربل مع واسوقة.

جاءه ابنُه الأكبرُ ( يحيى ) مُخاطبًا مُشْفِـقًـا: يا أبويْ ما تقوم ترتاح شوَيَّـة.. إنتَ
منَّ امِسْ ما غَمَدْتَا.. رفع رأسَهُ وسألَه متجاهلًا جُمْلتَه :
الفَجُرْ باقيلو كم ؟ باقي لَيْ أزَّنْ ؟؟
ردَّ ابنُه يحيى : يا أبوي كانْ أزَّنْ كُنَّا سمعناهو ..
أجابه وهو يَهمُّ بالوقوف: نسمعو كيف مع الغُنَى والرَّقيص.. حَرَّم كانْ القيامة قامتْ ما جِبْنَالا خبر.
قَطعَ جدالَهُما صوتُ المُؤذِّنِ رافعًا النِّداءْ ، فاتَّجَهَ الأبُ إلى المسجد.. وعادَ الابنُ إلى سمرِهِ ونُدَمائِهْ.


كان هذا هو اخر لقاء بين (حمد أبحجل) وأبنه (يحي) , بعد اختفاءِه ظَلَّ (حمد أبْحِجِلْ) مُحتفِظًا بكلِّ أشيائِهِ الخَاصَّة في مكانِهَا كما كانتْ وكأنَّهُ ينتظِرُ عودتَه.كان ينظُرُ إلى (بت رحمة) في صبرِها وايمانِها بعودةِ زوجِهَا (يحيى الفلَّاتي).. يستقي من صلابتِها وصبرِها، صبرَه وصلابتَه..
بعدَ أنْ سمعَ النَّاسُ بأمرِ إقتتالِ طلَّابِ الجامعة , هُرِعَ (حمد أبْحِجِلْ ) وأصهارُه (أولاد الإمام) للبحثِ عن ابنهم (يحيى) بجامعةِ الخرطوم.. لم يجدوه بينَ القَتْلَى، كما أنَّهُ أيضًا لم يَكُنْ بينَ المُصابينَ كأنَّ الأرضَ قد انشقَّتْ وابتلعَتْهُ ,اختفاؤه هكذا كان بمثابةِ إعلان وفاةٍ تمَّ تأجيلُه لسنواتْ .. كما أنَّهُ كانَ أمرًا أكثرَ قساوةً من الموت , كان النَّاسُ يَشفِقونَ عليهما , فالموت أقَلُّه خبرٌ مؤكَّد وحزنٌ ربَّما يُذهِبُهُ النّسيان.. جُرحٌ يُدَاويه الزَّمن.ظَلَّ على أملِ رجوعِ ابنِه سنوات..
كان هو و(بت رحمة) شُرْكاءً في هَمِّ الانتظار.. سألتْهُ مَرَّةً :
إتَّ يا أبْحِجِلْ..
الْجَنَا سمّيتُو ( يحيى) ليش؟ أهو الاسم جَبَدُوا.. وغَطَسْ ما قلَّعْ زَيْ (يحيى) الكبير..
وكما كانَ من أمرِ ( يحيى الفلَّاتي ) فقد جاءَ أولادُ الحلالِ أيضًا بأخبارٍ متفرِّقة عن (يحيى الصغير).. مَرَّةً بأميركا.. ومَرَّةً بمصرَ ، وآخرُ رآهُ بجنوبِ إفريقيا , وهو لا يكاد يستمع الى الخبر , حتى تمتم بصوت خافت :
كان حي بعود ..

الأستاذ كمال ، تحياتي لك ولمن تجول في حديقتك العامرة . حقيقة الكتابة الجميلة تشدك شدا إلي نفسها كما يفعل المغناطيس بالحديد لا يترك له خيارا .وما أعجبني جدا الخيال الجامح الذي ابتدرت به روايتك وربطك الجميل بين التاريخ والحاضر ، الدين والعسكر ، الحياة والجمود وغيرها من العلاقات التي سقتها أثناء كتابتك مما يجعل متابعة ما تكتب أمرا ميسرا.

فلك الشكر ودمت بألف خير.

(*)

شكرا على لطفك اخي انور الطيب ..
وعظيم امتناني على رقة كلماتك ...

محبتي ..

Quote: Seeda Zaato · Khartoum University غايتو الا يكون استعان بي عزام فرح الله يطراهو بالخير

(*)
ياسيدا شايفك طاري عزام فرح العنصري البغيض بالخير
وكمان بتنسب التشكيل بتاعي ليهو ..
ياخي انا لو بيدي عزام ده يرجع الخلا ..
وكمان ممكن نستعين بالحبشي يجيب لنك حكاية تشكيل عزام وراي محسن خالد في تشكيلو

أنا تشكيلي ده برعاية محمد زين الشفيع ) وده (عريبي جد) وبتاع (عربي)
وعزام ده (رطاني) و(حلبي) و(سقافتو انجليزية ) وحبة العربي العندو دي عشان مناسبنا
مرتو الاولى او التانية او التالتة أو الرابعة تقريبا من عندنا ..




______________________________________________________
غايتو عزام لو قرا كلامك برسل هدية بوصفك المعجب الوحيد بعواستو الودتو ما وراء الخور

عزيزي كمال,

سلمت وسلم يراعك, منتهى الإبداع والوصف والأهم العبره

ياخ تسلم

(*)

سلمت أخي عماد ..

الله يدينا الزمن والمروة للمواصلة ..

محبتي ...

(*)

بينما عكف الخواجة (جوتنبرج) على التنقيب عن كنوز صاحب القصر القديم , لم يتخلى وريثه (الناظر) عن عادتُهُ تلك ,التي ظلَّ يحافظُ عليها لسنوات ,كان يُداومُ على زيارة أهلِهِ في جزيرة ( توتي ) مساءَ كلِّ خميس , يَشْرَبُ خمرَهم ويحضُرُ احتفالاتِهِم ويستمتعُ بطربِهِم وغنائِهِم، ثمَّ يَبيتُ ليلتَهُ هناك وسطَ حفاوتِهِم وتقديرِهم، مُحاطًا برعايتِهِم وحبِّهِم وكرمِهِم, جاءَهُ زمانٌ صارتْ كلُّ عاداتِهِ مرهقةً ومكلِّفة , في الماضي كان لا يَهْتَمُّ، فالمالُ كثير والأراضي مخضرَّةٌ واسعة , وعبيدُهُ يقومونَ بكلِّ شَيْء , لمْ يَكُنْ غيرَ خازنٍ للمالِ بعدَ الحصاد , ومُسرفٍ في صرفِهِ وتبذيرِه ,لم يعرفْ معنى العمل , كانت مهنتُهُ ومصدرُ رزقه أنَّه (الناظر) وكبير القوم وحفيد الملك صاحب القصر القديم .
ذات ليلة أراد (الناظر) الذهاب الى حضور حفل ساهر عند اهله ب(توتي) , لكنه لم يكن حينها يملك المال اللازم لتغظية نفقات ليلته هناك , فقد أعتاد على توزيع الأموال على (الرقيق) ونثر الجنيهات على المغنية , في خِضَمِّ حَيْرتِه وبؤسِه , جاءه الخواجة (ديمتري)، كان ديمتري يونانيًّا متسودِنًا، وُلِدَ وعاشَ عمرَه المديدَ الذي ناهزَ السبعينَ بشجرةِ (محو بك) جنوبَ الخرطوم، كان يتمنَّى أن يمتلكَ أرضًا، فقد كان رغمَ ثرائِهِ وثروتِهِ الكبيرةِ التي جناها من بَيْعِ الخمورِ لا يجِدُ مَنْ يبيعه أرضًا، فقد كان القومُ يرفضونَ بيعَهُ لأنَّه خواجة، وأعرافُهم تقضي أنَّ الخواجةَ إذا اشترى أرضًا فقد أهانهم وقلَّلَ من شأنِهِم.جاءهُ (ديمتري) قائلًا:
إنتي ما عندك فلوس ليه ما تجيني أنا، أنا برضو صاحبك!..
رد(الناظر) خجلًا:
يا خواجة إتَّ ما بتقصِّرْ، لكن واللهِ خجَّلتَنَا بي كرمك.
لمَّا حارَ به دليلُهُ، عاد يُفكِّرُ ماذا لو باعَ بضعةَ أفدنةٍ للخواجة (ديمتري) ,بضعةُ أفدنةٍ ليسَ إلا، يعودُ بعدَها إلى سابقِ عهدِه، ولو لبضعةِ أيَّام، لماذا يخشى الناسَ وحديثَهم عن بيعِهِ أرضَه، ثمَّ ماذا فعلَ له النَّاس، أصدقاؤه من المنتفعين انفضُّوا عنه جميعُهم حتَّى أهلِهِ الأقربينَ لم يعودوا كما كانوا يُجِلُّونَهُ ويحترمونه ويخشَوْنَ غضبتَه .
حزمَ أمرَه وعزمَ على بيعِ قطعةٍ صغيرةٍ من أرضِه الواسعةِ للخواجة، يَفُكُّ بها حصارَ حاجتِهِ إلى حينَميسرة , ذهبَ ووجْهُه عابسْ ، وقلبُهُ منقبض، لكنَّ حاجتَهُ للمالِ كانت أكبرَ من عبوسِ وجهِهِ وانقباضةِ قلبه, نادَى على الخواجة والدُّنيا تغرَقُ في الظَّلام، وأرضُه الواسعةُ من حولِهِ، إرثُهُ وعِزُّ أهلِه، لم تكن سوى قطعةٍ من هذا الظَّلام :
تعالْ يا خواجة بعنالَكْ الأرض ..
تهلَّلَتْ أساريرُ (ديمتري) وصرخَ دونَ وعْي :
مِشْ حاتندمي حضرة (الناظر)، حا تدِّيني كم فدان ؟؟
أشاحَ بوجهِهِ عنه وقال :
جيب ستة جنيه وأُخُدْ الأرض وبلاش كلام كتير..
أجابه (ديمتري) : لكن مساحة لازم يكون معروف تعالي حدِّدِي ..
أطرقَ قليلًا ثمَّ رفعَ رأسَهُ إلى السَّماءِ وأشارَ إلى نجمي (الريا) و(الثريا) ,كانتِ المسافةُ بينهما في السماءِ هي مقدارُ ما بين سُبَّابتِهِ وإبهامِهِ ثمَّ قال :
أرضك يا خواجة من : (الريَّا لي أب تريَّا ) جيب القريشات خَلَّنا نغور نشوف مصالحنا.
أخرج الخواجة ستة جنيهات فضيَّة، وعَدَّها ووضعَهَا بيْنَ كفَّيْه.. أخذَهَا ومَضَى وبَدَأَتْ رحلةُ الأرضِ الْمُعَلَّقةُ بَيْنَ (الريا والثريا) وعُرِفَتْ هذه القطعةُ من أرضِهِ باسمِ (الْمُعَلَّقة),أخذَ الجُنيهاتِ السِّتَّ، وقلبُهُ يكادُ يتمزَّقُ، عبرَ (النَّهْـرِ ) إلى توتي انفَقَهَا جميعَها على الْخَمْر , عادَ صباحَ اليومِ التَّالي وجيبُهُ خالٍ وقد أضاعَ جُزءً عزيزًا من أرضِه .
(*)
كانتْ إحدى أكثرِ القضايا التي نظرَها القضاءُ غَرَابةً كانتْ قضيةُ حصرِ تركةِ (الناظر) قضيَّةً استعصتْ على القُضَاةِ وعلى الحكومات الَّتي تَعَاقَبَتْ بعدَ زوالِ الاستعمارِ الإنجليزيِّ,فقد ظل الناظر ومن بعده ابناءه واحفاده يبيعون اراضيهم الواسعة لكل وافد رغب بها دون أوراق أو مكاتبات , وسرعان ما يتراجعون عن ذلك الاتفاق بعد ان ينقوا الاموال , حتى أختلط الحق بالباطل ,قدَّمَ (أولاد الناظر) مستَنَداتِهِم الَّتي تُثْبِتُ أنَّ أغلبَ الأراضي بينَ النِّيلينِ حتَّى جبلِ الأولياء وبعضِ الأراضي الزِّراعيَّة المُتَنَاثِرَة هنا وهناك , بين بحري والْخُرطوم جميعها مُسَجَّلةً باسمِ (الناظروالحكومة) أكثرُ من نصفِ قَرْنٍ من الزَّمانِ والْقَضيَّةُ تَنْتَقِلُ من محكمةٍ لأخرى دونَ حلِّ الحكوماتِ المتعاقبةِ ,تتوارثَهَا مع ما تتوارثه من الحُكَّامِ والذين سبقوهم من مشكلات.
(أولاد الناظر) يرفضونَ كلَّ تسويةٍ، يُريدونَهَا خالصةً لهم كما ورثوها عنْ جَدِّهم لا تنقُصُ ذراعًا ,بعضُهُم أنْفَقَ عمرَه على أبوابِ الْمَحاكِمِ وامتهنَ كتابةَ الشَّكَاوى والعرائضَ حتَّى أنَّهم صاروا مَرَاجِعَ في قانونِ التَّرِكاتْ.
أرادَت احدى الحكومات تسويةً معهم, فعقدَ رئيسها اجتماعًا مع كبرائِهم وزعاماتِهِم وأقَرَّ بحقِّهم مناصفةً مع الحكومة كما جاء في السِّجِلات
الرَّسميَّة إلا أنَّهم أدهشوه حين قالوا:
إذن كلها لنا ..
قال: لماذا لكمُ النِّصفُ وللحكومةِ النِّصفُ الآخَـر؟!
ردَّ أحدُهُم: نحنُ وَرَثَةُ الحكومة.
قال رئيس الحكومة: حتَّى الحكومة عايزين تورثوها, بس الحكومة ما ماتت؟!
ردَّ كبيرُهم: (حكومة) ماتت من زمان.. أصلك يا ريِّس مِشْ فاهم.. الحكومة المقصودة في السِّجِلات ماها حكومة السودان.. (حكومة)
دي أُخُتْ (الناظر).. يعني حَبّوبةً لينا.
استشاطَ الرئيس غضبًا وطلبَ أنْ يَغْرُبُوا عنْ وجهِهِ السَّاعة.

(*)

ماتَ قبلَ أنْ أكْمِلَ كِتَابَةَ هذه القصَّة ..
(ود منصور) آخِرُ رجالِذلكَ الزَّمانِ الذي عِشْتُهُ معَ جَدِّي وجَدَّتي كلَّ لَيْلة , ظَلُّ جَدِّي كُلَّ مَسَاءٍ يَرْوي رِوايَاتِهِم ويَحْكي حَكايَاهُم وجَدَّتي تُومِيءُ بِرَأْسِهَا كلَّما اسْتَشَارَهَا أوِ اسْتَشْهَدَ بِها , حين أخْرُجُ إلى الشَّارعِ , إلى عَالَمي الذي انتمي اليه ,أجِدُهُ غيرَ الذي أحْيَا بهِ معَ حَكَايَا جَدِّي , أَظُنُّ أنَّ (ود منصور ) ماتَ حتَّى لا أُوَاصِلَ مَا بَدَأْتُهُ منْ جَمْعِ قَصَصِهِ , مَوْتُهُ كانَ إشارةً إلى مَوْتِ عالَمِهِم . إشارةٌ خَصَّني بها , كأنَّهُ يَدعونَني للتَّوْقُّفِ
عنْ نَبْشِ ماضٍ لا يَمِتُّ لي ولِعَالَمي بِصِلة , يومَ أنْ رأيتُهُ (ودمنصور) لمْ يَبْدُ أنَّهُ ذاتُ الرَّجُلِ الذي يُحَدِّثُني عنهُ جَدِّي , بَدَأَ كأنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْكُهُولِ والشُّيُوخِ الَّذينَ أراهُم كُلَّ يوم , عَالَمُهُم هذا أُحِسُّ بأنَّهُ عَالَمٌ مِنْ خَيَالاتٍ وَرُؤًى لا تَخُصُّ أحدًا سِوَايْ وسِوَاهْ .
ماتَ (جَدِّي) قبلَ أنْ يَقُولَ الكثيرَ عنْ هؤلاءْ , الكثير ممَّا الْتَبَسَ عليَّ ولَمْ أستطَعْ فَهْمَه , حَكَايَاهُم جميعُها كانتْ ذاتَ تَتَمَّةٍ ناقصَة , وَعَدَني جَدِّي قُبَيْلَ وفَاتِهِ أنْ يُكْمِلَهَا لي , طَمِعْتُ بأنْ تُواصِلَ جَدَّتي مَا بَدَأَهُ جَدِّي , لَكِنَّهَا آثَرَتِ ( الصَّمْتْ ) , أرادَتْنِي أنْ أَحْيَا حَياةً مِنْ أنْتَمي إلى عصرِهِم , أرادَتْني أنْ أنَسَى مَا رَوَاهُ جَدِّي , أنْ أنْسَى وَجْهَ (ود منصور) , أنْ أنْسَى شَبحَ (يحي الفلَّاتي ) الَّذي رأيتُهُ حينَ زارَنَا ذلكَ المَسَاءْ ,..
لَيْتَني أستَطيع .
(*)
انقبضَ قلبي ألمًا وحسرةً لمَّا روى لي جَدِّي أنَّ (بت رَحَمَة) تُوفِّيتْ دونَ أنْ ترى زوجَهَا (يحيى) مَرَّةً أُخرى ,فبقدر ماحزنت الا أنني عَجِبْتُ لتصاريف الأقَدارْ حين أخبرني جَدِّي أن(بت رحمة) كانت مع جَدَّتي بالدَّاخِلْ يوم عودةِ (يحيى الفلَّاتي) تلك، ومَجيئِهِ بيْتنَا ,ولَمَّا لمْ تتعرَّفْ عليه جَدَّتي لمْ تخبرْها عن أمرِهِ شيئًا, فغادرَ وفي اعتقادِهِ أنَّها تُوفِّيَتْ مع مَنْ توفَّاهمُ اللهُ من أهلِ البلد ,بِضعةُ أمتارٍ كانت تَفصِلُ بين حوشِ الحَريمِ وديوانِ جَدِّي إلا أنَّها كانتْ أطولَ من آلافِ الأميال..
سألتُ جَدِّي:
لماذا لمْ تخبرْهُ بأنَّها هنا ؟؟
رَدَّ جَدِّي:
أمسكتُ بطرفِ ثوبِهِ لأُحَدِّثَهُ.. لكنَّني أشفقتُ عليهِما من هذا اللِّقاءِ فأفلتَهُ ليمضي..
عجِبْتُ لأمرِ جدي وتساءلت :
أيُّ شفقةٍ هذي ؟!!
أجابني جدي : كلّ شيء عندو زمَنُو (يحيى) و( بت رحمة) لو كانوا اتلاقو بعدَ الغيابْ الطَّويلْ دَه.. ما كانوا حايشعُروا بي نفس الإحساس الأوَّل..
كأنَّكَ جمعتَ بينَ غُريبيْن.. ( بت رحمة ) منتظرة ( يحيى ) بتاع زمان.. شابٌّ قويٌّ حريصٌ على الدُّنيا.. بيفكِّر في المستقبل.. و( يحيى) خَلَّا وراهُ
(بت رحمة) البِنَيَّة السَّمحة.. الحَيَّة.. والليلة هم الاثنين رِجِلْ في القَبر ورِجل في الدُّنيا والماضي ذكرى حلوة و زبدة حياة الإنسان ,أمَّا المستقبلْ عايز قلوب مفتوحة وعقول بتفَكِّرْ في بُكْرة ,قلتَ أخلِّيهم على ذكرياتهم الحلوة.. يموتوا وفي الخيال صور ما افسدا الكُبُر..
ولا الضَّعف واليأس.
فَهِمْتُه وعَرَفْتُ كمْ هو حكيم.. وكم هي قسوةُ الحياة ..
ملأتُ صدري من هواءِ ذلكَ الفجرِ النَّقيِّ وأنا أتهيَّأُ للرَّحيل ,أغراني جَدِّي بالسَّفر, أخبرَني أنَّ ما في نفسي من كَدَرٍ لا يُذْهِبُه سوى السَّفَر..
لما رأى حَيْرَتي ويَأْسي من أمرِ البلد , دعاني إلى حُجْرتِهِ كان لا يستطيعُ الْحَرَكة ,خاطَبَني يومَهَا وفي صوتِهِ ما يبْعَثُ الأملَ , رغمَ علمِهِ أنَّني رُبَّما لنْ أراه مَرَّةً أُخرى :-
العمر بِقَى زَيْ ضُلَّ الضِّحَى.. ويمكن لما ترجع تلقاني بين إيدين رب كريم ,سافِرْ وشوف.. وأعرِفْ ليه لسَّـا رغم الحزن والدَّم.. الناس لسَّـا بتفرح وبتحب وبتغنِّي ,وحا تعرف كمان ليه رغم الظُّلُم والحُكَّام الْبِنْهَبُـو في النَّاس لسَّـا البلد لاقية تاكلْ وتَشربْ وتتعلَّمْ.. وتَحلم .
عملت بنصيحته تلك , حزمت حقايبي وغادرت وطالَ سفري , عدْتُ فلمْ أجِدْهُ ولمْ أجِدِ البلدَ الَّتي تَرَكْت لكنَّني عَرَفْتُ معنى كلماتِهِ تِلك.
(*)
رقصوا وطَرِبوا وأكلوا وشرِبوا ودارتْ عليهم خمرٌ معتَّقة, واللَّيلُ يُجَرْجِرُ أذيالَه مهزومًا أمامَ ضوءِ نهارِ ذلك الفجرِ الَّذي أرسلَ جيشَهُ خيوطًا من ضياء .. مَا تَفتَأُ ترتمي في أحضانِ كُثْبَانِ الرَّملِ الَّتي بلَّلَها ندى الصَّبح , فكأنَّها أوَّلُ مَنْ يُعْلِن استسلامَه ,وأهلُ البلدةِ أيضاً بدأوا في إعلانِ استسلامِهِم لجبروتِ النَّوم , فانْفَضُّوا من حَوْلِ المُغَنِّينَ وراحوا يتسلَّلونَ إلى بُيُوتِهم ؛ الواحدَ تلوَ الآخَر , كانَ عُرْسًا ستتحدَّثُ عنهُ البلدُ لسنوات ,جاء كلُّ أهلِ الزمامِ حتَّى الحكومة أرسلَتْ مَنْ ينوبُ عنها.. جَلَس (حمد أبْحِجِلْ) وحيدًا صامتًا مُتَّكِئًا على عصاه.. فكأنَّما يرمي بحمولهِ عليها. كانتْ ابنتُهُ تتزوَّجُ اليومَ.. مِنْ زهرةِ شبابِ البلد .. كيفَ لا.. وهو (ابْنُ مَرزوق) كبيرِ تجَّارِ البلدِ ومُمَثِّلِهِا في برلمانِ الحكومة.. تَذَكَّرَ أهلَه في ديارِ الشَّايقيَّة.. مضى زمانٌ دونَ أنْ يذكرَهم أوْ يَحِنَّ إليهِم.. أخذتْه الحياةُ والآنَ تأخذُ نُطفةً منه لتزاوجها معَ قومٍ آخَرين ,قومِ (مَرزوق الحلبي).. راحَ يُدَندِنُ معَ نفسِهْ:
طِريتْ أهلي وبلدنا الدَّايرْ أموتْ بي شوقَـة
واتذكرتَ لي أيَّامنا وِكتينْ نَسوقْ البوقَة
عَبْرة شديدة سَدَّتْ حلقي والعينين تَكُبْ سبلوقَة
واتأوَّه واقول يا حليلنا يا حليلْ البلد والرّوقَة
طافَتْ ذهني صورةْ أهلنا بي إيدينُنْ المعروقة
والكارديق مع الطورية واللربل مع واسوقة.

جاءه ابنُه الأكبرُ ( يحيى ) مُخاطبًا مُشْفِـقًـا: يا أبويْ ما تقوم ترتاح شوَيَّـة.. إنتَ
منَّ امِسْ ما غَمَدْتَا.. رفع رأسَهُ وسألَه متجاهلًا جُمْلتَه :
الفَجُرْ باقيلو كم ؟ باقي لَيْ أزَّنْ ؟؟
ردَّ ابنُه يحيى : يا أبوي كانْ أزَّنْ كُنَّا سمعناهو ..
أجابه وهو يَهمُّ بالوقوف: نسمعو كيف مع الغُنَى والرَّقيص.. حَرَّم كانْ القيامة قامتْ ما جِبْنَالا خبر.
قَطعَ جدالَهُما صوتُ المُؤذِّنِ رافعًا النِّداءْ ، فاتَّجَهَ الأبُ إلى المسجد.. وعادَ الابنُ إلى سمرِهِ ونُدَمائِهْ.


كان هذا هو اخر لقاء بين (حمد أبحجل) وأبنه (يحي) , بعد اختفاءِه ظَلَّ (حمد أبْحِجِلْ) مُحتفِظًا بكلِّ أشيائِهِ الخَاصَّة في مكانِهَا كما كانتْ وكأنَّهُ ينتظِرُ عودتَه.كان ينظُرُ إلى (بت رحمة) في صبرِها وايمانِها بعودةِ زوجِهَا (يحيى الفلَّاتي).. يستقي من صلابتِها وصبرِها، صبرَه وصلابتَه..
بعدَ أنْ سمعَ النَّاسُ بأمرِ إقتتالِ طلَّابِ الجامعة , هُرِعَ (حمد أبْحِجِلْ ) وأصهارُه (أولاد الإمام) للبحثِ عن ابنهم (يحيى) بجامعةِ الخرطوم.. لم يجدوه بينَ القَتْلَى، كما أنَّهُ أيضًا لم يَكُنْ بينَ المُصابينَ كأنَّ الأرضَ قد انشقَّتْ وابتلعَتْهُ ,اختفاؤه هكذا كان بمثابةِ إعلان وفاةٍ تمَّ تأجيلُه لسنواتْ .. كما أنَّهُ كانَ أمرًا أكثرَ قساوةً من الموت , كان النَّاسُ يَشفِقونَ عليهما , فالموت أقَلُّه خبرٌ مؤكَّد وحزنٌ ربَّما يُذهِبُهُ النّسيان.. جُرحٌ يُدَاويه الزَّمن.ظَلَّ على أملِ رجوعِ ابنِه سنوات..
كان هو و(بت رحمة) شُرْكاءً في هَمِّ الانتظار.. سألتْهُ مَرَّةً :
إتَّ يا أبْحِجِلْ..
الْجَنَا سمّيتُو ( يحيى) ليش؟ أهو الاسم جَبَدُوا.. وغَطَسْ ما قلَّعْ زَيْ (يحيى) الكبير..
وكما كانَ من أمرِ ( يحيى الفلَّاتي ) فقد جاءَ أولادُ الحلالِ أيضًا بأخبارٍ متفرِّقة عن (يحيى الصغير).. مَرَّةً بأميركا.. ومَرَّةً بمصرَ ، وآخرُ رآهُ بجنوبِ إفريقيا , وهو لا يكاد يستمع الى الخبر , حتى تمتم بصوت خافت :
كان حي بعود ..

(*)

شكرا عزيزي عماد الدين على تعهده ..
الان نواصل الفصل الخير ..

محبتي ..