أحلام مِنْ أقبية المنافي .. الحلم الثاني

أحلام مِنْ أقبية المنافي .. الحلم الثاني


03-17-2013, 04:13 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=420&msg=1363489984&rn=0


Post: #1
Title: أحلام مِنْ أقبية المنافي .. الحلم الثاني
Author: Dr. Salah Albashier
Date: 03-17-2013, 04:13 AM

أحلام من أقبية المنافي


الحلم الثاني

استرقه الكرى وهو جالس على أريكته متكئاً على جانبه الأيمن ومستقبلاً القبلة، فرأي فيما يرى النائم أنه في طريقه إلى مطار جون كينيدي بمدينة نيويورك الأمريكية، يتخذ الطائرة إلى بلاده. جلس على كرسيه بالطائر الميمون قاصداً إلى بلاده بعد طول غياب، فاستغرقه النوم واستسلم لخدره اللذيذ، في ذات ليلةٍ من تلك الليالي التي يحلم بها كل من غابت عنه شمس دياره، وران عليه الحُلم، وتمكن منه تمكن ذو السلطان من رعيته، وارتسمت على شفتيه ابتسامة محمولة على أجنحة الشوق النورانية السعيدة. استبقته أحلامه وقد استغرق في النوم إلى مدينته الجميلة، الراقدة على شط النيل الغربي، وهي مدينة عرفها الجميع بأنها تحن إلى أبنائها حنين النيب إلى فصالها، كأنما تنتظرك لتذيقك سعادة حاضرة وأخرى مرجوة. رأى فيما يرى النائم كيف كانت الشمس – حين غادرها – تتناهض من مطلعها قليلاً قليلا، مرسلةً أشعتها الذهبية إلى صفحة النيل لتزيح أستار الليل عنها إلى صباحٍ جميل يجلو صفحتها، فينير خضراءها وغبراءها، ولا زال يرى الشمس ترسل أشعتها الذهبية حتى لمح بارق الطابية قبالة النيل يخطف البصر بلألائه، فخيل إليه أنه يرى في أفقه شمساً أخرى تبعث أشعتها إليه من لجِّ التاريخ، مذكرة أياه بماضٍ نحته الآباء بنفوسهم ودمائهم، فوضع يده على يُسرى أضالعه كأنما ود أن يحفظ هذا التاريخ في سويداء قلبه.
ها هي أمه قابعة في كسر البيت مطرقة برأسها تفلي التراب بعصاةٍ في يدها، وعيناها مخضلتان من البكاء لفراقه، وذاك أبوه يقف في فصل المدرسة العاري أمام السبورة، ويداه المعروقتان مخضبتان بآثار "الطباشير"، يلتفُ حوله الصغار، ليحكي لهم عن سر هذه المدينة الجميلة، كأنه لا يشكو هماً من هموم الحياة أو رزءاً من أرزائها، ثم لا يزال يحكي لهم حتى تجري دمعةٌ فوق يديه لتمحو بعضاً من آثار "الطباشير" وتمشي بعضه على بعض، وقد تذكر ابنه الغائب منذ سنين، ثم لا يلبث أن يعود إلى نفسه، ليحكي لهم تاريخ أجدادهم مرةً بعد مرة.
وهناك عند ناصية الطريق يتراءى له خيال العم "صالح الحلاق" كأنه خيال سار لا يكاد يتبينه رائيه، في جلبابٍ أبيض فضفاض يموج فيه جسمه موجاً، ينتظر زبوناً ليقصر له شعره أو يحلق له لحيته، وهو لا يملك من متاع الدنيا شيئاً غير دكانه وبيتاً عارياً من كل شئ. كان العم "صالح الحلاق" ينزله من نفسه منزلة لم ينزلها أحداً من قبله، ويجد في الحديث إليه من السعادة والغبطة ما يذهب بتلك الغشاوة التي لا تزال تعاوده بين الفينة والأخرى حين يتذكر إبنه الذي توفاه الله بمرض الكالازار، فتصطلح نفسه إلى الهموم والأحزان، ويمسك بين أهداب عينيه دمعة مترقرقه لا تكاد تتماسك، ولا يزال هكذا يراوض نفسه ويمسكها، ثم يمنِّيها الأماني العذاب بأيامٍ سعيدة قادمة، حتى تسلس وتهدأ ويعودها البِشرُ مرة أخرى، فيعود يرسل طرفة هنا وطرفةٌ هناك. في جانب دكان العم "صالح الحلاق" كان دكان "حسن الترزي"، وهو رجلٌ شقيٌ منكوبٌ، قد لبس الهِرمَ قبل أوانه، وأوفى على الخمسين من عمره قبل أن يسلخ منها بضعاً وثلاثين، فتجعد جبينه، وجمدت نظراته، وهوى رأسه، وانحنى ظهره، وقد جعل من نفسه نديماً للكأس لا تكاد تدنو منه إلا وتشتم رائحة الخمر، تحيط به زمرة من زمر الشيطان، فتغريه بالشر وتزّين له كل ما يزيّن الشيطان لابن آدم إلا النساء، وقد امتلأ قلبه كرهاً لهنَّ، لأن فتاته قد تزوجت برجلٍ ميسور الحال، غريب عن مدرتهم، فنفض يده عن كل النساء، واستحال قلبه إلى صخرةٍ عاتيةٍ لا ينلّنَ منها وأطلقهن عنه كما تطلق السائمة، ولسان حاله يردد "إنَّ كيدهنَّ عظيم".
وتلك الجالسة قبالة دكان العم "صالح الحلاق" تفترش الأرض وأمامها أقداحٌ مليئة بالخضروات هي "الحاجة فاطمة" بائعة الخضار وهي امرأة رزقها الله بسطةً في الجسد، فلا تكاد تجلس أو تقوم إلا وهي تحاول أن تخفي هذا البدن الممتلئ عن أعين الناس حياءً وخجلاً، وقد نزلت منها السِمنة منزلةً لم تبرحها ولم تستطع أن تتحلل منها، وهي على بدانتها وحيائها امرأةٌ ضاحكة لا همّ لها سوى الضحك والمرح، تضئ المحافل بحسن حديثها وطلاوته، وتمتلك على النساء أسماعهن وأبصارهن، لا تجاريها في ذلك إلا "أمينة بائعة الشاي"، التي تشاركها افتراش الأرض وتجاورها المكان، وتجلس على مقعدها وبراد الشاي أمامها تغلي ماءه، وبجانبها طبق كبير يحتوي على "اللقيمات" المغموسة في العسل، تنادي بصوتٍ رخيم، يستعذبه المارة من الرجال "الشاي .. الشاي .. علينا جاي"، وهي امرأة قد تجاوزت الثلاثين من عمرها، عذبة المنظر، ذات وجهٍ أسمرٍ رائق، يتقد حياءً وخجلاً، مات عنها زوجها تاركاً لها ابنها محمد وابنتها نعمة، وصبابة من مال، فما كان منها إلا أن شمرت عن ساعد الجد، فاختلفت إلى مكانها هذا تصنع "الشاي واللقيمات" وتبيعهما حتى تستطيع أن تغطي بعائدهما كُلفة العيش وتعليم طفليها، وقد عزفت نفسها عن جنس الذكور حتى تقوم بهذه المهمة الشاقة التي ينوء بحملها أعتى الرجال.
ها هو الشيخ "عبد الرحمن" قد فرغ من صلاة الظهر، يخرج من باب المسجد عائداً إلى بيته، وهو كعادته يأخذ طريقه إلى داره مسبحاً ومحوقلاً. رجلٌ حسن السيرة والسريرة ، شديد الوقار، لا يختلف إلا إلى المسجد مؤدياً صلاته، أو إلى حلقات الذكر ذاكراً ربه، ولم يك يرغب من متاع الدنيا إلا خمسة أشبارٍ يواري فيها جسده يوم يسترد الله وديعته.
تسوقه قدماه إلى شارع الموردة المؤدي إلى السوق الكبير، وهو أشبه شئٍ بخلية النحل، كُله حركة، وكُله نشاط، وكُله دويٌ يرتفع حيناً وينخفض حيناَ آخر، على ما فيه من تباين الأصوات واختلافها بين أصوات الصبية الضئيلة، وأصوات النساء الرقيقة، وأصوات الرجال التي استوفت حظها من الامتلاء، تحمل جميعاً إلى الآذان شيئاً حلواً رائقاً، فيه كثيرٌ من الملائمة والانسجام، يشبه ذلك الانسجام السيمفوني الرائع الذي تعزفه أعظم الفرق الموسيقية. يقف قبالة "دار الرياضة"، وهي إحدى دور الآثار القديمة التي خلفتها الثورة المهدية، جوار مستشفى القابلات وقبة الإمام محمد أحمد المهدي الشماء، وحوش الخليفة عبد الله التعايشي والمجلس البلدي، كل واحدٍ من هذه المباني قصة بذاته. ها هو الحاج إبراهيم يقف أمام دكانه بالسوق الكبير ينادي ابنه سعيداً ليرسله إلى سوق "الملجة" ليشتري بعض اللحم وبعض الخضروات، ثم إلى سوق "العناقريب" ليسأل عمه إسحاق عن بعض حاجتهم هناك.
وهناك نادي الخرجين جوار الجامع الكبير، كان يلتقي هناك أصدقائه كلهم، على اختلاف مشاربهم ومنازعهم. كان أقربهم إليه الدكتور سالم الحاج، هذا الشاب الثائر في هدوء، الممتلئ حكمةً ورأياً، صاحب القلب النقي الطاهر والذي دائماً ما يأنس للعفو، ويستريح إلى العذر، والأستاذ عبد الله حسنين هذا الذي لا يفارقه السخط على الدنيا وما فيها، والنقمة على الزمان والمكان على السواء، وكان عجيباً أن صديقيه مختلفان في كل شئ، حتى نظرتهما لهذه الدنيا وكل الأمور التي تجري فيها، لذا أطلق عليه رواد النادي لقب "جامع النقيضين".
ولم يزل هذا شأنه من الاستغراق في النوم، حتى أحس بيدٍ تهزه، فرفع ناظريه في كسلٍ وتثاءب بعمق، وهو يسمع مايكروفون الطائرة يردد:
• نرجو من ركابنا الكرام الجلوس على مقاعدهم، وربط الأحزمة، والالتزام بعدم التدخين. سيكون الهبوط – إن شاء الله – في مطار الخرطوم في غضون عشر دقائق من الآن. الساعة الآن تمام السابعة صباحاً ودرجة الحرارة بمطار الخرطوم ثلاثين درجة مئوية. قائد الطائرة يتمنى لكم رحلةً سعيدة ووصولاً حميداً، كما يتمنى أن تشاركوا الخطوط الجوية السودانية رحلاتها القادمة بإذن الله.
... حاول أن ينهض فإذا الكرسي ليس بكرسي الطائرة، إنما هي أريكته التي اتكأ عليها، واليد التي لكزته ما هي إلا قطة اتخذها ونيساً في وحدته، ضايقها سكونه وربما خافت من حلمه الذي ساقه إلى رحاب الوطن. مسح دمعة كادت أن تتحدر، وبسمل وحوقل وتعوذ من الشيطان، ونام قبل أن تشيخ آماله.



وتتواصل أحلامنا إن شاء الله ..

Post: #2
Title: Re: أحلام مِنْ أقبية المنافي .. الحلم الثاني
Author: Dr. Salah Albashier
Date: 03-17-2013, 03:19 PM
Parent: #1

لمزيد من الاطلاع

Post: #3
Title: Re: أحلام مِنْ أقبية المنافي .. الحلم الثاني
Author: بله محمد الفاضل
Date: 03-17-2013, 03:26 PM
Parent: #2

(*)

Post: #4
Title: Re: أحلام مِنْ أقبية المنافي .. الحلم الثاني
Author: Dr. Salah Albashier
Date: 03-17-2013, 09:53 PM
Parent: #3

شكراً عزيزي الأستاذ بلة محمد الفاضل على المرور
ودي

Post: #5
Title: Re: أحلام مِنْ أقبية المنافي .. الحلم الثاني
Author: Dr. Salah Albashier
Date: 03-18-2013, 03:10 PM
Parent: #4

***