الاصولية الدينية وحرية الراي....نظرة بانورامية..

يفترض ان يبقي الدين في اطار الاعتقاد الخاص والشخصي, وحين يتوجه
الي الاخرين يفترض ان يبقي في نطاق القيم الاخلاقية, اما اذا تحول الي
عمل سياسي فيصبح حينئذ ذريعة لسلب حرية الانسان وارغامه علي
الامتثال, كما يصبح وسيلة لقمع الاخرين وتبرير استغلالهم..
اذا كانت نزعة التدين لدي كثيرين نابعة من اصالة الاعتقاد , فانها
لدي اخرين اقرب الي العادة, وايا كانت بواعث هذه النزعة, يجب الا
تتحول الي اداة لجعل التماثل والخضوع قانونا الزاميا, او صيغة تعني
الجميع بنفس الشكل او بنفس المقدار, سواء من حيث الاعتقاد, او
من حيث الطقوس. كما ان وجود هذه النزعة لا يبيح..

تحويل الدين ذاته الي سلطة تتجاوز حق الانسان في الاختيار الحر, او
شكلا من اشكال العصبية والتحجر.
ومع ذلك فان العصبية, في المرحلة الراهنة, ظاهرة عالمية, اكثر من
مراحل سابقة , وهذا التعصب ياخذ اشكالا متعددة: تعصب قومي,
اثني, ديني, مذهبي , كما ياخذ شكل مواجهة علنية , وفي بعض
الاحيان عنيفة , بين الاغنياء والفقراء في كل مجتمع, وبين الدول الغنية
والفقيرة علي مستوي العالم , بما في ذلك التضييق علي الهجرة
والعمالة, والموقف من المهاجرين في البلدان المضيفة

لذا من الخطاء عزل الظاهرة الاصولية التي مناطق واسعة من عالمنا
او عزلها عن اسبابها الاقتصادية والا
اذا كانت ظاهرة الاصولية الاسلامية , السياسية تحديدا, تستوقف النظر,
وتتطلب التفسير والتحليل, فالامر ايضا يصح علي الاصولية المسيحية
التي تقودها الكنيسة الكاثوليكية, فان هذه الاصولية لها تجليات عديدة
يمكن الاشارة الي اثنين منها, الاول:موقف الفاتيكان من رجال الدين
المسيحيين الذين ساندوا الفقراء في امريكا اللاتينية, ووقفوا في وجه
الديكتاتوريات التي رعتها وساندتها الولايات المتحدة, الثاني: موقف
الكنيسة تجاه المعسكر الاشتراكي, بداية من بولونيا, منذ مطلع
الثمانينات, والجهد الذي لم يهدا في مناواة النظام, وتبني خصومه
للدرجة القصوي, وقد تم هذا بالاتفاق والتنسيق مع اكثر الجهات
رجعية في الغرب المسيحي, ان هذين الموقفين يدلان بوضوح علي
الاصولية المسيحية تلعب دورا مؤثرا , في المجال السياسي تحديدا, بالتالي
فان ظاهرة الاصولية الاسلامية التي تركز عليها الاضواء في الوقت
الراهن, لها ما يماثلها علي الضفة الاخري..
هذا جانب, اما الجانب الاخر, فان الاصولية الاسلامية السياسية,
والشق المعتمد علي العنف تحديدا, كانت موضع تبني ودعم من الغرب
في مراحل عديدة , ولقد اخذ الدعم اشكالا متعددة, سياسيا وماليا
واعلاميا واحيانا عسكريا.ولعل المثال الافغاني يقف شاهدا علي ذلك

مما يشير الي ان الغرب يحدد موقفه من التيار الاصولي, استنادا الي
الفائدة او الضرر المباشر الذي يطال مصالحه, وليس لموقف
مبدئي ثابت تجاه هذا التيار..
ليس ذلك فقط ان الدول الغربية , في مراحل متعددة كانت ولا تزال تدعم
وتتبني انظمة واتجاهات اصولية , فان انظمة الخليج العربي مثلا تحظي
برعاية وحماية الغرب, لا سيما الولايات المتحدة, رغم ما تتصف به هذه
الانظمة من رجعية, ورغم دعم هذه الانظمة نفسها لحركات اصولية
متطرفة علي مستوي العالم.
فالاصولية الاسلامية رغم انها وجدت منذ وقت مبكر, الا انها الان
اقوي من اي وقت مضي. ومن جملة مايفسر ذلك , ضعف او
غياب التيارات الاخري, والمصاعب والعراقيل التي وضعت في وجهها,
وكان الغرب فيما مضي يخوض حربا بشكل مباشر, او من خلال
دعم الحكومات الرجعية والانظمة المستبدة, لمحاربة وعرقلة عجلة
التيارات التقدمية والديمقراطية, مما افسح المجال واسعا امام التيارات
الاصولية لان تقوي وتسيطر, ومثل السادات في مصر مثالا ساطعا...
وقد تعززت هذه الحالة بسقوط الاتحاد السوفيتي, وما رافق هذا السقوط من
من حملة اعلامية غربية تقول باستحالة وجود فرص او امكانية للتيار
الديمقراطي التقدمي, كي يكون حلا بديلا للنظم الرجعية القائمة, مما
افسح المجال لان يعتبر التيار الاصولي نفسه بديلا وحيدا...

مواجهة وضع مثل هذا وجدت الاصولية مناخا ملائما لان تعمل
وتؤثر وتزداد قوة , خاصة وان سياسة الغرب طوال حقب متواصلة,
اتسمت بضيق الافق والانانية, وايضا مناواة الطموحات المشروعة
لشعوب المنطقة, مما اغري الحركات الاصولية لان تطرح نفسها كافق
محتمل للتحرر الوطني والاقتصادي, بغض النظر عن واقعية مثل
هذا الاحتمال لاحقا....
ومن جملة ما يعزز موقف التيار الاصولي ويكسبه شعبية واسعة, السياسة
والشعارات التي يرفعها في مواجهة الغرب, هذه اشارات ضرورية لفهم
الظاهرة الاصولية ووضعها في سياقها. اما اذا عزلت عن هذا السياق,
وعن فهم العوامل الكامنة وراء نهوضها وقوتها وعنفوانها, فسيؤدي
ذلك للمذيد من الاخطاء في التعامل معها..

قد لا يكون من المجد البحث عن اسانيد حول مدي ما يتيحه الدين في
مجال حرية الراي والحوار والتعددية الفكرية, اذ رغم وجود عدد من
النصوص تؤيد مثل هذا التوجه , الا ان ما يجعل ذلك ممكنا ثم واقعا
هو المناخ المسيطر. اذ بمقدار ما يوجد في الدين, اي دين, من
التسامح والحض علي المحبة والتعاون, الا ان الامر في كل دين,
رهين بمقدار ما يسود بين الافراد والاطراف من رغبة وقناعة, ثم ما
يتطلب من عدالة وانصاف وفهم متبادل, تمهيدا للوصول لصيغة راقية
في التعامل...

ان حرية الراي في المجتمعات المتقدمة, هي نتاج للتوازن الذي حدث في
هذه المجتمعات, وهي تعبير عن الحاجة من ناحية, وعن توفر الوسائل
لتلبيتها سلميا وعقلانيا وطوعيا من ناحية اخري. اما في واقع المجتمعات
الاسلامية, فان الامر يختلف عن ذلك كثيرا, وهذا مما جعل الحركة
الاصولية , في جانب منها رد فعل لفشل الانظمة السياسية, ولعجز
القوي التقدمية عن ان تكون بديلا ذا مصداقية لهذه الانظمة, اضافة
لان الاصوليات تعتبر نفسها حالة رفض واحتجاج علي السياسة
الغربية تجاه المنطقة, كما تعتبر موقفها دفاعا عن الهوية والخصوصية لشعوب المنطقة....
لان التيارات الاصولية تعتمد علي تحريك عواطف الناس واستثارتهم, عبر
التعبئة العاطفية الشعاراتية, بديلا للخطاب العقلاني والبرامج السياسية
كما تلجا الي محاولة اسكات اي صوت او راي مخالف لها , بالعنف
والالغاء, لان احد عناصر الهيمنة التي تريد الوصول اليها, هي
سيادة الصوت الواحد, وعدم تسرب الشك لمؤيديها باحتمال وجود
الحقيقة لدي طرف اخر. فاحد مقومات الاصولية , انها تعتبر نفسها
وحدها مالكة الحقيقة, لذلك تشترط في مؤيديها التسليم الكلي,
والانصياع الكامل في القناعة والسلوك, ولكونها تدعي الاستناد لقوة
فوق البشر, لذا تعتبر ان ما تنادي به لا يحتمل المناقشة, كما لا
يحتمل التعديل او اعادة النظر, ناهيك عن الرفض..

وبالتالي لا تعترف بامكانية وجود الحقيقة او جزء منها لدي غيرها, الامر
الذي يسوغ لها اعتبار ان الاخرين دائما علي خطا, وعليها علي الدوام
هدايتهم, ومن يتابي الهداية يجوز ان يلغي ويحذف ماديا..
فالصراع كما يتصوره هؤلاء , ليس بين مذاهب فكرية او برامج سياسية,
انما بين الكفر والايمان, بين مؤمنين وعصاة, وان جاز اللجوء للمنطق
والحوار في مرحلة من المراحل, انما بغرض اعادة العصاة الي
الطريق القويم, وحين يتعذر اقناعهم بالعودة, فعندئذ يجوز لهم, بل من
الواجب استخدام كافة الوسائل للوصول لهذه النتيجة...
وباعتبار ان الحركة الاصولية لها تراتيبية معينة, فان الافتاء واعطاء
الراي يختص بها عدد محدود, وعلي الاخرين الامتثال وتنفيذ ما يطلب
منهم, وهؤلاء الذين اعفوا انفسهم من فضيلة الاجتهاد واعمال العقل, او
كانوا في مرتبة لا تسمح لهم بذلك, عليهم ان يتحمسوا لتنفيذ الاوامر,
طاعة لله, بغض النظر عن النتائج التي تترتب عليها...

من هنا نستطيع تفسير مجموعة من الحالات:
ففي الجزائر كان هدف الاصوليين حذف الراي الاخر, وهذا الهدف لايمكن
الوصول اليه الا بالتخلص من هذا الاخر, صاحب الراي المغاير,
لذلك انصب جزء كبير من العنف علي الكتاب والصحفيين, لان
هؤلاء بالاضافة لامتلاكهم رايا اخر, فانهم قادرون علي ايصال هذا
الراي, واقناع الكثيرين به, وهكذا كان عدد الضحايا في الجزائر ممن
يحملون وجهة نظر مختلفة كبيرا, وكانت لغة الحذف هي المسيطرة..
وفي مصر التي كانت تستند تاريخيا الي قوة القضاء والصحافة,
والي وجود مؤسسات المجتمع المدني , لجاءت الجماعات الدينية
لمحاربة المثقفين, لكن بطريقة تختلف عن الجزائر, لارغامهم علي
التواري والتسليم

لجاءت هذه الحركات لمؤسسات الدولة من اجل قمع المثقفين, فالازهر
افتي بمنع رواية نجيب محفوظ( اولاد حارتنا), وقد فعل ذلك منذ
وقت مبكر, وكان سندا للحركة الاصولية, لكي تستمر في ملاحقة
الاديب الكبير, ولاحقا محاولة قتله...
مع الاشارة ان الذين قاموا بالمحاولة لم يقراوا الرواية المعنية , كما اعترفوا
بذلك امام المحكمة, وانما فعلوا ما فعلوا تنفيذا لاوامر شيوخهم..
واستنادا للقانون ايضا اقيمت الدعوي علي نصر حامد ابوزيد, واتهم
بالردة, مما يستدعي بنظرهم التفريق بينه وبين زوجته, ولاحقا اهدار دمه
وقد حاول الرجل جاهدا تبرئة نفسه اعتمادا علي القانون وليس علي
مبادئ الحق والمنطق...

وهنالك مثقفون اخرون قدموا حياتهم لانهم تجراوا علي الاجتهاد,
واعتبروا ان الحقيقة ليست حكرا لطرف واحد, ولعل فرج فودة اوضح
مثال
ان المناخ المسيطر, هو الذي يحدد طريقة فهم القانون, وبالتالي طريقة
تطبيقه. فطه حسين الذي احيل للمحاكمة في الربع الاول من القرن
الماضي, بعد ان الف كتابا عن الشعر الجاهلي, وكانت له اجتهادات
تختلف عن اجتهادات الازهر بخصوص الموضوع, اغلقت الدعوي
التي اقيمت عليه, ولم يصدر فيها حكم, استنادا للقانون..
وعلي عبد الرازق الذي وضع كتاب الاسلام واصول الحكم, وكان
كتابه اجتهادا جريئا, يخالف السائد من الاراء, لم يتعرض لما تعرض
له اخرين كانت اجتهاداتهم اقل اهمية...

حالات مثل هذه تؤكد ان الحركة الاصولية قوية ونافذة بمقدار
ضعف الاخرين وغيابهم, فعندما تكون مؤسسات المجتمع المدني,من
قانون وقضاء وصحافة وحزاب ومكيفي راي عام
Public opinion modulators , موجودة وفاعلة ويقظة, فان
التعصب ينحسر والقوي الاصولية لاتستطيع ان تملي او ان تسيطر, وبالتالي يتولد
مناخ للمناقشة والاختلاف والتعدد, ويصبح الاحتكام الي العقل والمنطق
والي الراي العام, وضوابط المجتمع المدني, الاساس في الوصول
للحلول, وتضيق الفرص امام الراي الواحد, كما يتعذر اللجوء للعنف
كصيغة من صيغ فرض الراي....
الصباح رباح...ونواصل