عندما يغيب الأب .. بقلم: محمد محمود

عندما يغيب الأب .. بقلم: محمد محمود


02-19-2013, 03:16 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=420&msg=1361283361&rn=0


Post: #1
Title: عندما يغيب الأب .. بقلم: محمد محمود
Author: Amin Elsayed
Date: 02-19-2013, 03:16 PM



(1)
يرن الجرس، تنظر للرقم، ويهجمك شعور بالانقباض، تحس على التو بأن الصوت الآتي من الطرف الآخر متغيّر ومتوتّر، ويزداد انقباضك، ثم يسقط الخبر. يحاصرك الخبر ويمسك بخناقك، وتحسّ بذلك اللسع الحاد في المآقي الذي يسبق انهمار الدمع.

ويعلو الصوت بداخلك: لا، لم يمت!
كيف يموت وأنت تحمله نابضا في ذاكرتك. هأنت تكاد تلمسه لمس اليد، يتراءى لك بجلبابه الأبيض الناصع البياض وطاقيته البيضاء التي تغطي مؤخرة رأسه ومركوبه الأبيض اللامع، لا تسمع صوتا ولكنك ترى وجها مبتسما، وجها عركته العقود ولم تنل منه إذ قاومها بسماحته وتسامحه وصبر لا قاع له.

يلسع الدمع عينيك وتحس بمرارة في الأحشاء، إلا أن يد الذاكرة الرحيمة تمتدّ لتجذبك وتضعك في حضرته. هاهو جالس على عرش الأبوة وهأنت تتقلب في أطوارك. هأنت طفل يحبو ويرفع عينيه ليرى وجها مبتسما يلتحم بالسماء. هأنت يافع تفوح منه رائحة التمرد والرغبة في اختبار العالم، وتتلفت لتجده قد أحاطك بفضاء فسيح من التفهّم والتسامح. هأنت راشد قد دخل معترك الحياة، وتتلفت لتجده سندا صديقا يعاملك وكأنك ندّه.

(2)
وذات ليلة مظلمة في بداية صيف قاسٍ تتحرّك الدبابات، وتصحو لتجد الوطن قد سُلب وعاد السجن الكبير الذي كانت قد تهاوت جدرانه قبل سنوات قلائل. ينهار عالمك وتجد نفسك ضمن الأفواج الأولى لمنفيِّي الوطن الجدد، وتصبح رقما جديدا ينضاف للقائمة الطويلة لمن وجدوا أنفسهم في المنافي منذ فجر الاستقلال بفعل الحروب الأهلية وقمع الأنظمة العسكرية وطغيانها. تجد نفسك بعيدا عن مراتع الصبا ومذاق الوطن وألوانه وأصواته، بعيدا عن الأم والأب، بعيدا عن الأخوات والأخوان، بعيدا عمن أحببت من أهل وأصدقاء. تحملهم في جوانحك، وتراهم في أحلامك وكوابيسك، ضاحكين وعابسين، فرحين ومكتئبين، شَبْعَى وجَوْعَى، مرتوين وظَمْأى، وتراهم وعيونهم تنظر بلهفة وتوق للفضاء الفسيح خلف القضبان.

(3)
هل كان أبوك وجيل أبيك من عامة المواطنين يتوقعون أن يطعنهم ذلك الخنجر وهم يكافحون من أجل الاستقلال ويحلمون بكرامة الاستقلال؟ هل خطر ببالهم أن الوطن سيُسلب مرات ويعجز ابناؤه عن العيش فيه؟ هل خطر ببالهم أن ما عجز الاستعمار عن فعله سيرتكبه بعض أبناء الوطن فيمزقونه ويقتلون مواطنيهم ويسجنونهم يعذبونهم ويشرّدونهم؟ هل خطر ببالهم أن الوطن سيدخل القرن الحادي والعشرين وهو من أفقر البلاد وأكثرها استبدادا وفسادا وأن المشروع الوطني سينتكس ليصبح مشروع عودة لأحكام وقيم القرن السابع؟

(4)
وتفكّر في أبيك وجيل أبيك. وتستوقفك الكثير من الصفات. كان التسامح صفة أصيلة من صفاته وصفات جيله، حتى صديقه الذي كانوا يصفونه بـ "الخامسي" كان رجلا معتدلا لا ينقصه شيء من التسامح. وتسأل نفسك: من أين أتى هذا التسامح؟ لم ترَ جدّك الذي مات قبل أن تولد، وعندما تسأله عنه تجد طرفا من الإجابة إذ أن أباه كان متسامحا واسع الصدر. ولكن لعل الإجابة تلتحم أيضا التحاما وثيقا بواقع السياق الذي نما وترعرع فيه، وهو سياق سمح بالتعايش بين عناصر ثقافية مختلفة دخلت كلها في التكوين والتشكيل الثقافي للأفراد. ربما كان أبوك محظوظا لأنه هاجر لصقع آخر في الوطن ولامس عناصر ثقافية جديدة، ربما كان محظوظا لأنه هاجر من مدينة صغيرة ذات تنوّع محدود لمدينة أكبر ذات تنوّع أعظم. لا شك أن ذلك ساعد على تمديد أفقه واتساعه، إلا أن كل ذلك تفاعل مع تلك الخميرة الأساسية التي ظل يحملها داخله وهي صفة التسامح.

(5)
وتلاحظ صفة أخرى هامة في أبيك وجيله وهي الانشغال بالهمّ السياسي. لا يهتمون بما يحدث في الوطن فحسب وإنما بكل ما يحدث في العالم لأنهم يدركون ترابط الأشياء. هذا الهمّ المقيم غرسه فيهم الكفاح من أجل الاستقلال. صحيح أن الطور الأول في كفاحهم كان طور تحسّس واستكشاف للدرب انقسموا فيه لاتحاديين واستقلاليين، إلا أن الطور الثاني كان طور الطفرة الاستقلالية عندما اندمجت كل الأطياف في (الأزرق والأصفر والأخضر) ليولد الاستقلال. وبذا لم يكن جيل أبيك باستقلالييه واتحادييه جيل الاستقلال فحسب وإنما كان أيضا جيل الانقسام الحزبي (والطائفي). إلا أن حزبيتهم (وحتى طائفيتهم) حملت واحتضنت بذرة إيجابية هي بذرة شجرة الديمقراطية السودانية، وهي شجرة لا تزال حتى الآن تكابد وتبذل قُصارى جَهْدها لتوطّن جذورها وتمدّها ولتنشر غصونها باسقة وريفة تظلّ كل السودانيين.

(6)
وتقول لنفسك: صحيح أنه ذهب بعد أن تجرّع غُصّة إخفاقات ما بعد الاستقلال وبعد أن شهد المجاعات والمجازر وبعد أن شهد تراجع التسامح وانسحابه وبعد أن شهد انقسام الوطن، إلا أنه ذهب متماسكا وعاضّا بالنواجذ على استقامته وكرامته، وربما ظلّ حتى اللحظة الأخيرة يحمل جذوة جيله وأملهم بأن يصبح وطنهم "علما بين الأمم".

(*) محمد أحمد محمود أستاذ جامعي سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ويقيم حاليا في المملكة المتحدة.




.

Post: #2
Title: Re: عندما يغيب الأب .. بقلم: محمد محمود
Author: Amin Elsayed
Date: 02-19-2013, 03:36 PM
Parent: #1



تتقدم مجموعة أجندة مفتوحة بخالص التعازي
للدكتور محمد محمود في فقد والده

وتقيم يوم عزاء مفتوح السبت الموافق 23 فبراير 2013

من الساعة الثانية ظهراً حتي السادسة مساءاً
المكان:
Praxis Community Projects
Pott Street
London E2 EF0

Venue map:

مجموعة أجندة مفتوحة




.

Post: #3
Title: Re: عندما يغيب الأب .. بقلم: محمد محمود
Author: احمد الامين احمد
Date: 02-19-2013, 06:05 PM
Parent: #2

الرحمة والمغفرة من مليك مقتدر للراحل المقيم الذى أنجب وربى أحد أرقى العقول التى تشرفنا بنهل العلم منها
أستاذنا الجليل المحترم : د.محمد محمود
أستاذنا القديم د.محمد محمود زول منضبط جدا لدرجة إمكانية ضبط الساعات على مواعيد حركته وقتها فى أروقة الكلية والجامعة والشارع عموما ويبدو من فرط حسن تنظيمه وترتيبه أنه سليل أسرة إنجليزية نسته سهوا عند خروجها من السودان عقب الإستقلال السياسى لوطننا الذى لايحفل كثيرا بالوقت وقيمته رغم أن ديننا الحنيف يحثنا على حسن إستغلال الوقت بل عباداتنا الخمس ترتكز على الوقت تحديدا الصلاة التى هى عماد ديننا كمافى الحديث الشريف .
درسنا د. محمد محمود – سقته الرياح –هذا الاكاديمى الضليع حامل الاستاذيه الكبرى من أكسفورد، رواية (عرس الزين ) للطيب صالح فى ترجمتها الانجليزية العالية جدا بكلية اداب جامعة الخرطوم (حياها الحيا ) بالقاعة 105 ذات المقاد الخشبية الحمراء ونحن نتجه صوب مطلع الشمس ذاك العهد البعيد حيث القلب كان أخضر ولسع فى ريعان شبابو ( كما يغنى الصوت الراقى محمد وردى فى أغنية كجراى مافى داعي ) إبن كسلا الوريفة بلدة أستاذنا محمد محمود ، ضمن متطلبات مقرر الأدب الانجليزي بكلية الآداب في النصف الثاني من ثمانيات القرن العشرين .
أذكر خلال تدريسه تلك الرواية وغيرها من متطلبات المقررة ة كان د. محمد محمود ن يحمل أثناء المحاضرات كاميرا وهميه ينتقل بها عبر المناظر خاصة حينما كان يتابع رحلة (الملاح العتيق ) للشاعر الإنجليزى الرومانسى صمويل كوليردج تحديدا حركة الطائر (الباتروس ) الذى كان يرافق قارب ذاك الملاح العتيق !!

وقد حذرنا د. محمد محمود (سقته الرياح ) في أخر عبارة للمقرر أن لا نخلط بين الطيب صالح ومحيميد كي يستقيم فهمنا النقدي لمجمل سرديات الطيب صالح وغيرها من الروايات التي تستند في السرد على ضمير المتكلم المفرد وقد كرر كثيرا وهو يهم بالخروج من القاعة بتلك الإنجليزية الرفيعة جدا
Remember that Tayeb Salih is not Mehameed the narrator of all his novels.
كانت له محاضرة تبدأ فى الخامسة عند المساء ويتم رفع أذان المغرب أثناء سير المحاضرة وعند سماع النداء المرفوع من مسجد الجامعة الشهير كان يوقف المحاضرة ويقول بالانجليزية الرفيعة .
Ten minutes break for those who pray.

الاكاديمي السودانى د. محمد احمد محمود - حامل الدكتوراه من اكسفورد واستاذ الادب الانجليزى قديما باداب جامعه الخرطوم شأن العلامة النحرير عبدالله الطيب (1921-2003) لم يكن يضع لقب دكتور على لوحه باب مكتبه وكان يمتاز بالدقه والانضباط الصارم لدرجه انه كتب قديما بالسودان مقالا يدعو لترقيم كل البيوت بالعاصمة المثلثة وكتابة الرقم على لوحة واضحة ليسهل على الزوار سرعة ومرونة الإهتداء للبيوت كسبا للوقت الذى لم نعرفه قيمته حتى الان بوطننا .
د. محمد محمود إنسان نادر يمتاز بتواضع جم وهدوء وتربية إجتماعية منضبطة مردها نشاته فى أسرة
تجيد تربية من تنجب إلى جانب إصراره على تربية الذات عبر سعة الإطلاع والهدو والرزانة ....
* الرحمة والمغفرة للراحل أحمد محمود والد الاستاذ محمد محمود وأفخر أننى كنت يوما تلميذا فى مجالس درس الإنسان المحترم واسع العلم والإطلاع والتأمل د. محمد محمود
405928_103444559778688_1941163021_n.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

Post: #4
Title: Re: عندما يغيب الأب .. بقلم: محمد محمود
Author: Dr Salah Al Bander
Date: 02-20-2013, 10:49 AM
Parent: #3



اللهم اغفر له وارحمه
وتغمده بواسع رحمتك
انا لله وانا اليه راجعون

Post: #5
Title: Re: عندما يغيب الأب .. بقلم: محمد محمود
Author: Amin Elsayed
Date: 02-20-2013, 01:36 PM
Parent: #4

شكرا الزميل احمد الامين على الكلمات الرائعة في حق الدكتور محمد محمود.

Post: #6
Title: Re: عندما يغيب الأب .. بقلم: محمد محمود
Author: saif basheer
Date: 02-20-2013, 09:17 PM
Parent: #5

هذا هو محمد محمود.. لا يخذلك أبداً عندما يكتب،
إذا فهمت ما يكتب.

رحل العم أحمد محمود عن عمر يفوق الثمانين بقليل
ولقد أدى رسالته على أكمل وجه؛ ولد، ربى، وعلم.

وكما قال محمد الأمين أحمد:
محظوظون نحن أننا عرفنا أحد أبناء العم أحمد محمود
وأي ابن هو!

شكراً أمين.

Post: #7
Title: Re: عندما يغيب الأب .. بقلم: محمد محمود
Author: الصادق يحيى عبدالله
Date: 02-20-2013, 10:21 PM
Parent: #6

Quote: أستاذنا القديم د.محمد محمود زول منضبط جدا لدرجة إمكانية ضبط الساعات على مواعيد حركته وقتها فى أروقة الكلية والجامعة

نسال الله ان يغفر لوالده و يرحمه و يجعله من اصحاب اليمين.

Post: #8
Title: Re: عندما يغيب الأب .. بقلم: محمد محمود
Author: Amin Elsayed
Date: 02-21-2013, 10:25 AM
Parent: #7

الزملاء سيف والصادق
شكرا للمرور ونشوفكم يوم السبت