الحُوت لا يموت .

الحُوت لا يموت .


01-17-2013, 04:29 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=420&msg=1358440162&rn=0


Post: #1
Title: الحُوت لا يموت .
Author: حبيب نورة
Date: 01-17-2013, 04:29 PM

ترفّق يا موت . بربّك . نعم لم نعُد نثق في هذه الحياة التي تنسجُ أكاذيبها حولنا وتمكرُ، نعم لم تعُد لدينا مقاومة كافية، ولكننا لن نحتمل . ثِقْ إننا لن نحتمل . رجاءاً أنسَ أرقامنا الهاتفية، وعناوين بريدنا، وحتي أسماءنا . " أيه الحصل تكتب جواب عايزنا نحن نحصّلك " . ألم تدرِ بأننا " ما دُرنا الفراق البيه جيت فاجأتنا .. عايشين على ريدك سنين في لحظة جيت بس خُنتنا " أوَتسرقُ جيلنا بكاملِ أحلامه لتقنعنا بأننا جيلٌ لا يفهم أن الأحلامَ لا تتنفسُ في عالمنا إلا بواسطة جهاز تنفّس إصطناعي ؟ . يا صاحب " منو القال ليك بنتحمّل فراق عينيك " ؟ . لم أزل أتذكر إبن التبلدي الذي أصبح فيما بعد وقبل صديقي، كنا نطلق عليه في ذلك الوقت ( أبنوسي ) ولعله لم يزل يحمل هذا اللقب في حقيبة ذكرياته المهترئة . ضائعٌ كنت . لم يجدني أحد حتى الآن حتى أحسب نفسي من زمرةِ الموجودين . أحتضنتنا الحياة بالقدرِ الذي يجعلنا لا نفهم وجهها الآخر . وجهها الدميم الذي لم تستطع أن تخبرنا ملامحه القاسية بأن " إبتسامة حبيبي تكفي مهما كان بينّا الغرام حقّك إنت أقلّو توفِي لو تفوت بس بالسلام " .
كان صديقي الغابر هذا يصرّ على أن أتقاسم معه إلياذة إدريس جماع العاطفية المصغّرة " ثم ضاعَ الأمس منا وأنطوت في القلبِ حسرة " بطعمِ أوركسترة تشتّت لحنها بين قبائلِ الطرب فينا، تقاسمنها خبزاً، وحلبنا من عيوننا " موية فول " نسكبهُ على بعضِ ما فينا من ترحالٍ وغربةٍ وألم . لم نكن طيفانِ في حُلُمٍ سماويٍ سرينا، ولم نكن ولم نكن . الشئ الذي أستطيع أن أجزم به أننا طوينا المسافة إلينا طيْ السحابَ لا ريثٍ ولا عجلِ، وكان محمود هو من يقود الرسن، ولا يترفّق بنا، وكأنه أدرك بأن خِطام صوته يستطيع أن يُلجِم ما سواه، فلا نستطيع أن نصغي لغيره . فسمعنا وأطعنا .
أطأطئ . أصغي . أتلفّت . أفرح . أسعد . أبكي وأدمعُ فرحاً وطرباً وغناء . أرجعُ إلى الوراء . أتقهقرُ ما أستطعت سبيلا . كنتُ في ذلك الوقت صغيراً غضّ الإهاب، وكانت بورتسودان عروساً للبحرِ وحورية . تهندمتُ بما يكفي لإنسانٍ ريفي يريد أن يقنع الناس بأنه كائن عاصمي قادمٌ من بلادٍ فيها الرئيس بنوم والطيارة بتقُوم . كان لهيب الشوق يتأجج في قلبي الصغير الذي لا يحتمل، لا يحتمل رهق القطارات والمحطات ولؤم الأسفار البعيدة، لا يحتمل لا يحتمل . في ذلك الوقت كنت أظن أن التشعلق في المواصلات المتجهة لأم درمان مخاطرة لا يحتملها دعاء السفر، فأستودعتني أمي آيةً للكرسي، أظنها، ومضيت . بكاملِ أُبّهةِ قميصي الكاروهات الأزرق كنت هناك، وكان . صيفاً مساء كان الحفل . لم أكن أعرف وسط هذا الجمع الغفير غير محمد بشير بتاع الباص غيتار، وسعدون عازف الإيقاع، وكُننّو صاحب الأكورديون، ومجموعة من العازفين كنت أظنهم قبلاً البُعد الخامس، وأخبروني بعد ذلك إنهم مجموعة من النوارس أختاروا البحر مرسىً لقواربهم وآمالهم واللحون .
على كُرسٍ جلست مشدوهاً إليهِ عندما أنتصف المسرح مهيباً رهيباً طيّبا . كان يضع على سُبابتهِ نفس الخاتم الذي رأيناه في صورةِ البوستر الذي أعقب زواجه في ألبوم لهيب الشوق، وعلى محياه خفَر ونُبُل وبراءة الناس الطيبين . بكى من بكى وصاح من صاح، وأجهشت بالبكاء من لم تستطع أن تداري دموعها بالفرح، فأبكتها فرحتها، وأراحها البكاء، ولعلهن قد توشّحن بتوبِ الكِرِب الجابوهُ النقادة، وأقسمن قائلات: يا سيد الناس أنا عاشقك زيادة . لم يكن الحفل الأول الذي أحضره للحوت، ولكن هنالك الكثيرون الذين لم يحصل لهم هذا الشرف، لهذا كنت أنتظر أن يصدح بأغنية " بسّامة " . سمعتها في شريطِ حفلٍ يقال أنه أقيم في مدينة ود مدني . وكنت معجبٌ ولم أزل بالمقطعِ الأول من الأغنية الذي يظهر فيه محمود إمكانياته الصوتية الجبارة، وهو يحفِر عميقاً في " الغرار " دون أن يطرف له جفن، أو " تشمطُ له عصبة " . كانت حباله الصوتية تهتزّ في ثباتِ غريب . " حليوة يا بسامة الفايح نسّامة الريدة في قلوبنا الله علامة " . ليقاطعه بعد قليل الممثل الشاب سموأل، وهو يرقص من شدّة الطرب، فيضيف الحوت " عرقلة يا بسّامة الفايح نسّامة " . في إشارةٍ للقبٍ أكتسبه سموأل من المسلسل السوداني الذائع الصيت، الذي أدى فيه دور ( عرقلة ) . فكان طرباً ورقصاً وكوميديا .
أمطرت المدينة الساحلية في ذلك اليوم مراتاً عديدة، فلم نتوقع أن تعيد الكرّة ذلك المساء . المطرة لم تكن تعلم عن حفلنا شئ، فكانت تثرثر علي كيفها، فضقنا ذرعاً بصوتها، وتبرّمنا . ولهذا السبب كان الغناء يتوقف ويفسد المزاج، فكانت هذه المطرة الوحيدة التي لم أحبها في حياتي . وتكرّر الأمر كثيراً . وفي المرة الأخيرة نهضت من الكرسي، وأتجهت صوب الحوت المنتصب بهيبة وجلال الملوك، وبساطة ومسكنة حفظة القرآن، قلت يا محمود : بسامة ولو قامت القيامة . لم تقم القيامة إلا في مسرح بورتسودان، وغنّى محمود ورقصت أنا حد الهستريا في تلك الأمسية السعيدة .
أحببناك قبل أن تقرّر الحاجة فائزة إنجابك في أواخر العام 1967، وعشقنا صوتك حتى قبل أن تتعلم الكلام، فرحنا معك ما سمحت الأيام، ورافقناك وأنت فتياً تخطو في ثباتٍ وسط ثلوج موسكو، وتدهش أباطرة الموسيقى الروس، وتخبرهم عملياً بأنك نبي الغناء القادم من قلبِ الغابةِ والصحراء، فسكت الرباب في موسكو حين غنّى الحوت وأجاد . لعلمكم كان محمود يرهقنا كثيراً بجمرِ الإنتظار، وكنا سعيدين بذلك . لو كان يعلم جمال الإنتظار لما جاء أبداً . أين أنت الآن يا صديقي؟ " مانع رسايلك ليه إنشاء الله حاصل خير تكتب شنو الحاصل " .

Post: #2
Title: Re: الحُوت لا يموت !
Author: حبيب نورة
Date: 01-17-2013, 04:41 PM
Parent: #1

Quote:

ظللت وعلى مدار اليومين الماضيين أحاول تجاوز هذا الحزن القادم ..
لا .. ليس هناك أدنى إحتمال للتجاوز ولكن .. كنت .. بالاحرى .. كنت .. أحاول ترتيب حزن يليق بهذا الموات العظيم .. حزن يتوهط -كعادته- وبكامل قسوتة الوحشية فى باحة الروح .. يمارسُ إيغاله العنيف فى الخلايا .. يصيبُ الوجدان فى مقاتل كثيرة .. لا تبدأ من حكايات الصبا ولا تنتهى عند هذا الإغتراب الماحق للروح .. أو حتى عند نهاياته العصبية الملتهبة بفعل الملح والتكلس والصدأ .. صدأ الروح .. صدأ المنفى

محمود عبدالعزيز .. ماشي وين آ زول ؟!
الكلام ده بدرى جداً ياخ !!

ثمة أغنيات لم تأت بعد ..
ثمة حكايات عشق لم تنسج فصولها بعد ..
ثمة وطن ليكون ..
وطن, يكون نكون ..
والوطنُ السمحً يكون نكون ..
وتماما وكما اوميء الفيتورى ..
ام لعله ما كان الفيتورى يا وترية الهاجس والحرف؟!..
الفيتورى ؟! ..
ويترايء لى وكأنه راية قافلة تغرق - شيئاً فشيئاً - فى الرمال ..
أو ..
حين يأخذك الصمت منا
فتبدو بعيداً..
كأنك راية قافلة غرقت
في الرمال ..

قالها لعبدالخالق ..
عفوا ..
قالها نحو عبدالخالق إثر مقصلة ..
نحو أجمل حكاية سودانية على الاطلاق ..
ومقاصل الموت –الآن- تاخذ محمود عبدالعزيز بعيداً منا ..
وكأنه راية عشق غرقت فى الرمال ..
أين حِميدْ ؟!!

من ليزيح وجه الموت عن محمود قليلاً..
كى أحاول ترتيب هذا الحزن المضاف !!
ترى!!
من سيطربنى ب "خلى العيش حرام؟!"
عفواً .. من سيطربنى حد الثمالة ب "خلى العيش حرام؟!"
وبذات ذاك الإيقاع, ما يرتكبه محمود فى روح روحى
..
يا الله ياااا الله ..
يا لهذا الحزن الشاااااهق فى الروحِ ..
ومحمود – أعلمً يقيناً- أجمل من غنانى بعضاً من تلك الأغنيات الفارهات ..
تذوقت –على صوته- طعماً جديداً لتلك الأغنيات القديمة فى الروح ..
يااااا هذا الحزنُ كُنْ ..
كُنْ حاضراً فى الروحِ و.. أشتعلْ
وياااا توب الكِرِب ..
فلتعلن الآن مواسم الحداد ..
ف .. زمنًا فات وغناينًا مات ..
ـــــــــــ
د. محمد حيدر المشرف