حميد .. " جنا موت ".. بقلم عوض محمد الحسن

مات إنسان نادر في زمن أصبح الناس فيه "الكوم بي قِرِش والدُّقّة بلاش". مات إنسان طاهر في زمن نجس تُصافح فيه الخلق – إلا من رحم ربّي – فتهرع إلى دارك لتغتسل. مات إنسان زاهد زهدا حقيقيا عن مقدرة ووعي وإدراك صوفي ويقين أن إسعاد الناس أثمن من متاع الدنيا. مات إنسان موهوب في زمن جفّ فيه الزرع والضرع والإلهام. مات إنسان كريم من غير منّ أو أذى أو ضوضاء، لا يستقر القرش في جيبه ولا تدري شماله ما فعلت يمينه. مات إنسان بار بأهله وأصحابه وجيرانه وبمن يقصده، وبالإنسانية جمعاء.
رحم الله حميد حسن سالم. كان قلبه ديوان زكاة، وديوان شعر، وديوان ضيفان يسع الدنيا ويتحكّر في صدارته المساكين الذين غنّى لهم وغنّى باسمهم، الذين أحبّهم وأحبّوه. عاش تربالا، ومات تربالا؛ يداه وقدماه مغروستان في طين نوري، وروحه تجوس في سماوات السودان من أقصاه إلى أقصاه.
كان حميد بسيطا كالملح، وأساسيا كالملح، وعزيزا كالملح، وفي متناول الجميع كالملح، وطاعما كالملح. بموته فقدت الدنيا بعضا من طعمها ونكهتها ومعناها. بموته "انشرمت" نوري التي أحبّ، والسودان الذي أحبّه، والعالم الذي كان يصغي إلي شعره. بموته توقفت حركة الكون لبرهة واختل توازنه.
مأتمه كان مهرجان وفاء ومهرجان حب ومهرجان وحدة ومهرجان غضب حارق. جمع أشتات الناس الذين ما جمعهم من قبل إلا شعره العجيب الذي يخاطب الإنسانية فينا ويخاطب المحبة فينا ويخاطب الثورة المدفونة في أعماقنا.
ذهب وترك لنا إرثا خالدا: شعره. قصائده تظل كعروق الذهب في باطن الأرض؛ كالحمم في جوف البراكين الخامدة في الظاهر؛ كاللآلئ في قعر البحر وكالجمر يومض تحت الرماد.

رحم الله "حميد" بقدر ما أمتعنا بصحبته وبنقائه وبزهده وبتفرّده
وبشعره الذي هو من القلب إلى القلب.