إحياء- من قصص مجموعة (فوق سماء بندر)التي فازت في مسابقة الطيب صالح-زين

إحياء- من قصص مجموعة (فوق سماء بندر)التي فازت في مسابقة الطيب صالح-زين


03-19-2012, 08:40 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=380&msg=1332186004&rn=0


Post: #1
Title: إحياء- من قصص مجموعة (فوق سماء بندر)التي فازت في مسابقة الطيب صالح-زين
Author: Bushra Elfadil
Date: 03-19-2012, 08:40 PM

.

اشر هنا قصة (إحياء) وهي من (قصص مجموعة فوق سماء بندر، 16 قصة) التي اشتركت بها في مسابقة الطيب صالح للابداع الكتابي التي أقامتها شركة زين مؤخراً.فازت المجموعة بالجائزة الأولى؛ وقد لامني كثيرون هنا وفي منابر أخرى على استلام الجائزة وعلى الاشتراك من أساسه في مسابقات وفي مسابقة زين تحديداً. نشرت قصة أخرى بعنوان (جسمان كونيان فوق سماء بندر) بموقع سودان فور أوول. وسأنشر هنا قصة أخرى .
دمتم.



إحياء

ضمخ أنفه ذياك العطر الآسر ،وسط زحام تلك المدينة الساحلية ،كان النهار قائظا والزحام شديدا فالناس مقبلون على عيد .عطر كان قد نسيه من سنوات بعيدة ،أيام ريق الصبا.العطور ا########دة المبذول فيها الجهد والمال ،تقر في ذاكرة الشم مثلها مثل الروائح المضادة الجيدة إن أمكن وصف تلك بالجودة .وترتبط بالذكريات . وتكون لها عند الاستعمال ممرات في الهواء خلف وأمام من يتعطرون بها ولذا استسلم صاحبنا وهو يغذ في السير لتيار العبق في أعقاب مرّ صاحبه الذي مضى دون أن يدري كيف أنه أثار أشجان محمود ، مضى دون أن يعره التفاتا.ًأحد خلق الله في باب الله. لكن محمودا ارتبك فجأة وأوشك أن يجري خلف صاحب العطر ليسأله عن مسمى العطر ، فهو يجهل أسماء العطور والإكسسوارات وموديلات العربات وكل متعلقات الإنسان الحديثة فمحمود مريض بالتأمل في الكون والحياة والأحياء. كائن طبيعي وسط مجتمع يوشك أن يخرج من الطبيعة .لكن ذاكرة الروائح عند محمود حديدية.كل رائحة لها مكان وذكريات.وهذا العطر أثير لديه بصفة خاصة ولم يسبق له منذ عقود أن استنشقه.
-عطر مَن هذا مِن أحبابي يا ترى؟
صار محمود ينبس لنفسه:
--من يا ترى من ؟
هذا الذي لا زم وارده الجميل ذاكرتي منذ عقود بعيدة . الأجراس المنسية يسهل إحياءها في حافظاتنا عبر المخيلات لكن كيف يمكن إحياء كائن من خلال ما تركه في مخيلاتنا من عطر؟ تلاشى العطر لكن بقيت ذكراه في الخاطر وشيئا فشيئا ظهر في مخيلة محمود ساقا بنطال عصري وقميص ملون طويل الأكمام وأزرار كبيرة في كل كم وما لبث أن تجسم في مخيلته صاحب العطر القديم منذ الستينات في إحياء كامل .أصبح يقف أمامه معلمه القديم بقوامه الربعة المستقيم وجسمه الذي لا هو بالممتلئ ولا بالنحيل والرشيق مع ذلك.
-إنه إنه.. عبد اللطيف.. معلمنا في المدرسة الوسطى .نعم ..نعم . هو صاحب العطر دون شك.
وكاد محمود أن يقفز وسط الشارع لدى الربط بين المسك وحامله
-نعم نعم .إنه هو عبد اللطيف شريف ،أحد أروع وأبدع المعلمين ممن صادفتهم في فصول المدارس .يا الله!
ووقف محمود وسط الشارع حتى تضايق من وقفته بعض المارة وعندما تلفتوا متذمرين انزاح جانبا ،ًوأفسح لهم الطريق.وأوشك أن يقول
-ألم!
متلازمة معلمه عبد اللطيف ،التي يتفوه بها كأقسى عقوبة يعرفها لمن يضايق سير الدرس .أستاذ رقيق رقة متناهية وبه وسامة. كان يصفف شعره بطريقة لطيفة ويرتدي ملابس كانت في ذلك الزمان سابقة لعصره فبنطالاته غير مكفوفة .أحيانا عندما يخرج في فسحة الفطور من الحصة الثانية تسمع المدرسة كلها صوته وهو يغني بمرح
-هبت الخرطوم في جنح الدجى ى ى ى ى هبت الخرطوم!
أو يصدر صفيرا أو يتمتم لنفسه ويضاحكها. عالمه الداخلي الذي يفرح به يتجلى في مثل هذه اللمحات . ولا شك أن ذلك الأريج الفواح بغير ما ابتذال الصادح بغير جلبة هو الذي جمل صورة أستاذ محمود هذا حتى أوشك من خلال وصف محمود له أن يتغزل فيه كأنه امرأة. كانت السنوات سنوات ما بعد أكتوبر.هذا المعلم الفذ علمنا كيف نكتب في جريدة النبراس الحائطية التي يشرف عليها وفي كل أسبوع في حصة القراءة كان يقرأ لنا رواية عالمية بتصرف :دون كيشوت ، تاجر البندقية ، البؤساء.ويعرف فصلنا أخلاقه الرفيعة فهو لم يحدث له قط أن أساء لواحد منا.كان يعاملنا كأصدقائه.ويخفي خلف ابتسامته العذبة عالمه الداخلي .لكنه حين يغضب كان يصيح بصوته الجهوري الباص:
-ألم
الأستاذ عبد اللطيف له صوتان . صوت هامس مسموع أثناء سير الدرس وصوت جهوري غليظ ينطق به كلمات قليلة حين يستخدمه صوتا في مقام السوط. بعد سنوات طويلة في المرات القليلة التي كنا نلتقى فيها نحن أبناء الدفعة ونتذكر مدرستنا ما أن تجيء سيرة أستاذ عبد اللطيف حتى يصيح أغلبنا قبل دخولنا في الذكريات عنه:
-عبداللطيف شريف يا الله!
هذا الكون مترابط بشكل لا ندرك كنهه.فهذا العطر الذي باغت محمودا أثناء سيره النهاري في هذا اليوم ،ما الذي بث رذاذه وعبقه الأخاذ في طريقه ،كي يجعله يقوم بإحياء أستاذه في مخيلته علما بأنه كان قد مات قبل أيام؟ لا شك أن عابر السبيل المعطر بالعطر ذاك كان يرسل له رسالة أما العطر فكان هو المنحة لعقله كي يتذكر .وصل محمود إلى الشركة التي يعمل بها المهندس عمر الضو أحد أصدقائه منذ زمن الصبا في مدرسة الستينات الوسطى. وبعد السلام والسؤال عن الأحوال دلف لموضع العطر مباشرة
- تتذكر يا عمر أستاذنا عبد الطيف شريف؟
-با الله! )
ثم(ّ -البركة فيك وفينا وفي أهلو يا محمود.
-مات؟
-أمس القريبة دي أخبرني بموته أحد أبناء كسلا من معارفه .قال إنه توفي قبل أسبوعين.تذكرتك قلت أهاتفك لأبلغك بالخبر الفاجع. لكن انشغلت.
-يا لطيف!
- توفي بداء الكبد بالمستشفى هناك.
شم محمود العطر .شم الشذى الفوّاح من جديد .وأوشك من خبل اللحظة أن يمرره من مراكز الشم بدماغه لصديقه الذي لسعه بالخبر .وبينما هو يستمع إلى كلمات عمر الحزينة ،تداخلت على مسامعه الأصوات -ألم ..هبت الخرطوم داء الكبد ..ثم:
-يااا محموووود!
نداء أستاذ عبد اللطيف له حين كان يستحسن إجاباته. ونبس محمود لنفسه: -من أين قفزت هذه العبارة التي تدعم نرجسيتي؛ في هذا اللحظة المؤلمة الخرساء ؟
-محمود محمود يا محمود..
كان عمر يخطاب محمود ؛ لكن محمودا كما يكون النائم فيما يبدو ،عبر البحر الأحمر ومر خلال سلسلة الجبال الغامضة سريعا كما لو أنه حصان طائر) بيغاس (وسرعان ما حلق فوق جبال توتيل ينظر من عل إلى معالم المدينة التي عاش فيها هذا الذي كاد لآخر مدى أن يكون رسولا.وبينه وبين نفسه كان يقول آه ليتي لو كنت أعرف مكان سريره الأخير ، مكان قبره ،مكان بيت أهله.ليتي كنت أمارضه فأغسل عنه سهاد عينيه وأوجاع الأيام الأخيرة. ليتي ليتي.. ومضى محمود في ليتاته تلك حتى أيقظه عمر من أحلامه المؤلمة .لكن ذاك العطر القديم كان يغمر المكتب برائحته الجذابة ، الأخاذة.كان عطرا معتقا من ستينات القرن الماضي مليئا بزخم الذكريات التي أبدا لن يعود من صنعوها ولن ترجعهم الأيام مهما كانت ، ولن ترجع بهاءهم بلادنا حتى لوهبت مدنها في جنح الدجى.
_____________
جدة 1 يوليو 2011

عبد اللطيف شريف أستاذ الكاتب بمدرسة المدينة الوسطى بالجزيرة ، في الفترة من عام 1963 حتى 1967 م. ويرجع له الفضل في تعلق الكاتب بالأدب فقد كان يقرأ لطلاب السنة الثانية من الروايات العالمية مرة في الأسبوع،كان يختارها من عيون الكتب .وطلب من تلميذه وقتها الكاتب منذ الفصل الأول الاشتراك في صحيفة حائطية كان اسمها النبراس ، كان يرأس تحريرها الشاعر محجوب شريف .كما شجع عبد اللطيف الكاتب في الجمعية الأدبية واختاره لرئاستها في الفصل الرابع .يشهد كل أبناء مدرسة المدينة في تلك الفترة بتأثير عبد اللطيف شريف الإيجابي عليهم.توفي عبد اللطيف شريف فجأة عام 1980 م .وهو من أبناء كسلا.

Post: #2
Title: Re: إحياء- من قصص مجموعة (فوق سماء بندر)التي فازت في مسابقة الطيب صالح
Author: Bushra Elfadil
Date: 03-20-2012, 08:02 AM
Parent: #1

الكلمة التي تم حظرها وتظليلهاأو طمسها الكترونياً بطريقة آلية في مطلع هذه القصة هي :

ا ل و ط ي د ة

_______________
وقد قصدت بها صفة غير معتاد ربطها بالعطور.
ها.. ها.. ها.. حتى التصويب يرمي بنا من حيث لا نحتسب ولا نرغب في حظيرة البذاءات!

Post: #3
Title: Re: إحياء- من قصص مجموعة (فوق سماء بندر)التي فازت في مسابقة الطيب صالح
Author: Bushra Elfadil
Date: 03-20-2012, 08:10 AM
Parent: #1

الكلمة التي تم حظرها وتظليلهاأو طمسها الكترونياً بطريقة آلية في مطلع هذه القصة هي :

ا ل و ط ي د ة

_______________
وقد قصدت بها صفة غير معتاد ربطها بالعطور.
ها.. ها.. ها.. حتى التصويب يرمي بنا من حيث لا نحتسب ولا نرغب في حظيرة البذاءات!

Post: #4
Title: Re: إحياء- من قصص مجموعة (فوق سماء بندر)التي فازت في مسابقة الطيب صالح
Author: Mohamed Abdelgaleel
Date: 03-20-2012, 09:14 AM
Parent: #3

الدكتور بشرى الفاضل - تحياتي لك،
رحم الله الأستاذ/ عبد اللطيف شريف .. جّود الأداء فبقيت ذكراه عبقة.

أوردت في المقدمة جائزة الطيب صالح وما أثارت من انتقادات لزين ولبشرى
الفاضل .. كثيرون يقولون أن السودان (الآن) تحت سيطرة أهل الإنقاذ ولا
يسمحون أن تقام فيه فعالية دون أن يكون حاصل جمعها مصلحتهم ودعم موقفهم
ورؤية أخرى أن يتم التعبير عن الرأي الآخر عبر أي منبر يتاح (بلا شروط) وفي
الفضاء متسع، وآخر يقول لو كان من قبل الجائزة غير بشرى تحديداً لعذرنا فهو
رمز ثقافي معارض كبير .. أكثر ما أحزنني أن الفعالية (جائزة الطيب صالح)
أحدثت جذوة كانت تستحق أن تستعر بتناول تفاصيل ما ورد فيها من كثير من
المشاركين ولكنها ذهبت مع ريح التجاذب بين الجائز والمكروه .. وجُعل مركــــز
الصراع اللوم البجي بالغفلات، رغم أن شملة الوطن أصبحت مقددة من جهاتها
الأربع ولا هواء يعبيء المزمار لـ: هبت الخرطوم في جنح الدجى.

Post: #5
Title: Re: إحياء- من قصص مجموعة (فوق سماء بندر)التي فازت في مسابقة الطيب صالح
Author: Bushra Elfadil
Date: 03-20-2012, 10:36 AM
Parent: #4

عزيزي محمد
لك التحية
يقيناً ستهب الخرطوم في الصبح والعشية ،
وفي جنح الدجى ضد جنح دجى الوطن طال الزمن أم قصر.
هذا أكيد.