حبا وكرامة يا صديقة الزمن الجميل، ولكن مهلا...
دعيني ادعوك اولا على ثلاث ولائم، وعدة رشفات من سنا الحرف المذاب هنا ...
لَكم هو طاعمٌ نصفُ الصهيل على ضفاف الوطن !!! وهنا ..
ليمون كوستي القديموهنا.
وبعد ضحكة قصيرة واصل جبريلوالآن إليك القصة ..
هف.. هف.. هف..
كان النَّفَسُ يتكسر.. يختلط باللُّعاب والعَرق ويتناثر مزقاً صغيرة.. كلما ارتطمت
ساقاه الطويلان بصدره.. أخذ يمد اتساع ما بينهما متردداً.. بقدر ما يحتمل جسده الغض
النحيل.. فتتسع المسافة بين شهيقه المبتور و.. أصواتهم الغاضبة.. والزقاق يستطيل
ويستطيل ممتداً.. لا ينتهي.. هو يخشى نهايتة على أي حال.. كما يخشى عصيِّهم وغضب
الحديد الذي في قبضاتهم..
هف.. هف.. هف..
عندما كان يعد زينته المسائية جاءه صوت حاجة آمنه محذراً من الخروج في هذه الأيام
ضحك قائلاً: يا هاجّا إنتي ثُوول هَوّااف ثَاااي..
كانت الحروف تخرج مُصَفِّرةً ومُدغمة بين شفتيه الغليظين وسِنَّيه الأماميين المنتزعين عِنوة..
قالت بصوتها الهادي: بي خاترك يا ولدي.. صمتت قليلاً.. ثم قالت في طيبة: خللي
بالك وأمش مع أخوانك.. الناس سِّمَها فَاير اليومين ديل..
هف.. هف.. هف..
تلقفه الطريق الخالي والشمس نصف إنكسار للمغيب.. فطمأن نفسه بتحيّة عجلي
ألقاها على المتحلقين بباحة الحي.. يرقبون الكُرة تنتقل بين أرجل اللاعبين.. وقف
قليلاً.. ثم مضى.. إلتقى ميري وبيتر عند زاوية الكنيسة.. كانا يسترجعان درس
المساء عندما سقطت ميري متهاوية عند قدميه.. قفز بيتر منتفضاً.. وأسلم ساقيه
للريح.. إنحني هو في ضوء المصباح البعيد متحسساً فيها الأنين.. رقدت ميري مكومة
على ظهرها ويدها اليمنى تحت إليتها و.. الحجر الآثم غير بعيد.. السائل السخين
ينبثق ملوناً ثوبها الأبيض الرصين..
هف.. هف.. هف..
الأصوات تعلو.. بلغ التعب مداه والزقاق اللعين لا ينتهي.. تراخت رُكبتاه.. وقف في
منتصف المسافة بين احتقان العَداوة وسلام المسيح.. اخذ يلملم شعث ما تناثر من أنفاسه
اللاهثة.. الأصوات تقترب و.. لكن لا يهم.. رحل بذاكرته بعيداً.. ولم يعد يسمع فحيح
الريح في حناجرهم المغبونة..
هف.. هف.. هف..
قبل سنين خمس.. أكمل دراسته الأولية بإرسالية سنت جون.. القريبة من القرية..
وركض فَرِحاً عبر كثافة الأشجار.. ليبشر أمه.. وتساقطت الأحزان مع أمطار يونيو..
فأحرقت ما تبقى من قرى.. وما وسعت أحلامه النديّة.. واصل الركض شمالاً حتى
حواف الماء في أمدرمان.. حينها علم.. أن هناك حياة غير الحياة.. وأن قتامة اللّون
تحدد طبيعة الإنتماء.. كان الغضب يعلو على صوت البكاء.. والنهنهة الخفيضة
وطعم الملح في شفتيه..
هف.. هف.. هف..
ـ العَّبْ رَاصُو..
هدر الصوت منتهكاً.. وعندما راغ بجسده عن العصا المنقضّة.. قرقعت في أذنية
أصوات الحديد.. وأبيضَّت السماء بسلام أليف..
..
.
مع تمنياتي القلبية بليال شاسعة الحلم