قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيات 4

قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيات 4


04-14-2011, 02:21 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=330&msg=1302790863&rn=0


Post: #1
Title: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيات 4
Author: محمد بدوي مصطفى
Date: 04-14-2011, 02:21 PM

باريسيّات 4
بقلم د. محمد بدوي مصطفى

?هل تتذكرون ما حدثتكم عنه في الحلقة السابقة من باريسيات ٣
سردت لكم، أطال الله في عمركم، كيف تتابعت الأحلام في تلك الليلة الباريسية الرطبة وكأنها شريط سينمائي نقلني بعجلة الزمن إلى دنيا الماضي بحركة ريتروسبكتيفية بطِيئة. حدثتكم عن الرحلات الخيالية إلى فرنسا، تلك التي عشتها في مدرسة المؤتمر الثانوية مستمعا لأستاذي عزالدين. وعلَّمتكم أيضا بعلوم أصدقاء الدرب الليوني العسير ممن لا أعرف أين رمت بهم أيادي القدر الآن. منهم نفر نعتز بنجاحاتهم وتفوّقهم: مثال السفير السوداني بجدة د. طارق على بخيت، الذي علق على باريسياتي قائلا:
"الاخ د محمد بدوى،
تحياتي وشكرا على إرسال المقال الرائع وحقيقة هذه خطوة هامة لتوثيق تجربتك فى فرنسا .. وياليتنا جميعا وجدنا الفرصة للتوثيق لأسرنا وللأجيال المقبلة. موقع صحيفة الأحداث على الإنترنت غير موجود لذلك نأمل فى إرسالها لنا بانتظام .. .. لازلتُ أذكر اليوم الذى ذهبنا فيه معا لنشرب الشاي مع تلك الفتاة الانجليزية الرقيقة (آن)، التى كانت تدرس معكم اللغة الفرنسية ... نسيت اسمها ..وعندما جلسنا وجدنا خمس تفاحات على المائدة وأخذ كل واحد منا تفاحة .. وقلت لكم الشابة دي عازماكم شاي مش تفاح .. أذكر أنك علّقت بأننا فعلا إستهلكنا تفاح الأسبوع بمعدل تفاحة لكل يوم وأنك لاحظت أن البنت محبطة جدا لهذا الموضوع وأن وجهها محمر لهذا السبب..
- أين هم فى الزحام الآن ؟
-أقصد أمير ومحمد سر الختم وطارق أبو الدجل .. والبقية الكرام ..
كنت فى مهمة رسمية فى جنيف فى مايو الماضي وانتهزت السانحة وذهبت لليون بالسيارة ومكثت حوالي خمس ساعات فى المدنية .. وكانت تلك أول زيارة لي منذ عام 1985 (بعد 23 سنة) .. وقفت على الأطلال فى كلود بيرنارد .. والمدينة الجامعية فى أندريه اليكس .. سبحان الله هذا حديث يطول .. اتمنى لك التوفيق ويمكن أن ترسل أيضا للأخ عثمان السيد ويعمل حاليا مترجما فى وزارة الخارجية القطرية على الأيميل.
السفير د. طارق على بخيت
الإدارة السياسية - منظمة المؤتمر الإسلامى- جدة"

فاسمحوا لي أن أعود بكم الآن إلى فندق مونبرناس في لبّ مدينة الجنِّ والملائكة، باريس، مرّة ثانية!
إرتفع الضحى من الغَدِ فاذا ضَوءُهُ المتدفّق يَغمر حجرتي الباريسية وأنا مازلت في نومٍ عميق لم يوقظني منه إلا صوتٌ غريبٌ يتزايد مرتفعاً على تروتوارات المشاة في الشوارع الباريسية. لم ينطفأ ضوء المصابيح الخارجية طيلة الليل. وبين الحين والحين يترامى إلى مسمعي صوت آخر أخفّ وطأةً، لابد أنَّه سعي نزلاء الفندق على ممراته الضيقة أو نزولهم على درجه الخشبي الملتوي. من العجيب في الأمر أنني لم أسمع في ذلكم الصبح الملحوس صوت ديك ولا كتكتة دواجن في ذلك الموقع الموحش ، شئ عجيب، مش كده؟ يا حليلك يا ديك عمِّي سعد! كان صوتو يراري في كل أرجاء الملازمين؛ من الإذاعه لغاية ميدان البحيرة. عندما تذكرت ديك عم سعد تبادرت إلىّ أفكار وهلوسات شيطانية غريبة أخرى:
- هل يصيح الديك بالفرنسي قائلا "بنجور" وتكتكت الدواجن بالآرقو (العاميّة الفرنسيّة) قائلة "مرسي، مرسي"؟!
- ده "بلدا دجاجه عجم"، كما يقول أهلنا الكرام؟
- كلامو كلام الطير الفرنسي في الباقير؟
- يا جماعة، أنا في حلم والله علم؟
- نحن ديوكنا بنعرف كلامها وددجاجنا بنفهم رطانتو!
- لكن هنا، همممم!
"حليلك يا الملازمين بكثرة فنونك وحركة جنونك وسحلبة مفتونك وبقطعة نورك وغبرة لونك وقلة صابونك وشربكة شبكة تلفونك..."


عندما كنت بالملازمين كانت أختي لبنى، القريبة إلى نفسي، تومئ إليَّ سائلة عن حالي قبل أن أنضجع في فراشي الليلي. وكنت حينئذٍ أترصد مجِيئَها إلى لحافي ومرقدي وهي متفحصة عن تمامه وكماله. لكن للأسف هنا جنٌّ وملائكة ولكن لاوجود لإختى الحبيبة. فأنا وحيد في وحشتي وغربتي التي أصبحت واقع لامفر منه يذكرني به طلوع شمس مونبرناس الرقيقة. شمسه تداعب أشعتها التبرية وجوة المشاة، من "أبناء الريف"، باعثة بحرارتها الحياة وباثة في روحها من أنفاس الشانزليزيه المتوقِّدة نشاطا وحركة.

استيقظت من نومي مبكرا محتفلا بأصوات غريبة لم أعتدها من قبل. أسمع أصوات كعوب الأحذية تضرب على وجه الأرصفة الأسفلتيّة "ضرب غرائب الإبل". صوت يشابه كركبة نجار يعالج الخشب بحرقة، متقلِّدا شاكوشه الأخرص. هذا ذاك ممتزج بأصوات إنس راجلة وأقدام جن رافلة قد أتت من كل فجّ عميق قاصدة مطعم الفندق، الذي يُتناول به البتي ديجونيه (الفطور).



نهضت من السرير ودخلت الحمام. استحممت، بعد لائٍ، "كاسراً" الماء البارد بالساخن متذوقا حلاوة الدفئ الدُشِّيّ؛ بعد أن حللت المعضلات "التكنوحنفية" بالحمام الباريسي الخطير. رأيت العجب العجاب في ذلك الصباح! وزي ما بقولوا في المثل الشعبي: الماشوفتو في بيت أبوك، يخلعك؛ وكانت خلعة من "النوع أبو كديس": موية باردة وموية سخنة تتدفق أفواجها بلا انقطاع بقدرة قادر. بعد أن فُكَّت مشكلة الماء وكسره وخروجه من رأس الدشّ، الخ، صُلتُ وجُلتُ في صحن الحمام باحثا عن "بروة" (صابونة) فنيك أتطهّر بها من غبرتي الأمدرمانية وأبرط بها"شعري القرقد، البدهان ما برقد"؛ لم أعثر على صابون الفنيك المنشودة، لكن وقع في يديّ صابون سائل يُشابه في شفافيته ولمعته الذهبية زيت الفرامل في طرمبة بيت المال؛ کان لونه التبريّ جذابا تنفتح له النفس من أول وهلة. وفي خلال حملتي الإستكشافية بالحمَّام، عثرت في بعض الأركان الأخرى منه على أدوات توليت أخرى، رأت بجلالتها لأول مرة زول زي حلاتي، من قلب أمدرمان. بكل صراحة من الأشياء التي أستثارتني و شحذت فضولي هي قوة الماء الباريسي المندفع من الحنفيّة والدشّ وعدم انقطاعه. قلت في نفسي، يا حليلكم يا ناس بيتنا! في بيتنا في الملازمين مازالت ترن جملة أساسية في ذهني، قديما جملة "أقفلوا الماسورة" وحديثا "أفتحوا الموتور"، تسمع هذه الجملة في اليوم الواحد مررا. ولو الواحد ليس له حظ من الماء الذلول الغسول في حمامات أمدرمان، لخرج بسبب إنقطاع التيار المائي أثناء الإستحمام متجهجها وجسمه يتصبب رغوة صابونية ناصعة البياض، ليقفل الماسورة أو ليفتح المحرك بنفسه أو مناديا (يا وار، أفتح الموتور!). يا حليلك يا
امدرمان وحليل أيامك!

جلست أمام نافذة حجرتي في فندق مونبرناس بغية سماع أصوات بشرية حيّة تتكلم وتجادل كما هي الحال في حلتي الملازمين. وددت التقاط بعض الكلمات لتحريك اللغة فجراً، ولكن كان اللاكلام يخيم على شوارع باريس الرائعة!!!
- يا كافي البلا، الناس ديل خشومهم مخيطة والله شنو؟
- ما في زول واحد ساكت كده بتكلم والله ينادي ليه زول؟
- ما في عوووك ويا شاب ويا جنه ويا حجة ويا خالة ويا وزوز ويا هناي؟
- شئ عجيب!
لم أكن أعرف أن "ابتلاع الألسنة" عادة من العادات التي يمارسها الناس في باريس بمهارة!
- مابتسمع في الشارع كلمة "بِغِم"؛ إلا "طَق، طَق، طَق" الصباح كله!

هدوء لاكلامي تام تقطعه أصوات الكعوب بوقعها المطرقي الحاد وإيقاعاتها "المليجيّة" المتميزة.
نزلت للإستقبال وسألت عن صالة البتي ديجونيه لأفطر. كان الموظف رجل عربي الملامح، ربما من شمال إفريقيا، أسنانه كلها مكسرة، بعيد عنكم! همهم وجمجم بلهجة لم أفهما وأشّر على اتجاه المطعم ماداً يده في إتجاه المصعد الخشبي العتيق. كانت رائحة الكوراسان (الفطائر الهلالية) وقهوة الإكسبرسو يفوحان في بهو قاعة الإستقبال؛ روائح جديدة على أنفي الأمدرمانيّ لم أعهدها من قبل. سألت نفسي في دربكتها بهدوء، أسئلة ربما تبدو "عويرة" ، لكنها مستحقة:
- يعني الناس ما بتاكل لا فول ولا بوش هنا؟
- زيت سمسم، موية فول، دغوة، موية جبنة، بصل وقرون شطة؟
- كدي، أدخل يا ولد واستفتح بالله واستكشف المواقع المونبرناسية!

دخلت القاعة وكانت تعج بالناس. كلّ الطرابيز محجوزة وكلٌّ منهمك في نهم فطائره وأيُّما انهماك... أوجس المشهد في نفسي خيفة وما أن وطأت قدماي بهو المطعم حتى بدأ جسمي يعتليه شعور عرفته لحظة وصولي مطار شارل ديغول (شرَّ دخول)؛ وكأنما جيوش نمل سليمان قد إمتطته في هرع وذعر.
- يا ولد اركز. ما تقوم في لبكتك دي تعمل ليك عملة قبيحة بعدين يقولوا الزول ده جابوه من وين!
كنت حذرا في التفحص والتدبر قبل أن أشرع في أي خطوة. ترآت لي طاولة صغيره فارغة في آخر ركن من المطعم. وددت أن أسرع نحوها لكي لا يلاحظ الحضور بحركتي المريبة! لاحظ الجرسون تلبكي وتسكعي وتكبكبي. فجاء بخفة باريسية تبحث عن نظير. بلغني قبل يرتد إلىّ طرفي سائلا:
- موسيو، قهوة والله شاي؟
- يا حوله ولا قوة، اه أبوراس ده يتفاهمو معاهو كيف يا جماعة؟
- الجهجه دي ذكرتني نكتة "اقين ابكرعين"، المعروفة عندنا التي تحكي حكاية سوداني أراد أن يطلب أكلا في مطعم إنجليزي بيد أنه لا يملك نواصيَ لغة أهل البلد.
أجبته برعشة قائلا:
- شاي بلبن ("مقنن" - قلتها في نفسي).
طبعا "مقنن" دي لا وجود لها في قواميس ومعجميات لغة فكتور هيجو.
اه بجاي وبجاي، فطرت في الفندق وكان البوفيه، عدا الكرواسانات والبان أو شوكولاه والموسلي (نوع من الردَّة تؤكل عند الأفطار لأنها تطهر "العادم" والكمونية، كما يزعم أهل الغرب). على كل كان الرستوران يكتظ بكل ما لذّ وطاب من شتى ألوان المأكولات، المعجنات، الفطائر، المربات وأشياء أخرى كثيرة، لم يستوعبها داموغي الأمدرماني البسيط أذداك. قلت في نفسي بعد أن رأيت تلك الرؤى وشفت تلك الشوفات:
- وداعا مملكة البوش العملاقة.

وطرأ على ذهني ذكريات تلكم الأيام الخوالي التي ابتلعنا فيها كيلوهات البوش بسوق الموردة كالأسبرين. ما ألذ القعدة تحت شجرة النيم التي تظل دكان عمكم نور الدائم. دكانه كان في حي الموردة قرب خور أبو عنجة. ما ألذّ حكايات وأحلام أمير سربون عن الفكي إكسبرس، إمام جامع المورده سلفا، وعن باريس وعن "الجكس" فيها؛ خيالات أطيفال يحلمون بالحرية وبارتياد مجاهيل شتى في كل ركن نائي من أركان الدنيا.

سوف أحدثكم في الحلقة القادمة عن وصولي للمدينة الجامعية أندريه ألكس بمدينة ليون وعن مقابلة أصدقائي من طلبة جامعة الخرطوم بها، منهم من أحتضنني وكنت له رفيق، كسعادة السفير... لنا لقاء! وفي الختام بعض الأبيات:

إحترت في باريس مرَّة ٭ وكانت أيّ حيرة
وكان غضاً صباي ٭ وكنت في بلادي زهرة
وكان قلبي ديارا ٭ أنت يا بلادي فجره
وكان صدرك دفأً ٭ أستكين فيه سرّا
وكان طيبك يوحي ٭ إلى يراعي ذكرى
ولحن بُرَعِيهِ يهدي ٭ إلى الفلاح كُثرا
وحبّ أهلك يملى ٭ إلى لساني سحره
وصوت إخواني نور ٭ في هداه شكرا
أنتِ يا أمدرمان تحفة ٭ هاك قلبي فيه زفرة
وأنت للقلبِ روحاً ٭ وأنت للعين قرّة
كانت حياتيَ رونقاً ٭ وكنت أمير المسرّة
عهدي فيك زمان ٭ سرى وأوجس حسرة
فبت في باريس أبكي ٭ وحديثي فيها عبرة
ناشدُ الأوطان فيها ٭ ناظم الأحلام دُرّا

Post: #2
Title: Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيات 4
Author: محمد بدوي مصطفى
Date: 04-14-2011, 09:12 PM
Parent: #1

د. محمد بدوي مصطفى

Nihal European University in Sudan (NEUS)
Rektor: Dr. Mohamed Badawi
Bodanrückweg 6
D - 78467 Konstanz - Germany

Tel.: +49-7531-8138195
Fax: +49-7531-8138196
E-Mail: [email protected]

Webseiten:
http://www.nihal.org
http://www.badawi.de
http://www.badawi.eu
http://www.hg11.com/sudan/
http://www.sawt-alarab.com/
http://www.streetkids-sudan.org
http://www.mohamed-badawi.de
http://www.myspace.com/mohamedbadawi/
http://www.diwan-music.com
http://www.elnour.de
http://www.fotoristen.net/
http://en.wikipedia.org/wiki/Mohamed_Badawi (English)
http://de.wikipedia.org/wiki/Mohamed_Badawi (German)

Post: #3
Title: Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيات 4
Author: محمد بدوي مصطفى
Date: 04-18-2011, 05:57 AM
Parent: #2

الحلقة ٥ في الأسبوع القادم، لكن الشكر

محمد بدوي