الدين وموقعه في معادلة الوحدة والانفصال

منذ أن قامت الدولة السودانية الحديثة وكل ما يجمع بين قبائل الجنوب وقبائل الشمال هو هذا الوطن بحدوده المعروفة
قبائل السودان الاخرى على اختلاف لغاتها وأعراقها كان الدين هو الرابط الأقوى بينها
وقد تجلى ذلك بوضوح في الثورة المهدية التي تجاوزت حدود القبيلة لتستنهض قبائل المنطقة في وجه الاستعمار تحت راية الدين.
وما كان للمهدي أن يحقق ما حقق لولا الصبغة الدينية لثورته
حيث استطاع أن يقود الثوار في الغرب والوسط وهو القادم من الشمال
وما أن تحولت الثورة المهدية إلى دولة بعد رحيل قائدها حتى ظهرت النعرات القبلية وبرزت التصنيفات الجهوية والعرقية ...
وقبل أن تستفحل المشكلة التي أوجدها (الإسلام السياسي) جاء المستعمر البريطاني وأحكم قبضته على الجميع
وقام بعذل الجنوب عن الشمال بقانون المناطق المقفولة..
فاتسعت الشقة بين قبائل الجنوب وبقية القبائل في شمال السودان

في مرحلة الحكم الثنائي كانت الحركة المهدية قد عادت إلى الساحة بعباءتها الصوفية لتعمل جنبا إلى جنب مع بقية الطرق الصوفية التي كان أبرزها الطريقة الختمية
و لقد كان لهذا الطرق دورا كبيرا في تذويب حواجز الجغرافية والعرق بين مختلف قبائل السودان الشمالي من دارفور إلى البحر الأحمر ومن حلفا إلى أقاصي جنوب شمال السودان
.

وفي الجنوب
كان التبشير المسيحي يمضي مدعوما الدول الاستعمارية في أوربا
وربما كان نجاحه في وقف الدعوة الإسلامية في الجنوب أكبر من نجاحه في نشر المسيحية
وأهم ما في الأمر أن الترتيبات الإدارية في الجنوب أبقت الحواجز بين قبائل الجنوب وقبائل الشمال عالية
وفي تلك الأثناء كانت الحركة الوطنية في الشمال تتشكل وتنمو في مواجهة الاستعمار لتكون عاملا إضافيا ساعد في صهر قبائل الشمال السوداني

تميزت الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار بأنها كانت ذات طابع وطني
المجتمع السوداني في ذلك الوقت كان ملتزما بالدين ومتمسكا بقيمه لكنه خاض النضال في مواجهة المستعمر تحت راية سياسية وطنية
حتى الطرق الصوفية التي كانت في خضم المعركة ضد الاستعمار كانت تمارس النضال من خلال واجهاتها السياسية

وعندما خرج المستعمر
خرج عن وطن لا يربط بين جنوبه وشماله إلا السلطة السياسية والقوة العسكرية
ولذلك وقع التمرد الجنوبي الأول قبل أن يجلو المحتل عن أرض السودان
ثم تلا ذلك محاولات التوحيد القسري
و أتساءل لماذا خرج المحتل تاركا السودان إقليما سياسيا موحدا؟
أما كان الأولى أن يؤسس لدولة مسيحية في الجنوب ؟
هل كان المحتل مدركا أن الوحدة الظاهرية التي تبقي نار الخلاف بين الشمال والجنوب متقدة أكثر خدمة لأغراضه ؟
وهل كان على علم بأن التباين الديني سيبقى مستعصيا على محاولات الأسلمة المتوقعة من الشمال في ظل سودان موحد؟

بعد الاستقلال وزوال قانون المناطق المقفولة
ماذا فعل أهل السودان الشمالي من أجل تمتين أواصر الوحدة بين شقي الوطن الواحد؟
ماذا فعلوا؟
دينيا ـ ثقافيا ـ اجتماعيا ـ اقتصاديا ـ سياسيا ....
هل سعوا من أجل إصلاح ما أفسده المحتل؟
لماذا ظل إنسان الجنوب مواطنا من الدرجة الثانية حتى في جوبا؟
لماذا توقفت عجلة التنمية في الجنوب؟
لماذا كان الحل العسكري دائما هو الأسرع؟
ماذا فعلت الطرق الصوفية في الجنوب وهي التي كانت قاسما مشتركا بين مختلف أجزاء السودان الشمالي؟
لماذا تجاهلت الأحزاب الوطنية إنسان الجنوب؟

الحركة الإسلامية
التي دخلت منذ اندلاع ثورة أكتوبر كلاعب أساسي في السياسة السودانية
والتي تبنت مشروعا تغييريا استهدف الثقافة والسياسة والاقتصاد والأخلاق في الشمال
هل كانت تمتلك رؤية دينية لصهر انسان الجنوب في بوتقة الوطن على أسس عقائدية وروحية؟
أم أنها أرادت إخضاعه والإتيان به (صاغرا) إلى دولة المشروع الحضاري؟
ألم يكن إضفاء الطابع الديني على الصراع عاملا منفرا من الدين ومن العيش في ظل وطن واحد؟

لقد أضر الإسلام السياسي والسلفي في السودان بوحدته
كما أضر بقيم وأخلاق أهله

المسلمون في الشمال لم يقدموا لإنسان الجنوب الوجه المشرق للدين
ربما كان للتجار العاديين الذين عملوا في الجنوب دورا أكبر من تلك الجهات التي ادعت أنها تمارس الدعوة الإسلامية في الجنوب
واليوم نجد أن مسلمي الجنوب على نفس القدر من الحماس للانفصال وإقامة دولة جنوبية يتعايش فيها الناس بمختلف أديانهم
لا شك أنهم يفضلون العيش بكرامة في ظل دولة علمانية يرأسها مسيحي على العيش كمواطنين درجة ثانية في دولة دينية.

حاربت الانقاذ براية دينية من أجل الحفاظ على السودان موحدا في قبضتها
بينما حارب أبناء الجنوب من أجل التحرر والانعتاق
فحقق أبناء الجنوب ما أرادوا
فماذا حققت دولة المشروع الحضاري؟؟؟

Quote: ذكر لي أن أسمه مبارك دوت الجاك ترك وهومن ولاية الوحدة من بانتيو وهو من قبيلة النوير ...... والدي تُوفي ولم أراه أسلم متأثرا بصديق عمره عبد الرحمن الضو جنازة والدي كانت مهيبة وشارك فيها غالبية أهل الرنك حمله الناس لمسافة بعيدة جداً ...هكذا أخبرني أعمامي وعبد الرحمن من بعد توفي والدي وهو في طريقه للجامع .. كان عبد الرحمن موظفاً بالإرشاد الزراعي يقع منزله بين المدرسة والمنزل وكان كثيرا مايحدثني عن والدي وعن كيف كانت علاقته به كانت الدموع تطفر من عينيه احياناً وهو يتذكر احببته جداً ...وكان عندما يذهب للجامع انتظر عودته ليكمل لي بعض القصص عن والدي الذي لم أراه في التاسعة من عمري أسلمت على يديه سألته عن رد فعل والدته ذكر لي أنه سألته إن كان قد إتبع دين والده فلما أجابها بالإيجاب لم تغضب وإنما شرعت فورا في تجهيز أوضاع الصلاة في كل يوم يزورها أو يقيم معها قادما من مكان عمله ................. ياعمر ما أمي بس أنا أهلي كلهم مسيحيين مافي مشكلة المشكلة بس في راس الناس الكعبين

المصدر:
Re: جُوبا ... كُنتُ قريباً جِداً مِنها ... وغريباً حقاً...ا ( صُور ومُشاهدات )

عزيزي ابو مهدي

وهل تصلح الدولة الدينية لشمال السودان ؟؟؟