عندما يضيق الوطن .. ينتشر الحامض

صديقي محسن شاب أمدرماني عرف طريقه للعمل عندما كان في العاشرة
من عمره ، وبتنامي تجربته العملية أصبح كافراً بالتنظير ثم طور فلسفة جعل
شعارها (وحده العمل هو اليقين) كان محسن هو أول من جالسته بعد
عودتي من السودان يوم الجمعة 4 ديسمبر 2010م وذلك بعد قضاء
إجازة (29 يوماً) 5نوفمبر – 4 ديسمبر 2010م كان واسطة عقدها عيد
الأضحى المبارك .. طلب مني محسن أن أعرفه بأخبار البلد، لم يدري أن ليس
عندي و (أن حدائقنا صوحت) بعد أن دهمها (الجراد اللاحم) قلت له:
إن كان من شيء يقال عن أخبار البلد، فقد لاحظت أن غالب من حضروا لزيارتي
أثناء الإجازة كانوا يجلسون صامتين إلا أن تسألهم فيجيبوا بإغتضاب .. فضحك محسن
وقال :

أدوهم (حامك السكيتيك) والله شنو؟!

لاحظت أثناء الإجازة أن بنياتي التومات لنا ولينا (3 سنوات ونصف) لم تصابا بما
أصيب به الناس بفعل حامض السكيتيك وأنهما مازالتا تبدعان الحكي المعافى، أما
إبني الصادق 6 سنوات (أولى إبتدائي) وابنتي ملاذ 7 سنوات (ثانية إبتدائي)
عندما كنت أسأل أي منهما:

بتحبني أنا والله العربية؟
فقد اشتركا في الإجابة بكلمة

(الأثنين)

ظللت طوال الإجازة أصطحب التومات للروضة (القريبة من بيتنا) صباحاً
وكذلك عند عودتهن منها ظهراً، وكانتا تستمتعان بأن تحكيا لي تفاصيل
ما سمعتا وشهدتا بالروضة، فهما لا تعرفان بعد شيئاً عن الاستفتاء ومآلاته،
ولا تدريان شيئاً عن وطنهن ومساحته المليون ميل مربع تسكنه
شعوب وقبائل، كل همهن أن يستيقظن على تساوي بينهن في اللبس
والمعاملة وشوية حرية لممارسة هواياتهن في اللعب والمشاكسة
ونواصل كان الله هون

لو كنا في المهاجر ننوم ونصحو على الإستفتاء ومآلاته
الكالحة .. وعلى الأسئلة: كيف أصبح الوطن قاب أيام من
الإنفصال؟ من المسؤول عما جرى؟

فقد لاحظت خلال إجازتي أن جيوش الخريجين والخريجات ممن
ليس لديهم قريب أو صديق (مسؤول داعم - واسطة) قد سددت
في وجوههم أبواب الوظائف العامة في (الوطن الحبيب) هم
أكبر الأزمات الماثلة.

ما الوطن؟!

مساحة الحامض تنبسط يا أخ محمد

حكي لي جدنا (المشترك) إبراهيم, متعه الله بالصحة والعافية الكثير طبعاً, ومن بين ما حكى لي:

أنهم كانوا (كـ ...سـروراب أصلاء) يعتبرون أكل البيض من المكروهـات... وقال أحدهـم: (جات علينا سنـة أكلتنا المـح)

وذلك من صعوبة تلك السنة وجفافهـا,

فما بال السنوات التي أطعمتنا الحوامـض ... ؟


أحمد الشايقي

والحموضة (خشم بيوت) يا أخي أحمد .. فتحت جسر
حامض السكيتيك مرت كل الهزائم والجبايات
التركية الصنع كما مر الغلاء الذي يورث الفقراء
الذلة والمسكنة ثم الخروج من الشبكة التي ما
عادت تطاق

كنت أتردد أحيانا على الزراعة وأجد عمي حامد لازال
تحت سدرته الوريفة وأحد العمال الزراعيين يكسر
العيدان ليوقد بها نار الشاي وقد تناثرت تحت السدرة
عدد من البسلات المملؤة بالكسرة اليابسة وعلى وجهها
بعض ملح وشمار تنتظر حتفها على أيدٍ لن تمسها النار
وحيضان جرجير معبأ بالكلوروفيل تركت خضراء حسرة
للناظرين، بعد أن لفظها السوق ولم تعد توفر حتى أجرة
ترحيلها .. وعمي حامد كعادته مطمئنا وسعيدا بعدأن
حقق هذا العام عمرة زار فيها مكة والمدينة بكل
مزاراتها وعاد ليحدث رفاقه عن جمال ما رأى.

في أحد الأيام جاء والدي وأخي عوض، وقد شكى والدي
من ألم في جميع أجزاء جسمه فقلت له يكون عندك تمزق
عضلي لانك بتمشي أكثر من اللازم .. فقال لي: الدكتور
قال المشي كويس وقال لازم أمشي كيلو كل يوم
فقلت له: لكين إنتا بتمشي تمانية كيلو كل يوم!
وجسمك لم يعد يحتمل هذا المشى .. وبينما نحن نستعد
للتوجه للمركز الصحي لمقابلة الطبيب .. طرق الباب
الاخ القاسم ابراهيم محمد الطيب وهو مفتش زراعي
معاشي ورجل تقي نقي عفيف اليد والقلب واللسان وبعد
أن سلم علينا أوضحت له أن الوالد يعاني من تمزق
عضلي .. فقال لوالدي:

والله يا عم عبدالجليل أنا جيت قاصدك تعزم لي لآني
بعتقد أنك زول مبروك لكين طالما لقيتك متألم
بعزم ليك أنا .. ومسك برأس والدي وقرأ عليه ..
ثم قال له كلاما جميلا عن السعادة والسلام النفسي
الذي يحققه من يصدق عمله قوله استعاد أبي العافية
وتوجهنا جميعنا ومعنا القاسم للزراعة ثم دلفنا
لسدرة عمي حامد وتناولنا فطورنا عصيدة بأم رقيقة
حضرها عدد من المزارعين والعمال الزراعيين تلتها
كلمات القاسم بوعظ صادق ومعافى فرح به الحاضرين
أيما فرح .. وعدنا ولسان حالنا يقول ليس بالمادة
وحدها يحيا الانسان

فضل لا يهتم بما يجري خارج الدائرة ولا بإنخفاض
سعر الجنيه مقابل العملات الأخرى كل ما يعرفه أن الزراعة
أصبحت ما بتخارج نهائي وأن قريبه الذي وعده بإرسال
تأشيرة للعمل (عامل تربية مواشي) في إحدى دول الخليج
بنضم ساكت وبضيع زمنو واحسن ليهو من تربية الحيوان
أن ينضم للعمل جندياً بالجيش السوداني عسى أن يفوز
بوظيفة جنايني لا دخل له بتقلبات سوق الخضرة والرجله
فربما فاز ببعض التموين من سكر وزيت وصابون يقابل بها
متطلبات أطفاله الذين التحقوا بالمدرسة والروضة
بمتطلباتها اليومية الكثيرة .. وزمنامو ده الحيكومة
كانت بت حلال.

غاب عن مساءات القرية زمرة من كانوا يلوذون بالشعر
والغناء المعافى يتدثرون بالأمل الذي تقاصر عندما تيقـن
الجميع أن السودان الجديد وفق نيفاشا هو مشروع لدولتين
تتشكلان بعد صراع عسكري وسياسي تطاول ليفضي إلى
تحييد القوى الديمقراطية في السودان ليبقى نصيبها في
إعادة صياغة الوطن أنها لم تشارك في تقسيمه.. يا لبؤس
التحديق في عيون دهتها الهزائم.. تنتظر إعادة كتابة
جغرافيا وتاريخ السودان بعد التقسيم.

من صمت مثل طول صمتنا .. من حنى رأسه وأغلق أذنيه
في إنتظار أمل خائب .. فأليأذن بفصول ذل طويل
فلا وطن بلا ثمن.. والحرية فعل، لا يستحقها ولن يتفيأ
ظلالها إلا من يمارسها بحقها ..