قونقليز

قونقليز


10-23-2010, 08:00 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=310&msg=1287817248&rn=89


Post: #1
Title: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:00 AM
Parent: #0

cover.JPG Hosting at Sudaneseonline.com



مصدر لوحة الغلاف

Post: #2
Title: Re: قونقليز
Author: وليد محمد المبارك
Date: 10-23-2010, 08:05 AM
Parent: #1

الف مبروك يا هشام


مع انك زول رمه وارعن .. لكن حقيقي انجاز يستحق المباركة

Post: #4
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:09 AM
Parent: #2

"يُفشي أهل الحزن العميق سرّهم حين يسعدون.
لهم طريقة في تلقف السعادة كما لو أنهم يريدون أن يسحقوها ويخنقوها غيرةً.
آه .. إنهم يعلمون جيدًا أنها ستفر منهم!
"
;ريدريش نيتشه - ما وراء الخير والشر

Post: #3
Title: Re: قونقليز
Author: عمر عبد الله فضل المولى
Date: 10-23-2010, 08:08 AM
Parent: #1

كيف اقراء لشخص لا يحترم خيارات الاخرين ويسعى حثيثا لاستفزازهم وجرح مشاعرهم بالتطاول على معتقداتهم؟

وهل رجل بهذه العقلية يمكنه انتاج اي شي يفيد الناس بمصداقية وامانة ؟

وبعد

عنوان جميل للرواية التي محرم علي ان اطلع عليها لموانع

Post: #5
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:13 AM
Parent: #3

الإهــداء

في الحقيقة؛ ولكي أكون صادقًا فإنني
لا أُفكّر في شخصٍ بعينه الآن.
بإمكان كل من أراد أن يتخيّلني وأنا أُهديه هذا العمل
بشكل شخصي.

شخصان سيقتنيان هذا الكتاب:
- شخص شدّه العنوان
- وشخص شدّته لوحة الغلاف

وفي المحصلة النهائية؛ كلاهما سيقرأ هذه الرواية.
إذن؛ ما عليّ سوى أن أشكرهما على ذائقتهما اللغوية والفنية

Post: #6
Title: Re: قونقليز
Author: أحمد ابن عوف
Date: 10-23-2010, 08:13 AM
Parent: #3

ونلقاها وين قونقليز دي يا هشام؟

ازيك يا رجل، ومبروك الرواية
ومن هسع لو لقيتك مسرب ليك افكار كده وللا كده جوه الرواية
اوعدك انني ح افتها
تحياتي

Post: #9
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:22 AM
Parent: #6

أحمد بن عوف .. تسلم يا حبيب
الرواية اتنشر جزء منها هنا في المنبر بعنوان (الحزب الأسود) وبرضو في منابر تانية
وما تخاف الأفكار الكده وكده دي حتلقاها حتلقاها :)
خليك متابع

Post: #7
Title: Re: قونقليز
Author: عبد الناصر الخطيب
Date: 10-23-2010, 08:17 AM
Parent: #3

هشام ادم
تحية وتقدير ,,,

وألف مبروك



----------------------------------
*وياخي عفوا أمبارح الواحد في حته إرساله كعب عشان كده ما قدر يسترسل معك وألف ألف مبروك
وإن شاء الله ده يكون تحفيز لمزيد من الإبداع





ولك الود والتقدير ,,

Post: #8
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:19 AM
Parent: #7

عبد الناصر الخطيب
حبابك يا ملك، ولا يهمك أنا زاتي كنتَ في طريق الهفوف - الدمام، والإرسال برضو كان كعب
تسلم يا حبيب على التهنئة وأتمنى الرواية تعجبك

تحياتي

Post: #10
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:25 AM
Parent: #8

الفصل الأول
chaoter1.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

Post: #11
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:29 AM
Parent: #10

لا يهم؛ فقد أكمل للتو عدّ تجاربه العاطفية الفاشلة التي تجاوزت سبع عشرة تجربة، أنفق عليها زهاء العشرين عامًا من عمره. خمّن أنه قد يكون نوعًا من الأميبا المتطوّرة، وقرر أن يعيش ما تبقى من حياته حصورًا، دون أنثى تحفزهُ على التحليل والمراوغة. لسبب ما، ربط ضجره الكوني بالنساء، وبدأ الإيمان بعدم جدواهن في حياته يتسلل إلى قلبه شيئًا فشيئًا كتسلل المختلس، وبطريقة نرجسية قرر أن يُكافئ نفسه، وأن يُعوضها عمّا لقيته بسبب بحثه الدءوب عن أنثى يُفرغ فيها حاجاته العتيقة. لم يفكر كثيرًا في صياغة مناسبة لمبررات قراره ذلك، كل ما توصل إليه في النهاية أنه لم يعد بحاجة إلى أنثى، وأنه، على الأرجح، سوف يكمل حياته منفردًا، مستمتعًا بكل لحظاتها.

وكوميض النبوة، تكشفت له أفكار نيرة حول حياته الخاصة، واقتنع بأنه ليس في حاجة إلى آخر يشاركه. "هل نحن بحاجة إلى مشاركة فعلًا؟" كانت تلك خلاصة التجارب وخاتمتها القيّمة، والحكمة التي امتثل لها أخيرًا. منذ اليوم سوف ينفق راتبه الشهري في ترفه الخاص، وسيغدق على نفسه النعماء كما لم يسبق له من قبل. ورغم إحساسه المتعاظم بالأسى والأسف على اللحظات الجميلة التي أضاعها من حياته دون أن يستمتع بها كما يجب؛ إلا أنه قرر أن يعوّض ما فاته، وألا يدخر جهدًا في سبيل ذلك. دوّن، بحماس مُتقد، قائمة من الكماليات التي توحي بالبذخ والترف، وتمنح النفس ذلك الشعور العزيز بالرفاهية والدلال:
 نافضة غبار يدوية من ريش الطاؤوس
 فانوس إضاءة ليلي ملوّن
 ممسحة أقدام من القش المضغوط
 نافورة مياه جبسية مصغرة
 مجسم بلاستيكي عملاق للكرة الأرضية
 شموع معطرة للجو
 لوحات تشكيلية للحائط
 جوارب منزلية من فراء الأرانب
 عين سحرية لباب الشقة
 طقم من تماثيل الفيلة الأفريقية
 خزانة للكتب

كتب هذه الأخيرة وهو ينظر إلى تلال الكتب الناهضة في زاوية ما من غرفته، وشعر برضىً شديد لهذا الاختيار الذي رآه موفقًا. اضطرمت داخله حماسة محببة إلى نفسه، فوضع القائمة جانبًا، وأشعل سيجارة برنجي، أخذ منها نفسًا عميقًا، ثم تمدد على ظهره، وهو يتمطى في حبور طفولي غامر. راح ينقب في زوايا غرفته عن أشياء يمكن إضافتها، ثم نهض فجأةً بذات الحماسة، وأمسك القائمة من جديد، وأضاف إليها بمكر مصطنع:
 مغطس مياه هوائي!

أوصلته تجارب حياته، أخيرًا، إلى قناعة كاملة بأن النساء، كالأطفال، يقضينَ حوائجهن بالبكاء. تلك كانت إحدى مشكلاته الكبرى التي حالت دون توقفه، المبكر، عن خوض علاقات عاطفية منتهية بالفشل. كان كلّما قرر التوقف؛ تأخذه غريزته إلى أحضان أنثى جديدة، تصب الشهوة في أوردته المتيبّسة، والمتعطشة إلى الجنس دائمًا. واحدة فقط هي التي ظلت تتقافز، باستمرار، من صندوق ذاكرته كرؤى الأنبياء. يشعر، عندها، بأنه لم يعش من حياته سوى ما قضاه بين أحضانها الدافئة. كل الأسماء التي عكرت مياه تاريخه لم تستطع أن تشوش صفاء صورتها المنعكسة، وأخفقت كل محاولاته الجادة في نسيانها.

حاول التركيز على صفو مزاجه المخملي قدر المستطاع، قبل أن يرن جرس الهاتف، وينقل إليه قريبٌ مشئوم خبر وفاة والدته إثر نوبة سُكَّر. أحزنه الخبر، لأنه عنى له تأجيل أحلامه المخملية، وما يرتبط بها من سعادة. تذكر وجوه أفراد عائلته الممتدة في بانوراما ذهنية سريعة، وتخيّل عبء تلقيه العزاء من هؤلاء البؤساء. لعن في سرّه كل وجه على حدة، قبل أن يُخرج من ثلاجته الصغيرة قارورة الخمر، ويبدأ رحلته الميتافيزيقية اليومية.

Post: #12
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:30 AM
Parent: #11

في منزل العائلة الكبير، الذي كمنازل النمل، بغرفه الكثيرة والمتداخلة، وقف أمام جثمان أمّه المسجى على عنقريب الجرتق المصنوع من خشب السروج. وقبل أن يُكشف عن وجهها، تأمل منظر جسدها المترهل كشحنة إسفنج، وهو يتساءل عن مصيرها، وعما إذا كان ذلك المصير يستحق المشقة التي بذلها في طريقه من العاصمة إلى ريف العيكورة أم لا! وللسخرية؛ فإنه لا يتذكر تفاصيل مجيئه من الخرطوم، أو متى، بالتحديد، كان ذلك، غير أنه يتذكر جيدًا قلقه وخوفه اللذان لم يعرف لهما سببًا، إضافة إلى ضيقه الذي كان قد بدأ بالتخلّق، منذ أن وطأت قدماه محطة السوق الشعبي الخرطوم، وحتى وصوله إلى هذا المكان الذي يعج بالناس ذوي الأعين المخيفة، والوجوه الواجمة والباهتة، كأنهم تماثيل نصفية في مرسم فنان بوهيمي.

مرت بذهنه صور باهتة لوجوه بائعي المثلجات في السوق الشعبي الخرطوم، وأصوات طقطقة الأكواب النيكلية المغرية، والفتيات اللواتي يبعن منتجات التجميل الصينية، وكريمات تفتيح البشرة، دون أن يتمتعن بتلك الميزة على الإطلاق، منتصبات على الأرصفة الترابية كعيدان القمح السمراء تحت لهيب الشمس، وهن يرددن بلا توقف: "المعلقة بنص جنيه!" والفتيان البائسين، ذوي الوجوه الكالحة، حفاة الأقدام، الراكضين وراء أكياس النايلون المتطايرة في المكان يحاولون الإمساك بها، وبيع ما تجمّع منها لمصنع تدوير البلاستيك مقابل حفنة من الجنيهات، التي بالكاد تكفي لكوب من عصير العرديب المثلج لكل واحد منهم، والرجال المصابين بالجذام، كمسوخ مشوّهة، تسير، بقوائمها الخلفية كحشرات فضائية دميمة، على أرصفة وشوارع العاصمة، دون أن يلتفت إليهم أحد شفقة أو اشمئزازًا.

أطفال الورنيش الذين يعبئون شوارع العاصمة الهادئة بأصوات كشكشة علب الصلصة الفارغة، إلا من بعض الحصوات الصغيرة الملساء، ولم يغب عن باله، كذلك، رائحة البول التي تعبّق المكان، جنبًا إلى جنب مع رائحة زيوت السيارات القديمة المتكلسة على الطرقات، والتي لا يعلم أحد من أين جاءت. ومواء القطط الشرسة، وشجار طلاب الجامعات مع بائعي السعوط، وألف صوت وصوت. يتذكر كل ذلك، وكأنه حدث قبل ألف عام.

للموت، عنده، رائحة مزعجة وغريبة، أشبه برائحة القطن المبلول. يعرف تلك الرائحة جيدًا، ولازالت عالقة بمراكزه الشمّية منذ حادثة غرق قديمة، شارك فيها على مضض بغسل الضحايا، كما أن للموت هيبة لم يستشعرها جيدًا. خيّل إليه أن الأمر أشبه بمسألة وقتية عابرة، تنتهي بافتقادنا للموتى؛ ذلك الافتقاد الذي لا يرتبط بالموت نفسه، وإنما بعجزنا عن التواصل مع الآخرين. لم يكن في إمكانه التعامل مع الموت كحقيقة لها وقعها المؤلم والمؤسف، بل لم يستطع أن يتصور الموت إلا من حيث أنه موقف طارئ يجعلنا نشتاق إلى الموتى لبعض الوقت.

ما إن رُفع الغطاء الدموري الأبيض عن وجهها؛ حتى اعترته رغبة عارمة في الضحك. كانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها أمه ساكنة! لا يتذكر أن رآها صامتة كما هي الآن، وفمها لا يتحرك كما هو عادته منذ أن أدرك حقيقة العلاقة بينه وبين هذه السيدة النائمة على عنقريب الجرتق. استغرب قدرتها المعجزة على الكلام المستمر والنميمة، وفي أحايين كثيرة، حين يعجز عن التأمل والقراءة، يجلس إليها، ويأخذ عنها أخبار أهالي العيكورة بالتفصيل: نفوق الأبقار، آفات الزراعة، الزيجات الحديثة، فضائح القرية، أسعار البضائع، أنباء السوق وأهله، قائمة الفتيات المقترحات للزواج، أحاديث النساء المملة التي لا يستسيغ سماعها إلا من أمه. لا يفعل ذلك بدافع الفضول أو بدافع الاطلاع على أحوال القرية؛ وإنما، فقط، لقضاء الوقت، ولابد أن ينتهي الحديث، عندها، بذكر الشريشاب الأجلاف، الهاربين من بطش الدفتردار في زمن موغل في القدم، ليطمئن بذلك على استقامة خرفها على عوده.

أطال النظر إلى وجهها؛ فخيّل إليه أنها تبتسم أو تكاد، وكان كالذي يختبر قدرة الموت على تكميم الأفواه، وفرض قانون الصمت على أمه الثرثارة. تصور الصراع الذي قد تعانيه، الآن، مع الموت حول هذه النقطة بالتحديد، وقدّر أنها سوف تنتصر عليه في نهاية المطاف، وأراد أن يشهد لحظة الانتصار قبل دفنها، غير أن الأيادي امتدت لترخي الغطاء الدموري مرة أخرى على وجهها، ورفعوا أياديهم بحركة ميكانيكية موحّدة، ونادى أحدهم بصوت أجش: "الفاتحة".

حل السكون، فجأة، على الغرفة التي سكنت رائحة الموت أوردتها الغليظة المعلقة على السقف مِرقًا من خشب السنط المُعمِّر، ما منحه فرصة جيدة لتذكر بعض تفاصيل القرية التي سقطت من ذاكرته منذ تسعة أعوام. هاجمته صورة النسوة القابعات في الغرفة المجاورة، تأتيه منهن أصوات غمغمات كحمحمة الخيول. "إنها ورطة حقيقية!" قالها وهو يستثقل ما ينتظره بعد الانتهاء من مراسم الدفن المملة، والتي لن يناله منها إلا غبار المقابر التي تحمل تبر الأجساد الهالكة. كان واجبه الأكثر إلزامية: تقبّل العزاء من نساء القرية المجاملات، وتعزية أخوته، وحملهن على التأسي، وهو ما لا يطيق عليه صبرًا، ولا يجيد تقنياته.

ما إن خرج الرجال من الغرفة حاملين النعش، متجاوزين بابها الحديدي السميك، حتى انطلق عويل النائحات متزامنًا مع صوت العبارة الجنائزية المعهودة: "وحدوه .. لا إله إلا هو" فتبسم في سرّه، وقال: "يا لمكر النساء!" بطريقة ما، أحيت له إحدى الأصوات النسائية النائحة الحادة ذكرى أكيج دينق، بائعة الخمر التقليدية، التي تسكن في مكان ما على شاطئ النيل الأزرق، وتذكر تلك الليالي التي قضاها بصُحبتها مُعاقرًا للخمر الجيدة التي تصنعها بإتقان، وتشتهر بها في المنطقة "لا يقتل الوهم إلا مزيد من الوهم!" قالها، وهو يعقد العزم على زيارتها في مسائه ذلك.

Post: #13
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:31 AM
Parent: #12

في المقبرة؛ كانت الشمس في كبد السماء، ترسل وهجها، مباشرة، على رؤوس الرجال الذين وضعوا الجنازة أرضًا، وراحوا يجتهدون في حفر القبر بكل همّة، فيما همس إليه أحدهم بأنه لا توجد حاجة إلى أن يرهق نفسه بالحفر؛ لاسيما وأنه في حالة نفسية لا تسمح له بذلك، هذا الكلام أشعره ببعض السعادة والارتياح، ولكنه كذلك ألزمه بأن يبدي بعض مظاهر الحزن التي اجتهد في اصطناعها.

بعض المزارعين القادمين من مشروع الجزيرة في الجهة الغربية للعيكورة، وضعوا أطراف جلابيبهم تحت أسنانهم، وأتوا راكضين، عند رؤيتهم لجمهرة الرجال في المقابر، وشرعوا في حفر القبر مع البقية، وهم يرددون: "لا حول ولا قوة إلا بالله!" دون أن يسألوا عن الجثة التي ينوون دفنها. أزعجه كثيرًا حماسة الرجال، وتناوبهم على الحفر، وهم يرددون بين الفينة والأخرى: "صلي على النبي .. صلي على النبي" وكان ذلك يعني إلزامية أن يترك أحدهم الرفاش للآخر، وخمّن أن ذلك يعيق انسيابية عملية الحفر وسرعته، ولكنه أضمر ذلك في صدره ولم يصرح به لأحد.

كان منظر الرجال وهم يحفرون القبر، كأسراب غربان نوحية متوحشة، تنهش بلا هوادة جثة كـلـب نافق، بينما وقف بعض الصبية غير بعيد عن مكان الدفن، ينظرون بعيون فضولية إلى ما يجري، وقد زجرهم بعض الرجال المتحمسين، وأمرهم بالبقاء بعيدًا. كان الغبار المتناثر من عملية الحفر يختلط مع العرق المتصبب من جبينه، فشعر بأنه عاد كائنًا طينيًا من جديد. أحس بالانزعاج الشديد لذلك، واسترق النظر إلى جثمان أمه المسجى على الأرض، علّه يشهد لحظة انتصارها على الموت، ولكنها كانت ما تزال هامدة بلا حراك؛ فشعر بالحزن لهزيمتها. امتلك قناعة راسخة بأن حزنه ذلك أصدق من حزن الآخرين الذي لم يمنعهم من الجد في حفر القبر، ورأى في ذلك تناقضًا صارخًا زاد من إحساسه بالاستياء.

لاحظ على الفور أنه مركز اهتمام بالغ من الحضور، وأن الجميع يسعون إلى تلبية احتياجاته بالسرعة المطلوبة، وأشعره ذلك بالتميّز. هو يعلم أن أقرب الناس للميّت أكثرهم حظوة عند المعزين، ولذلك فإنه لم يشأ أن يستغل هذه الحظوة استغلالًا سيئًا، واكتفى ببعض التصرفات التي توحي بأنه مستغرق في الحزن.

في البيت، وقبل الجلوس في الصالة المخصصة لاستقبال التعازي، طالب حامد ودالنعيم الاختلاء به لبعض الوقت، وبطريقة جادة أخرج بعض الأوراق من جيبه، وبدأ يعرضها عليه. كانت الأوراق عبارة عن: تقارير طبية، ونتائج فحوصات معملية، وشهادة وفاة معتمدة من المستشفى. لم يبد أي اهتمام بكل تلك التفاصيل؛ لاسيما وأنه يعلم تمامًا أن أمه الآن ترقد في قبرها بارتياح، وأن هذه التقارير والأوراق عديمة القيمة إزاء المحصلة النهائية، والحقيقة الأكيدة، ولكنه اكتشف في نهاية الأمر أن ذلك كان بدافع إبداء الحرص، وإخلاء المسئولية لا أكثر.

+

Post: #24
Title: Re: قونقليز
Author: خضر حسين خليل
Date: 10-23-2010, 09:16 AM
Parent: #13

هشام العزيز
كيفنك ياخ
قراية الكمبيوتر دي بقت مزعجة للغاية بالنسبة لي أخوك خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالروايات
ياريت تورينا القونقليز ده نلم فيهو وين بالضبط ؟
ماقرأته حتي الآن يغري للأمانة بالمواصلة لذلك وتي لا نضطر للمواصلة بهذه الوسيلة ارجو
الإفادة .

مودتي ازول

Post: #14
Title: Re: قونقليز
Author: DKEEN
Date: 10-23-2010, 08:35 AM
Parent: #7

مبروك ياهشام الجائزة التي نلتها مؤخرا

ومبروك هذا الانتاج الجديد.. اعمال جاددة لرجل جاد امر يستحق الاشادة والتهنئة الصادقة..
ايضا قدرتك على اختيار اعمال اغلفة اعمالك مسالةعايزة اشادة تانية..

Post: #15
Title: Re: قونقليز
Author: DKEEN
Date: 10-23-2010, 08:35 AM
Parent: #7

مبروك ياهشام الجائزة التي نلتها مؤخرا

ومبروك هذا الانتاج الجديد.. اعمال جاددة لرجل جاد امر يستحق الاشادة والتهنئة الصادقة..
ايضا قدرتك على اختيار اعمال اغلفة اعمالك مسالةعايزة اشادة تانية..

Post: #16
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:39 AM
Parent: #15

دكين .. أيها الراحل في الليل وحيداً
شوق كميّات يا صديقي، تسلم ألف يا حبيب، وأتمنى بالجد الرواية تعجبك وتعجب القراء الكرام

خليك قريب ياخ!

Post: #17
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:41 AM
Parent: #16

حامد ودالنعيم زوج شقيقته الكبرى رجل مشهور عنه الحرص الشديد، ويُذكر أنه الوحيد في العيكورة، بين أقرانه، من يحتفظ بشهادة ميلاده، إضافة إلى الشهادات المدرسية منذ المرحلة الابتدائية، وحتى الثانوية التي اجتازها بصعوبة بالغة، كما أنه ما زال محتفظًا بتذاكر سفره إلى أديس أبابا لحضور حفل الفنان محمد وردي عام 1989، إضافة إلى بطاقة صعود الطائرة؛ بل وتذاكر الحفل نفسه. ورث عشق جمع الأشياء والاحتفاظ بها عن والده ودالنعيم جار الله البَلال، ولا أحد يعلم المعيار الذي يقيّم به الأشياء التي تستحق الاحتفاظ من تلك التي لا تستحق.

يذكر تلك الليلة التي جاء فيها من قرية شيخ طه سيرًا على الأقدام، جارًا وراءه أتانٍ عشراء، ليخطب شقيقته الكبرى، وفيما راح يتحدث عن نفسه، وعن عائلته وجذورها العَرَكِيِّة التي تعود إلى الإمام موسى الكاظم؛ انشغل هو بتعداد أوجه الشبه بينه وبين شقيقته؛ إذ كان قصيرًا مفرطًا في القِصر، بدينًا، وبلا رقبة إلى الحد الذي يشبه معه دمى الماتريوشكا الروسية، له ثآليل بارزة ومتفرقة في وجهه ورقبته، وقواطع أسنانه الأمامية متفرقة عن بعضها، وتتطاير شذرات اللعاب من فمه أثناء الكلام، وحاجباه العريضان يكادان يلتقيان، لولا عناية الطبيعة، وعيناه ليستا متساويتا الحجم تمامًا، وعندما انتبه إلى كلامه: "هل تزوجني أختك؟" أجابه على الفور: "بالتأكيد؛ فأنتما متشابهان تقريبًا".

لم يجد مبررًا لوجوم بعض الوجوه التي لا يعرفها، والتي لم تكن حتمًا تعرف أمه، واعتبر ذلك نوعًا من الزيف الاجتماعي الذي يطغى على المناسبات من هذا النوع، وفيما كان البعض يتهامسون، وبعض الفتيان يوزعون كؤوس الشاي المنعنع على المعزين دون توقف، انهمك في متابعة جعران وقـح يسير، بلا مبالاة، بمحاذاة الجدار، دافعًا أمامه كرة من الروث، دون أن ترهبه هيبة اللحظة الحزائنية المخيمة على المكان. أعجبته استقلالية هذا الجعران، وانصرافه إلى أمور أهم بكثير من الحزن على الموتى، وربما شعر بشيء من الحسد تجاهه. كل ما أراده هو أن تنتهي مراسم العزاء ليذهب إلى أكيج دينق، ويحتسي خمرها الجيدة، ويضاجعها إن وجد إلى ذلك سبيلًا، ويعود.

انتبه، كما انتبه الجميع، على صوت بوق حافلة قديمة من طراز هايس تحمل أطنانًا من البشر، توقفت في الباحة المقابلة للمنزل؛ فأشعره ذلك بمزيد من الإرهاق والتعاسة، وظن أن يومه الممل لن ينتهي أبدًا، ولن تتوقف العيكورة عن مفاجأته طالما هذا العزاء قائم. ترجل الراكبون نساءً ورجالًا، ومضت النساء، على الفور، إلى القسم الآخر من المنزل المخصص للنساء، وهن يطلقن عويلهن الميلودرامي المزعج، بينما تقدم الرجال، وهم يهندمون ثيابهم، ويصلحون عماماتهم ويسرعون الخطى، ليتوقفوا أمام الصالة مباشرة، وزعقوا بصوت كلاسيكي موحد: "الفاتحة".

Post: #19
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:42 AM
Parent: #17

نظر إلى مَن حوله، وتفرس في الوجوه التي كانت بعضها حزينة، وبعضها الآخر ذات ملامح حيادية، بينما جلس أشخاص غير مألوفي السحنات في ركن قصي يتبادلون أحاديث ضاحكة بطريقة خافتة، ووجد رجلًا مطأطأ الرأس مخفيًا وجهه بطرف عمامته، فاقتبس منه الفكرة؛ حيث وجدها ذكية للغاية. كان بإمكانه أن يغفو قليلًا خلف عمامته، بينما يعتقد الآخرون أنه يمارس حزنه على أمه في خصوصية، بعيدًا عن أعين المتطفلين الذين تهمهم متابعة حالته النفسية، إما ليستلهموا منها ما يبقيهم حزانى أو لمجرد الفضول. ما كاد يغمض عينيه قليلًا حتى أحس بدغدغة ناعمة على كتفه، فرفع رأسه في استياء ليجد طفلًا يهمس في أذنه: "هنالك سيدة بالخارج تريد أن تعزيك."

استأذن في لباقة مصطنعة من حامد ودالنعيم، ولم يفهم لماذا فعل ذلك، ولكنه وجد أنه من الجيد أن يستأذن منه، كتعبير عن امتنانه لملازمته اللصيقة له منذ وصوله من العاصمة. قام متثاقلًا، وهو يستشعر الضجر من كل ما يجري من حوله، وعند الباب الفاصل بين صالة عزاء الرجال، وصالة عزاء النساء، كانت عديلة عبد الرحمن بابو تقف متوشحة عباءتها القاتمة، وهي تنوح بنبرات متقطعة ومنتظمة، وما إن رأته حتى توقفت عن البكاء، ورفعت كفيها بخشوع وهمّة، وهي تقول: "الفاتحة".

أدرك على الفور أنها لم تجتهد في قراءة الفاتحة كاملة؛ فالوقت الذي استغرقته لم يكن يكفي لقراءة آيتين متتاليتين، ولكنه شعر بالارتياح لذلك، لأنها أزاحت عنه عبء التكرار الذي بدأ يمله ويزهد فيه. وبحركة درامية ألقت عديلة بابو بجسدها الممتلئ عليه، وراحت تبكي في هستيريا ألهبت حماسة النساء الأخريات اللواتي رحن يبكين تبعًا لذلك. لم يجد بدًا من أن يربت على كتفيها في محاولة لمواساتها، وشغله عن ذلك، لاحقًا، مرور وقية عبد الباسط من أمامه، ولم يبد عليها أي تغير طارئ. كانت مثلما تركها قبل تسعة أعوام: بطولها الفارع المشدود، وأردافها وثدييها المغريين، ونظراتها المثيرة ذات المغزى الجنسي، وراح يتذكر الليالي الحمراء التي قضاها معها بين حقول القصب، ورأيه المتطرف أن لاسمها المتخلف القديم علاقة مباشرة بعدم حصول المتعة الجنسية الكاملة معها.

ساعدته تلك الذكرى الممتعة على تخطي اللحظات العسيرة التي كان من المفترض أن يقضيها في مواساة عمته الباكية على صدره، وأدهشه التفاني الذي تظهره النساء في البكاء. هو يعلم أن عمته وأمه لم تكونا على وفاق دائم، بل يكاد يتذكر عدد المرات التي دعت كل واحدة منهما على الأخرى بالموت والثبور، حتى أن أمه خصصت وترًا للدعاء عليها بأن تموت حرقًا، وتركت لله حرية أن يختار الكيفية والمكان الذي يجب أن تحترق فيه، بعيدًا عن بيتها وعن ناظريها.

في لحظة ما، أحس أن بقاء عمته على صدره قد استغرق وقتًا أكثر مما يجب، فدفعها عنه برفق وهو يقول: "ما حدث؛ حدث وانتهى!" وتدافعت النسوة لتعزيته استغلالًا لوجوده بينهن، مما جعله يشتط غضبًا، فزجرهن دفعة واحدة: "كفاكن بكاءً! ماتت أمي وانتهى الأمر، وقد ألحق بها إن لم يخرج الغداء حالًا". حاول تدارك الأمر عندما وجد بكتيريا الدهشة تتكاثر في أعين النساء اللواتي توقفن فجأة عن البكاء والعويل: "أعني؛ يتوجب علينا أن ننظر إلى الجانب الجيد من الأمر، فقد ارتاحت من مرضها أخيرًا، ومن تعاسة هذه الدنيا."

Post: #18
Title: Re: قونقليز
Author: اساسي
Date: 10-23-2010, 08:42 AM
Parent: #15

الاخ دكين تقبل تحياتي ,
ارجو ارسال رقم تلفونك في الايميل او الماسنجر الداخلي فقدت رقمك الذي بطرفي وذلك لامر هام

Post: #20
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:44 AM
Parent: #18

ثلاثة عجول ذبحت على الغداء ذلك اليوم، تكفل بهن حامد ودالنعيم. نصبت الموائد أرضًا، وبدأ الجميع يأكلون في صمت مطبق؛ فلم يُسمع منهم إلا صوت اصطكاك الأطباق، وصرير الأسنان، وحركة المضغ داخل الأفواه الممتلئة. كانت تلك من اللحظات النادرة التي شعر فيها بالسعادة المطلقة؛ فمنذ وصوله إلى القرية لم ينعم بهدوء كهذا الذي ينعم به الآن، كما أنه لم يتناول طعامًا منذ مجيئه؛ فيما امتلأت معدته بالشاي المنعنع الذي لم يتوقف فتيان القرية عن توزيعه على المعزين خلال ساعات العزاء الطويلة المملة.

لاحظ حرص ودالنعيم على الجلوس إلى جواره على مائدة الغداء، ولم يستطع أن يمنعه من ذلك، ولاحظ أيضًا أنه كان يقتطع أجزاء من ضلع العجل المطبوخ ووركه، ويضعها أمامه في نكران ذات لم يتوقعه منه على الإطلاق، ولكن أكثر الملاحظات التي توقف عندها كانت الحماسة الشرهة التي يأكل بها الجميع، والتي لم تكن منسجمة مع مناسبة حزينة كهذه، ولكنه أضمر ذلك ولم يطلع عليه أحدًا. من يتأمل ودالنعيم وهو يتناول طعامه، يعرف سر بدانته المفرطة، فهو بالكاد يمضغ الطعام، ليستقر في معدته كما اقتطعه بيديه. يشعر المرء أنه لا يملك أسنانًا داخل فمه؛ بل مطحنة! فقطعة اللحم التي يجتهد الآخرون في تمزيقها، يبتلعها هو كما يبتلع أحدنا قطعة الجيلاتين أو الحلاوة الطحينية.

ودالنعيم يعتبر الأكل مهمة مقدسة يجب أن تؤدى بكثير من الاهتمام، وهو أحد المؤمنين بأن الإنسان يعيش ليأكل؛ لذا فإنه ينهمك في الأكل إلى حد الانفصال عن الواقع؛ فلا يعود يشعر بوجود أحد حوله. تلك أشبه بحالات التسامي التي تعتري المتصوفة، بيد أنه يُخلف وراءه دمارًا واسعًا، وفوضى تشعرك بالرثاء. عندما يكتشف أنه لم يعد قادرًا على البلع؛ يتوقف برهة ليرتشف قليلًا من الماء، وقتها فقط يرمق من حوله بنظرات سريعة غير آبهة، ثم يعود لمواصلة طعامه بذات النهم.

بعد الغداء، تعاظمت حاجته إلى التدخين والاسترخاء. مد يديه لأحد الفتيان الذين تولوا غسل أيادي المعزين، ولم يجتهد في أن ينظر إليه لمعرفته؛ فهو لا يعرفه بالتأكيد. لقد غيرت السنوات التسع كثيرًا من أحوال القرية، فمات أقوام وولد آخرون، ولم يكن مهتمًا بالبحث في هذا الشأن على أية حال. كانت عادة الرجال أن ينظروا في أعين الصبيان، وهم يغسلون أيديهم، ويسألونهم ليعرفوا أبناء من هم، وفي أي مرحلة مدرسية يدرسون، ولا يعرف أحد فائدة لذلك، ولكن هذا ما جرت عليه العادة. غسل يديه جيدًا ثم توجه مباشرة إلى إحدى الغرف الكثيرة في منزل العائلة الكبير التي يعلم أنها لن تكون مأهولة بالزوار، فعل ذلك خفية عن ودالنعيم الذي كان يراقبه كظله؛ أو كهذا خيّل إليه.

أغلق الباب وراءه، وتأكد من ذلك، قبل أن يرخي ستار النافذة الخفيف، حجبًا لأشعة الشمس التي كانت على وشك الزوال. أشعل سيجارة برنجي دخنها بشراهة، ثم تمطى في سعادة. "أجمل لحظاتنا على الإطلاق هي عندما نكون منعزلين تمامًا. تلك واحدة من أهم اللحظات التي نتهاون في استغلالها على الوجه الصحيح." قالها مستشعرًا نشوة هي أقرب إلى نشوة الجنس، وهو يتمدد على ظهره بعد عناء يوم طويل وممل. كانت لديه رغبة في إمضاء دقائق للتأمل فيما جرى في يومه ذلك على نحو سريع، ولكنه نام مباشرة دون أن يفعل.

استيقظ فجأة، وأحس بأنه نام لوقت طويل، نظر من خلال فتحات الستائر الخفيفة إلى النافذة، فوجدها مظلمة تمامًا. "يبدو أنني نمت طويلًا" هكذا ظن؛ قبل أن يعرف لاحقًا أنه لم ينم سوى ساعتين فقط، كانت كافية لأن تغرب الشمس، ويحل الظلام أرجاء القرية التي لم تدخل الكهرباء أرجاء واسعة منها بعد، وكافية لتجدد فيه النشاط كذلك. كان الهدوء قد بدأ يفرض سطوته على المكان، ولكنه سمع صوت ودالنعيم من جهة ما، فلم يشأ أن يتقابل به؛ فخرج من أحد أبواب المنزل الخلفية.

Post: #21
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:47 AM
Parent: #20

للريف، ليلًا، نكهة خاصة يألفها تمامًا، رغم أنه لم يعد ينعم بليل هانئ منذ أن استوطن العاصمة، وأمضى فيها تسع سنوات من عمره. تذكر ذلك اليوم الذي أبلغه أحد زملائه في العمل بأن مدير البنك يريده في أمر عاجل وعلى انفراد. كان يسمع منهم أنه رجل نزق ومزاجي وحاد الطباع، ولكنه لم يقف على شيء من ذلك؛ فقد كان يراه رجلًا عاديًا كغيره، وظن أن الآخرين يخلعون عليه تلك النعوت ليبرروا خوفهم أمامه. كل ما فعله هو أن ابتلع العلكة التي كانت في فمه، ومضى إليه من فوره.

طرق الباب ودخل قبل أن يؤذن له، وكانت تلك عادته دائمًا. رأى قسم السيد دفع الله جالسًا على مكتبه العادي مثله تمامًا، منهمكًا في قراءة إحدى التقارير المالية التي ترده يوميًا من قسم الأراضي والتعويضات، اكتفى بإلقاء نظرة سريعة عليه من تحت نظارته الطبية السميكة، وأشار إليه بالجلوس؛ فجلس. سمعه وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة، ولكنه خمّن أنه يتذمر من تلك التقارير التي باستطاعتها أن تنهي سيرته المهنية، وتحيله إلى التقاعد المبكر. بعد لحظات رفع قسم السيد رأسه، ونزع نظارته الطبية، وألقى بها على المكتب، وعقد أصابع كفيه ووضعهما أمام كرشه:
- شرف الدين عبد الرحيم بابو؛ ملفك المهني نظيف ومشرف، ويشهد لك زملاؤك بالأمانة والالتزام، رغم بعض المآخذ والملاحظات البسيطة طبعًا. لقد رأينا أنك الوحيد المستحق للترقية، وسوف تنتقل إلى مكاتب الإدارة في العاصمة؛ فما هو رأيك؟
- لا بأس!
- ليست لديك اعتراضات تذكر؛ أليس كذلك؟
- لا أجد فرقًا بين هنا وهناك. عمومًا إذا كان ذلك قرارًا إداريًا فسوف أنفذه.
- جيد؛ سوف تستلم عملك في قسم خدمة العملاء في الخرطوم اعتبارًا من بداية الشهر القادم، فتجهز منذ الآن. أتمنى لك التوفيق.

نهض وهمّ بالانصراف قبل أن يستوقفه قسم السيد مضيفًا: "لا تقلق، سوف يزيد راتبك بنسبة 10% فالمعيشة في الخرطوم أغلى مما هي عليه هنا." ولكنه رد في اطمئنان: "لستُ قلقًا." وهز رأسه في احترام، وانصرف على الفور.

حاولت الأسرة أن تحتفل بهذه المناسبة، واشتروا علبة ماكنتوش خصيصًا لهذه المناسبة، ولكنه لم ير في ذلك ما يستحق الاحتفال، وشرع في تجهيز نفسه للسفر، وسافر في الموعد المحدد تمامًا، فاضطروا إلى الاكتفاء بتوزيع حلوى الماكنتوش على الجيران والأطفال الذين جاءوا للمساعدة، أو لنقل ما يجري لأمهاتهم في البيوت. مازال يتذكر وصايا أمه وهو يستعد لركوب الحافلة بأن يحذر من شيئين: البنات والعساكر.

"إياك والسياسة؛ فهي قمار بين الشيطان والحكومة! احذر العساكر، فهؤلاء لا تعرف قلوبهم الرحمة، فقد رضعوا حليب الضباع، وإن اقتادوك إلى مكان ما، فسوف لن نتمكن من العثور عليك مرة أخرى. تعلّم أن تقول لهم (نعم) دائمًا لتضمن السلامة. واحذر بنات الخرطوم، فهن أخوات الأباليس، ولا شيء يصنعنه سوى إغواء الشبان، وأنت ساذج وطيب ويسهل خداعك، والوحدة سوف تجعلك تناسق وراءهن."

طمأنها بكلمات حادة وحاسمة، واعتلى درج الحافلة مسرعًا قبل أن تتذكر شيئًا آخر. هو يعلم أنها ستكرر وصاياها التي طالما رددتها على مسامع والده من قبل، ولم تكف عن ترديدها له كذلك حتى حفظها عن ظهر قلب، ولم تكن له رغبة في سماعها في ذلك الوقت الحرج، والحافلة على وشك أن تغادر. ولم ينس طعم قبلاتها التي أغدقتها عليه ذلك اليوم، ورائحتها القريبة من رائحة القونقليز. "كان فمها لا يكف عن الحركة!" قالها وهو يبتسم قليلًا، ثم رسم على وجهه ملامح أخرى أكثر جدية.

نهاية الفصل الأول

Post: #22
Title: Re: قونقليز
Author: أحمد ابن عوف
Date: 10-23-2010, 08:48 AM
Parent: #18

Quote: وما تخاف الأفكار الكده وكده دي حتلقاها حتلقاها

علم

انا يا اخوي ما بقدر على قراية الاسافير دي، داير نسخة من الكتاب

ما تنسى انا عندي روايتك الاولى، وخلينا نعمل ليك رف في المكتبة


Post: #23
Title: Re: قونقليز
Author: معاذ الهادي
Date: 10-23-2010, 08:53 AM
Parent: #15

مبروك يا ا.هشام

قريت الرواية في منبر تاني


اسلوب جميل وسلس رغم انو


عندي تحفظات كتييييرة على بطل الرواية

وعلى البلاوي العملها يوم البكا بتاع امو

معقولة بس( الناس تجي تشيل معاهو الفاتحة يلاقوهو .....غرقان في التمني)

Post: #25
Title: Re: قونقليز
Author: حيدر حسن ميرغني
Date: 10-23-2010, 09:30 AM
Parent: #23

الف مبروك ياهشام
تمنيات بمزيد من النجاحات
_______
ركز على الإنتاج في الفترة القادمة

Post: #26
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 09:38 AM
Parent: #25

خضر حسين يا صديقي
أرى أنه قد بلغ بك الكبر عتيًا حتى لم تعد تستطيع أن تقرأ من الكمبيوتر مباشرةً! :)
عمومًا يا صديقي، سوف أرسللك الرواية على بريدك الإلكتروني، فرأيك يهمني كثيراً

تحياتي لك

Post: #27
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 09:48 AM
Parent: #26

الأخ: معاذ الهادي
تحية طيبة

أشكركَ على التهنئة الرقيقة، وأنصحكَ ألا تستعجل في الحُكم على شخصيات الرواية
لحين الانتهاء من كامل الرواية، فربما تغيّر رأيك

تحياتي وكل المودة

Post: #28
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 09:51 AM
Parent: #25

العزيز: حيدر حسن ميرغني
تحياتي الصادقة لك

أشكرك يا عزيزي على التهنئة وعلى النصيحة الصادقة
ولاشك أن الجائزة حفزتني على التركيز على ما أكتب أكثر من ذي قبل

أتمنى أن تنال الرواية إعجابك وتقديرك

مودتي

Post: #29
Title: Re: قونقليز
Author: مرتضي عبد الجليل
Date: 10-23-2010, 11:54 AM
Parent: #28

Quote: والفتيات اللواتي يبعن منتجات التجميل الصينية، وكريمات تفتيح البشرة، دون أن يتمتعن بتلك الميزة على الإطلاق، منتصبات على الأرصفة الترابية كعيدان القمح السمراء تحت لهيب الشمس، وهن يرددن بلا توقف: "المعلقة بنص جنيه!" والفتيان البائسين، ذوي الوجوه الكالحة، حفاة الأقدام، الراكضين وراء أكياس النايلون المتطايرة في المكان يحاولون الإمساك بها، وبيع ما تجمّع منها لمصنع تدوير البلاستيك مقابل حفنة من الجنيهات، التي بالكاد تكفي لكوب من عصير العرديب المثلج لكل واحد منهم، والرجال المصابين بالجذام، كمسوخ مشوّهة، تسير، بقوائمها الخلفية كحشرات فضائية دميمة، على أرصفة وشوارع العاصمة، دون أن يلتفت إليهم أحد شفقة أو اشمئزازًا.


المبدع هشام:
يا لهذا البؤس المعلب في مدينتنا تلك
-------------------------------------------------
عايز هارد كوبي من رواياتك ياخ وين القاها؟
انا في الرياض.
وتحياتي يا مبدع.

Post: #30
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 12:35 PM
Parent: #29

الأخ: مرتضى عبد الجليل
تحياتي

للأسف لا أملك هارد كوبي من الرواية، ولكن بإمكاني أن أطبع لك نسخة خاصة، وأُسلمها لك في أقرب فرصة أزور فيها الرياض
أرجو تزويدي برقم هاتفك الجوّال على بريدي الإلكتروني للتنسيق ([email protected])

مودتي وتقديري

Post: #31
Title: Re: قونقليز
Author: محمد عبد الماجد الصايم
Date: 10-23-2010, 12:41 PM
Parent: #30

ألف مبروكـ يا هشام

Post: #32
Title: Re: قونقليز
Author: منتصرمحمد زكى
Date: 10-23-2010, 12:48 PM
Parent: #31

ألف مبروك هشام
حتما سأقرأها ولو بعد حين ....

Post: #33
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 01:16 PM
Parent: #32

شكرًا يا ودالصايم .. تسلم يا حبيب
-------

شكرًا منتصر محمد زكي .. أتمنى تعجبك الرواية

Post: #34
Title: Re: قونقليز
Author: osama fadlalla
Date: 10-23-2010, 02:28 PM
Parent: #33

تحية طيبة اخ هشام

ومبروك انجاز الكتاب ثم الجائزة واعتقد انها تقييم صادف اهله بحسب متابعتي الحديثة لكتاباتك المثيرة فعلاً....كما الاخرين لا اجد كل المتعة في قراءة كتاب بهذه الوضعية..فياريت تفكر جادا في امر ارسال الكتب لمن يرغب وهم كثر..بالنسبة لاوربا يكفيك مركز واحد في لندن مثلا يقوم بالتوزيع.
ارجو لك التوفيق فانت اهل له.. وفكر في الترجمة ايضاً !!

Post: #35
Title: Re: قونقليز
Author: خالد عويس
Date: 10-23-2010, 02:36 PM
Parent: #34

عزيزي هشام
تهانينا ومزيدا من النجاحات.

Post: #36
Title: Re: قونقليز
Author: خالد عبد الحليم سعيد
Date: 10-23-2010, 03:10 PM
Parent: #35

الاديب هشام ادم
مبروك اثمار القونقليزه
وامنياتى لك بنجاح يليه نجاح .








_________________________
وزى ما قالو الشباب الفوق ديل
شوف لينا قصه الهارد كوبى دى

Post: #37
Title: Re: قونقليز
Author: النذير حجازي
Date: 10-23-2010, 04:39 PM
Parent: #36

عزيزنا هشام آدم ألف ألف مبروك
والله فرحنالكم من الأعماق أنت و
العزيز طه جعفر

Post: #38
Title: Re: قونقليز
Author: أحمد أمين
Date: 10-23-2010, 04:56 PM
Parent: #37

مبروك الاخ هشام

لهذا الانجاز ونتمى لك التقدم والمزيد من الابداع

Post: #43
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:34 PM
Parent: #38

الأخ: أحمد أمين

ألف شكر يا عزيزي على التهنئة ، وأتمنى أن تعجبك الرواية حتى نهايتها

مودتي واحترامي

Post: #42
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:33 PM
Parent: #37

صديقي: النذير حجازي
تسلم يا ملك، وكلك ذوق ... سعيد بوجدك هنا
وأتمنى تعجبك الرواية وبالتأكيد أتشرف بمناصفة
الجائزة مع روائي مثل طه جعفر

مودتي

Post: #41
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:31 PM
Parent: #36

الأخ: خالد عبد الحميد سعيد
تحياتي لك

أشكرك يا عزيزي على التهنئة والمُباركة
وإن كنتَ في السعودية فأتمنى أن تصلك نسخة مطبوعة
في أقرب فرصة

تحياتي

Post: #40
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:29 PM
Parent: #35

العزيز: خالد عويس
لك التحية

فائق شكري وامتناني على تهنئتك الرقيقة وأمنياتك الطيبة

مودتي التي تعلم

Post: #39
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-23-2010, 08:22 PM
Parent: #34

الأخ: أسامة فضل الله
تحياتي

أشكرك يا عزيزي على التهنئة، وبالتأكيد يهمني أن تصل الرواية إلى كل شخص، ولكن أمر التوزيع ليس شأني ولكن شأن المركز الذي سوف يتكفل بطباعة ونشر الرواية على ما أعتقد، ولكنني أحاول نشر فصول من الرواية في المواقع الإلكترونية المختلفة حتى يتمكن أكبر قدر من الناس قراءتها، كما أنني أتعهد بتصوير عدد من النسخ وتوزيعها على الأصدقاء والذين أتوقع منهم -بدورهم- أن يوزعوها على أصدقائهم. ولأن تكلفة الطباعة والنسخ والتغليف بهذه الصورة قد تكون أكبر من إمكانياتي، فإنني أتمنى أن يعمد الأخوة إلى نسخ ما يُنشر هنا من فصول على ملف وورد ومن ثم طباعتها مباشرة

عموماً أتمنى أن تنال الرواية إعجاب الجميع

مودتي

Post: #44
Title: Re: قونقليز
Author: فتحي الصديق
Date: 10-23-2010, 09:09 PM
Parent: #39

عزيزنا هشام آدم ألف ألف مبروك
أبارك لك الفوز وأتمنى لك التوفيق في درب الكتابة .

Post: #45
Title: Re: قونقليز
Author: محمد قرشي عباس
Date: 10-23-2010, 09:45 PM
Parent: #44

مبارك يا هشام
تعرف أنا لحدي ما لا قيت محسن خالد بالجامعة كنت متبني وجهة نظر آينشتين في كون أن تذويق الكتابة و الآداب هي من مهام الإسكافيين لا أكثر !!
الحمد لله الذي قيض لي محسن ليفتنني من أحادية العلوم لرحاب الجمال في الرواية تحديدا ..
و ستظل ..
اللغة كائن من قصور التاريخ
و تفشي لإنحسار البيان
حتى لازمة الحديث
(محسن خالد)

مبروك مرة أخرى و لو الرواية في السودان ورينا نشتريها علشان ندعمك على الأقل و إلا فلا مشكل عندي في قراءتها عبر الشاشة على الإطلاق

Post: #46
Title: Re: قونقليز
Author: Safa Fagiri
Date: 10-24-2010, 04:52 AM
Parent: #45

هشام,.


مليون مبروك لهذا الإنجاز
ومذيد من التوفيق إن شاء الله.



محبتي,.

Post: #47
Title: Re: قونقليز
Author: فيصل محمد خليل
Date: 10-24-2010, 07:27 AM
Parent: #46

برافو

Post: #48
Title: Re: قونقليز
Author: المعتمد
Date: 10-24-2010, 07:35 AM
Parent: #47

عزيزي المبدع هشام
ان يفوز المرء بجائزة فهذا مصدر فخر واعزاز كبير
اما ان تقترن الجائزة باسم احد اهرامات الادب فى العالم
فهذلك والله شرف لا يدانيه شرف
اتمني ان اقرأ الرواية كاملة ثم اعود للتعليق عليها
لك الود
والف جائزة مضمخة بعبق الورد

Post: #49
Title: Re: قونقليز
Author: Tabaldina
Date: 10-24-2010, 07:59 AM
Parent: #48

..
.
Quote: شخصان سيقتنيان هذا الكتاب:
- شخص شدّه العنوان
- وشخص شدّته لوحة الغلاف

الإثنان معاً ..
ولا ادرى ان كان افضل مزج الاخضر بالاحمر بدلا عن الاسود ..
مبروك هذا الانتج الجديد ..
وعقبال مزيد من العطاء والجوائز ..

------

ارى لا لزوم لنشر كل القصة عبر النت
وترك مساحة للتشوق عند القارئ والتسويق عند الموزع..

Post: #55
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-24-2010, 09:17 AM
Parent: #49

تبلدينا يا حبيب

لك ملاحظات ثاقبة وذكية فعلاً ..
للأسف لن يستطيع الجميع الحصول على الرواية عند طبعها
وخصوصاً المقيمين خارج السودان، ولكن لا بأس من نشر
عدة فصول أخرى

تحياتي وتقديري

Post: #54
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-24-2010, 09:13 AM
Parent: #48

العزيز: المعتمد

إنه فعلاً لشرف كبير لي أن يقترن اسمي بقامة مثل الطيب صالح
وأتمنى أن أكون أهلاً لهذا الأمر

تحياتي لك

Post: #53
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-24-2010, 09:11 AM
Parent: #47

فيصل محمد خليل ... شكراً يا قريبي

Post: #52
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-24-2010, 09:09 AM
Parent: #46

الأستاذة: صفاء فقيري
تحياتي

أشكرك على التهنئة والأمنيات الطيبة
وأمنياتي للجميع بالنجاح والتوفيق

مودتي

Post: #51
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-24-2010, 09:04 AM
Parent: #45

الأخ العزيز: محمد قرشي عباس
تحياتي

إن لم ينجح مُحسن خالد، فما كان لأحد أن ينجح :)
تحياتي لك وأشكرك على التهنئة

مودتي التي تعلم

Post: #50
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-24-2010, 09:03 AM
Parent: #44

الأخ: فتحي الصديق
تحياتي

أشكركَ يا عزيزي على التهنئة وعلى الأمنيات الطيبة

مودتي

Post: #56
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-24-2010, 11:00 AM
Parent: #50

الفصل الثاني
chapter1.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

Post: #57
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-24-2010, 11:05 AM
Parent: #56

بفراسة المشتاق للخمر، والمتلهف عليها استطاع أن يستدل على بيت أكيج دينق في ظلام العيكورة الدامس، ولم يكن يصعب عليه ذلك، فملامح القرية لم تتغير كثيرًا. نفس البيوت الجالوصية الفقيرة، وغيطان البرسيم والباذنجان البائسة، وحظائر الحمير والمواشي المبنية من الطين والمسقوفة من خشب السدر الهش وسعف النخيل اليابس، ونفس الأرض الترابية يتمدد عليها خط طويل، متعرج ومنهوك، هو طريق مرور العربات الوحيد في القرية.

كانت حانة أكيج المتواضعة تقبع في هدوء على ضفة النيل الأزرق، أمام ساحة بائسة كانت فيما مضى مربضًا للخيول، ثم كمائنَ لتصنيع الطوب الأحمر، ومازالت مداميك الطوب منتشرة في المكان كمدائن من المكعبات الصغيرة أو شواهد قبور فرعونية، وضوء البدر شبه المكتمل يترك بقعًا من الضوء على المكان كوجه أفريقي في طقس وثني خاص؛ لتمنحه بذلك سريالية إضافية، استفاد منها في تخليق حالة من الشجن المتفرد.

استشعر مثالية اللحظة من رائحة الخمر التي تمكنت من اختراق أنفه والاستقرار في دماغه، وأعادته، برفق، إلى ذكريات أوشك على نسيانها؛ فراحت تمر في مخيلته الواحدة تلو الأخرى. "زمالة الخمر لا تنسى بسهولة!" هذا ما ردده الكثيرون، وما تذكره وهو يلج الحانة أخيرًا.

في أزمنة غابرة كان شرف الدين أحد مرتادي حانة أكيج المواظبين على الحضور كل ليلة، وكان لا ينسى أن يجلب معه في كل مرة هدية يعبر بها عن امتنانه العظيم بصناعتها المتقنة: ثياب، وملايات، وأواني منزلية مستخدمة، وفانوس زيتي، وملابس داخلية يسرقها من خزانة أخواته؛ حتى أنه قدم لها ذات ليلة ساعة يدوية من الجلد الطبيعي.

شهد معها مواسمها الخاصة، عندما كانت تحتفل بأعياد الميلاد المجيدة، ومعها تعرف، لأول مرة، أسرار رقصة الأرداف السحرية، وعندما قدمت أختها رابيكا من جوبا، كان قد شارك في احتفالهم الأسري المصغر، وحتى عندما وضعت رابيكا مولودها الأول، من زوج لم يره، كان حاضرًا، واقترح تسميته (قاسم)؛ ففعلوا رغم كونه اسمًا عربيًا. عايش معها كل لحظاتها الحزينة والسعيدة؛ فتجاوز بذلك، عندها، كونه زبونًا اعتياديًا؛ فكانت تخصه بالنخب الأول من الخمر التي تصنعه.

يذكر تلك الليلة التي أفرط فيها في الشراب، وسقط في إحدى حفر الكمائن، ولم يتمكن من العودة، كيف أنها حملته، بمساعدة بعض أنصاف السكارى الذين تواجدوا ليلتها، وهيأت له فراشًا للنوم، وأحاطته برعاية كاملة. أمضى معها أربع ليال متتالية، لم يحتج فيهن للخروج، ولم يتذكر مسئولياته المرتبطة بعالمه الخارجي، كما لم يشعر بأنه غريب عن المنزل، وتزامن ذلك مع عدد من المناسبات الأسرية الخاصة بها. ابتسم وهو يتذكر استقبال أسرته له، بعد اختفائه الغامض، كاستقبال العائد من الحرب، واكتشافه أنه فوّت احتفال العائلة بختان أحد أبناء أخته الكبرى، ولا يتذكر ختان مَن مِن أبنائها كان.

على عكس ما توقع، فقد استقبلته أكيج ببرود واعتيادية جعلته يلجأ فورًا إلى ركن قصي، ويجلس في هدوء منتظرًا أن تحضر له كأس الخمر. تغيرت خانة الخمر كثيرًا، والجدار الغربي الذي كان منهارًا انتصب ببعض الطوب الأحمر المتكسر، وثمة راكوبة جديدة، شيدت من أعواد الخيزران، مغطاة بقطعة من الخيش مثبتة بحجارة عملاقة، وغرفة جديدة مبنية من اللبن وروث البهائم والقش اليابس، يتدلى من داخلها قماش رث جُعل كباب لها، وسكان المنزل ازدادوا عددًا وحركة.

لاحظ وجود كـلـب غريب الأطوار يرقد في هدوء تام، ظنه ميتًا للوهلة الأولى، لولا حركة ذيله المتوترة. يرفع رأسه في لامبالاة واضحة عندما يستشعر حركة قريبة منه، ثم يعود ليدفن رأسه بين ساقيه من جديد. ملامحه بائسة؛ بل ومعبرة بصدق عن البؤس واللارغبة في أي شيء. شعره الخفيف كالثوب الرث الذي لا يستر جسدًا ولا عورة، وأنفه الرطب يحوم حوله رهط من الذباب؛ فلا يهشه عنه ولا يتذمر، وكأن الأمر لا يعنيه في شيء.

في الجهة الأخرى من الحانة، كان رجلان ضخما الجثة يضحكان بصوت عال، وهما يتبادلان الأحاديث الماجنة. كان صوتهما كصوت رعد مُأنسن، فتوقع أن تطردهما أكيج من أجل ذلك، ولكنها لم تفعل. في الحقيقة لم يكن في كلامهما ما يُضحك على الإطلاق، ولكنه راح يراقبهما بنصف اهتمام، ريثما تأتي له أكيج بالخمر، وابتسم معلقًا على تصرفاتهما الخرقاء: "هكذا يكون الأمر عندما يسكر الجهلاء والأغبياء!" كانت له فلسفته الخاصة في الشراب، فكان لا يرى للأغبياء والجهلاء حاجة لمعاقرة الخمر؛ إذ لا يرهقون عقولهم في أمر، لتستحق عليه المكافأة بالغياب الجزئي، فعقولهم، بالنسبة إليه، غائبة فعلًا.

جلس في تأدب حتى قدمت أكيج، وهي تحمل كأس الخمر، وهمست بصوتها الحاد، ولكنتها العربية الركيكة: "زوجي ذلك الجالس أمامك، فلا تتهوّر كما هي عادتك." عندها فطن لمعاملتها الفظة، وعاد يبتسم من جديد ويستشعر دفء المكان وحميميته، ولم يسألها عن زواجها، وكأنه توقع ذلك، أو ربما لم يكترث له. مازالت خمرها جيدة كما كانت قبل تسعة أعوام، فتنهد في سعادة وهو يتناول كأسه الثانية: "هذه ستكون لروح أمي وهي في صراعها مع الموت والصمت."

سمع صوتًا يألفه جيدًا، صوت كفحيح الأفاعي أو حشرجة محتضر؛ فعرفه على الفور. رجل يدعى النيل رِزْقَة؛ رث الثياب، شديد الاتساخ إلى الحد الذي يبدو فيه قديمًا وطاعنًا في السن. زبون قديم لهذه الحانة، وربما كان جزءًا منها، فهو يجده هنا دائمًا، وفي أوقات مختلفة. ورغم منظره الموحي بالبؤس والفقر؛ إلا أن حديثه، غالبًا، ما يشي بأصول أرستقراطية، وكثيرًا ما كان يهذي بلغة فرنسية رصينة عندما يبلغ مبلغه من السُكر، دون أن يتمكنَ أحد من فهم ما يقوله. ثمة علاقة غريبة بينه وبين أكيج، فرغم أنهما دائمي الشجار؛ إلا أنها لم تكن تطالبه بنقود نظير ما يشربه من خمر. وكعادته القديمة فإنه بدأ بذكر أشياء لم تحدث، ويتلفظ بكلمات ماجنة:
"أكيج؛ لماذا ترفضين العودة إليّ؟ هل تعرفين رجلًا له عضو ذكري أكبر مما أملك؟ طلاقنا في العام 1991 لم يكن شرعيًا، والمأذون الذي طلقنا كان مخمورًا، وبإمكاني إثبات ذلك. القانون يسمح لي بإرغامك على الرجوع، أحفظ القانون عن ظهر قلب. القانون هو لعبة الخارجين على القانون Law est un jeu pour hors la loi. لقد ذهبت إلى لندن لحضور مؤتمر عن الجفاف في أفريقيا، المرة القادمة سوف آخذك معي، فهنالك مؤتمر آخر عن الأيدز؛ هذا يناسبك ويهمك كثيرًا. تزوجيني؛ وأنا أضمن لك المتعة التي تبحثين عنها، وعلنا ننجب أطفالًا ملونين، هل نسيت ..."

فما كان من زوجها إلا أن نهض من مكانه، فاكتشف شرف الدين مدى ضخامته، وتوجه نحوه وحمله، وكأنه يحمل هرًا مريضًا، وألقى به خارج الحانة، ثم عاد وجلس في مكانه كما كان. ظل صوت النيل رزقة المبحوح يأتيه من الخارج إلى أن اختفى شيئًا فشيئًا، ولم يوقف ما حدث صراخ الرجلين الذي كان قد ارتفع أكثر من ذي قبل. كان شرف يتعجب من مقدرة أكيج دينق على إدارة الحانة بمن فيها من سكارى، وهي بالتأكيد مهمة شاقة، وليست يسيرة على أية حال: أن تتمكن امرأة من ترويض رجال غائبين عن الوعي، وأن تتحمل أمزجتهم المختلفة، وتحسن التعامل مع كل منها، بطريقة تجعلها تحافظ على قدر معقول من السلامة والأمن في منزلها، وبحيث تضمن عودتهم إليها مرة أخرى.

لم يمض وقت طويل حتى غادر زوج أكيج الضخم ذو الملامح الجامدة بعد أن خاطبها بلغة لم يفهمها، ولكنها لم تكن ودودة على أية حال؛ عندها تقدمت منه بحماسة بادية، وجلست إلى جواره وهي تهش عن وجهها دخان سجائره الكثيف كتنين أسطوري، وتبادلا أطراف الحديث:
- أراك اتجهتَ إلى التدخين؛ ما الأمر؟
- !!
- كان لابد أن أنتظر حتى يغادر جيمس، اعذرني.
- من جيمس هذا؟
- زوجي الذي رأيته. دعك من هذا؛ أين كنت طوال هذه السنوات أيها المجرم؟
- لقد استقر بي المقام في الخرطوم، وجئت صباح اليوم فقط.
- لا تقل لي إنك اشتقتَ إليّ أو إلى خمري!
- لا، ماتت أمي فجئت للعزاء.
- خبر سيء؛ ومتى ماتت؟
- لا أدري؛ ولكنها دفنت اليوم. لقد أثقلت صدرها بالهموم ولسانها بالنميمة. انتهى الأمر الآن على أية حال.
- كيف لا تعرف متى توفيت أمك؟
- اتصلوا بي صباح اليوم، وأخبروني بأنها توفيت، ونسيت أن أسألهم متى كان ذلك، ولكن لابد أنها توفيت بالأمس؛ فالأخبار السيئة لا تنتظر!

راحت تحدثه عن المستجدات على حياتها الشخصية: لماذا ومتى تزوجت من جيمس عامل البناء المتشائم على الدوام، وكيف باعت الأبقار التي قدمها كمهر لها، وأنفقت ثمنها في إقامة الجدار الغربي للمنزل، وفي بناء غرفتهما الجديدة، وأخبرته عن موت كـلـبها الشرس بلدغة من عقرب، واستيائها البالغ من الكـلـب الكسول الذي لا ينبح إلا إن وطأ أحدهم على ذيله المتوتر، وأشارت بحركة من رأسها إلى الرجلين اللذين كانا ما يزالان يصرخان:
- هل تظن أن هذين الرجلين قد شربا خمرًا جيدة بالفعل؟ إنما يتوهمان السُكر فقط؛ فمنذ وقت طويل لم أستطع أن أنتج تلك الخمر التي تعرف. غرارة البلح ارتفع سعرها كثيرًا، ولم يعد بمقدوري أن أشتري إلا ما يتبقى منه في نهاية الموسم.
- ولكنها مازالت جيدة!
- تعلم أنني لا أسقيكَ إلا من النخب الأول، أما البقية فإنني أسقيهم خمرًا مزيدة بالماء؛ وإلا فكيف يمكن أن أجني ربحًا مما أبيعه إن لم أفعل؟

استمع إلى حديثها باهتمام، وأبدى لها بعض الأسى بمقدار ما جعلها تصدق أنها أزاحت عبئًا ثقيلًا عن كاهلها بالفضفضة إليه، ولم يجد ما يختم به حديثه؛ إلا سؤالها عن اسم كـلـبها الجديد "بوبي؛ أليس اسمًا جميلًا؟"، هز رأسه موافقًا، ووضع كأس الخمر أرضًا، وأطفأ ما تبقى من السجائر بحذائه، وانصرف على الفور.

Post: #58
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-24-2010, 11:16 AM
Parent: #57

ربما هي شجاعة السكران أو جين جراءة متنحٍ، ذلك الذي دفعه إلى اعتراض طريق سيدة كانت تحمل صينية على رأسها، وهي تعبر أحد الميادين الهادئة، ترتدي ثوبًا لفته على جسدها بطريقة مهملة كانت أشد إغراءًا مما يجب، تمشي متهادية تراقص أردافها، كأنثى إوز بري في موسم التزاوج، وكان أكثر سعادة عندما رمت المصادفة المحضة بوقية عبد الباسط أمامه. جفلت أول الأمر عندما عرفت صوته، ثم جفلت أخرى عندما اشتمت رائحة الخمر تنبعث من فمه.

لم يكترث لتحذيراتها المتكررة حول إمكانية أن تراهما إحدى النساء العائدات أو المتوجهات إلى بيت العزاء؛ فمد يده يتلمس أردافها المكتنزة، ولم تحاول مقاومته خوف أن تسقط الأواني من على رأسها، وربما كانت سعيدة بذلك. أبرما اتفاقًا سريعًا بأن تأتيه إلى غرفته المتطرفة، بعد أن توصل أواني الطعام إلى النسوة المنتظرات.

وقية عبد الباسط واحدة من نساء قرية العيكورة اللواتي لم يتلقين تعليمًا، ولم يلتحقن بالمدارس على الإطلاق. والدها الشيخ عبد الباسط البدري، إمام الجامع اليتيم، ومأذون الأنكحة الشرعي في القرية الذي رفض تعليم الفتيات، ورآه من أعظم مفاسد الاستعمار التي جلبها معه ليفسد جبلّة أهالي السودان المتدينين بفطرتهم. حرص على تخصيص جزء كبير من خطب الجمعة لتبيان هذا الأمر، والتحذير من مخاطره المحدقة بالأمة، ولكنها كانت جميلة ومثيرة؛ وكأن الطبيعة أرادت أن تعاقبه على مخاوفه، وتجعله أسيرًا لها حتى وفاته.

عرفت وقية بأمر إغرائها، أول الأمر، من شرف الدين الذي أبدى لها ملاحظته منذ أن كانت في سن السادسة عشر، ولم يكف عن التغزل بمحاسنها كلما رآها، فأحبت منه ذلك، وكانت كلما رغبت في الإحساس بأنوثتها المطموسة في بيت أبيها، تأتي إلى بيت آل بابو الكبير متحججة بشأن اجتماعي ما.

في الغرفة المتطرفة كان شرف الدين يجلس على كرسي من خشب البامبو الفاخر الذي لم يُلق له أحد من أسرته بالًا، لأنهم كانوا يعتبرونه إحدى تحف الأرستقراطية الخرطومية التي يرسلها تأكيدًا على استقرار وضعه المادي هناك، وتعاملوا معه بوضاعة وسـخـريـة، حتى انتهى به الأمر إلى هذه الغرفة التي لا يأتيها أحد، حتى في المواسم الأكثر ازدحامًا، فقط من أجل إجلاله وإبداء الاحترام له كأخ مغترب، وكان سعيدًا ببلاهتهم التي أبدوها تجاه أشيائه الثمينة التي كان يرسلها من حين لآخر.

بحث في كل مكان في الغرفة عن كتاب يتشاغل به عن الانتظار الممل؛ فلم يجد غير كتب قديمة قرأها عشرات المرات من قبل حتى ملها: اللامنتمي لكولن ولسون، ورواية مائة عام من العزلة لغارسيا ماركيز، وتهافت التهافت لابن رشد الأندلسي، ومذكرات محكوم عليه بالإعدام لڤيكتور هيچو؛ لذا فإنه انصرف إلى ترديد بعض الأغنيات التراثية التي يحبها ويحفظها منذ مراحله الثانوية:
نايرات الوَجن
تومي متين لي يجن؟
ناموا الخلوق والليل جن
مُرسالي جا، وقال لي: جن
ماشيات عليّ يدرّجن
ميهن خُفاف يتبرجن
ريفات صُغار بنات عِجن
زيَّ الجواهر يلهَجن
من غير شمع هِن سرّجن
أخدن معاي ساعتين رَجن
شالن فؤادي وعرّجن

في لحظة لم يوقت لها جيدًا كان الباب الحديدي يطرق برقة مغرية، ثم ينفتح على مهل، ليجد أمامه وقية في كامل جمالها الأنثوي الذي اشتهاه. دخلت في حذر، وهي ترمي بنظرات خجلة وخائفة إلى الخارج، ثم أغلقت الباب جيدًا وراءها، وقبل أن يقدم على فعل شيء من تصرفاته المجنونة، وقفت قبالته، وقالت في غنج: "أمك توفيت الليلة!" فلم ينتبه لملاحظتها الأخلاقية، وقال، وهو يمرر يديه على جسدها في نهم: "أجل! وأخشى أن نموت كذلك ونحن لم نفعل شيئًا بعد." وبحركة مفاجئة لم يكن يتوقعها أبعدته عنها، وجلست غير بعيد.
- ألا تحترم هذه اللحظات؟
- ليس ذنبي أنك تبدين رائعة في ذات اليوم الذي دفنت فيه أمي!
- ألا تمنح نفسك فرصة أن تحزن عليها ولو قليلًا؟
- لقد منحتها الفرصة الكافية. أبديتُ حزني منذ أن وطأت أرض العيكورة، وحتى دفنت في سلام؛ فماذا بعد؟
- إنها أمك؟
- وهل تنكرتُ لها؟
- لم تكن تحبها إذن؟
- أحبها؟ لا أحد يحب أمه مثلي؛ ولكنها ماتت الآن.
- أفلا تبدي بعض الاحترام لموتها؟
- هي تستحق الاحترام فعلًا، ولكن موتها لا يستحق ذلك. لعلها سعيدة الآن بأنها ماتت قبل أن يتهمها أحدهم بقتل عمتي عديلة حرقًا. هل تحاولين التهرب مني؟
- لا؛ ولكنني حزينة من أجل أمك.
- إذن؛ هل بإمكانك أن تؤجلي حزنك حتى نفرغ من هذا؟ مازال في العمر متسع للحزن، ولكن اللحظات الجميلة تنقضي بسرعة.

بحركة فجائية مددها إلى جواره على السرير شبه عارية، وراح يُمرر لسانه الرطب على أجزاء من جسدها المتحفز، ولاحظ شوقها المخبئ إلى جنونه ورعونته، وأغمضت عينيها في استسلام. اكتشفَ أن الحزن يهبه طاقة جنسية شرسة، ولم ينس أن يذكرها بملاحظته المعتادة: "لو لم يكن اسمك وقية!"

Post: #59
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-24-2010, 11:17 AM
Parent: #58

كان على وشك أن يُلمح إلى حرارة الطقس، ليجد مخرجًا ينهي به تلك الليلة، عندما فاجأته بقولها: "الجو جميل هذه الليلة!" فاكتفى بكلمة واحدة "صحيح!" رقدا ممددين على الفراش، وهما ينظران إلى سقف الغرفة الذي لم يكن يظهر منه شيء، وتحدثا عن أشياء كثيرة. شيء واحد تكرر بكثرة في كلام وقية، ذلك الذي أبدت فيه سعادتها الغامرة بعودته بعد هذه السنوات، وهو ما تعمّد تجاهله في كل مرة.

راحت تخبره أنها لم تستطع التخلص من إحساسها الأنثوي الذي ارتبط به، وكيف أنها ظلت ترفض الخطاب الذين تقدموا لها الواحد تلو الآخر، ووفاة أبيها الذي وفر لها حجة طويلة الأمد؛ إذ لم يكن قد أنجب غير إناث، فتحججت برعاية أمها الضريرة وأخواتها الأربع. وبحركة مفاجئة، وضعت رأسها على صدره وسألته:
- لماذا يموت الناس؟
- على الأرجح؛ لأنهم لم يعد لديهم ما يقولونه أو يفعلونه!
- أتدري؛ عندما مات أبي حزنتُ كثيرًا، ولكن جزءًا مني شعر بالسعادة. ترى هل كنتُ آثمة؟
- لا أظن ذلك.
- ولماذا لا تظن ذلك؟
- لأن جزءًا مني يشعر بالسعادة لموت أمي كذلك.
- حقًا؟
- أجل! الموت شيء مخيف لنا، ولكنه شيء مريح للأموات، أفلا نسعد لراحتهم؟
- معك حق.

لم يعرف ما إذا قالت ذلك لأنها أدركت حقيقة الأمر فعلًا، أم أنها لم ترغب في مواصلة الحديث حول الموت، ولم يجتهد كثيرًا للتأكد من ذلك. اكتشف، وقتها، أنه لا يحبذ ممارسة الجنس في الأجواء الحارة، فقط أغمض عينيه مكتفيًا بالنشوة التي اعترته عندما بدأت تدغدغ شعر صدره المبتل بالعرق. كانت رائحة القونقليز تساور أنفه بين الحين والآخر؛ فيتذكر صراع أمه المحتدم مع الموت، ويشعر بالشفقة تجاهها. عرف أنه سوف يفتقدها كثيرًا؛ لاسيما عندما يُصاب بالملل كما هو الآن.

Post: #61
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-24-2010, 11:34 AM
Parent: #59

نعمات بابو الأخت الوسطى الأكثر شبهًا بأمها، والأقل جمالًا بين بقية أخواتها، كانت أكثرهن نشاطًا في الشؤون المنزلية، ونادرة تلك اللحظات التي يمكن رصدها وهي في حالة استرخاء أو سكون، لا تمل العمل أبدًا، وهي دائمة التجديد، فتقوم بتغيير أمكنة أثاثات المنزل بين الفترة والأخرى؛ حتى وإن اضطرت في سبيل ذلك على إرغام كل من في البيت على العمل.

تحرص على تغيير الملايات والستائر بانتظام؛ لاسيما في المواسم والمناسبات الخاصة، حتى في أحلك المواقف تجدها تهتم بأدق التفاصيل. يصفها شرف الدين بأنها منظمة حد الملل، كما أنها لم تكن تسمح لأبنائها بأن يخرجوا إلى الضيوف غير متعطرين أو مهندمي الثياب. ربما رأت في ذلك وسيلة تعرض فيها الجانب الجمالي الذي تفتقده في نفسها، كانت تتعامل مع أبنائها وكأنهم نماذج مصغرة عنها، فتلزمهم بأن يكونوا دائمًا في أروع صورة، وكان ذلك يرهقهم كثيرًا.

"الانتماء إلى عالم فيه نعمات يعني ألا تطمئن إلى شيء مطلقًا" قالها في سره، وهو ينظر إليها، وفي عينيه ترتسم علامات إشفاق قديم. دائمًا ما كان يردد متندرًا: "من الجيد أنها لم تعش في عصر الفراعنة؛ إذن لألزمتهم بتغيير مكان الأهرامات وأبو الهول في كل مناسبة!" ولأن الطبيعة تميل دائمًا إلى الاعتدال والتوازن؛ فإن زوجها الشفيع حاج مرضي كان على النقيض منها تمامًا، وما أكثر ما تندرت عائلة بابو بهذه المفارقة العجيبة.

أما عواطف، المصابة بتساقط الشعر، فقد حملت من اسمها الكثير؛ إذ كانت عاطفية وحالمة. ظلت تحاول زرع بذور الرومانسية في صدر زوجها عبد المنعم شكرالله؛ فلا تحصد منه غير رعونة الطباع، وجلافة المواقف. أشيع في العائلة أن جلافة عبد المنعم كانت السبب وراء إصابتها بالاكتئاب والإحباط، وأن ذلك تسبب في تساقط شعرها بغزارة، ولكنها ورغم كل ذلك لم تيأس أبدًا من محاولاتها المستميتة في سبيل ترويض زوجها؛ فتسعى للاحتفال بكل مناسبة، مهمة كانت أم غير مهمة: كذكرى زواجهما، وذكرى عودتهما من شهر العسل، وأول مرة ركبا فيها الخيل سويًا، وأول نبتة أزهرت في المنزل بعد زواجهما، وأول حُلي اشتراه لها، وأول يوم تقابلا فيه، وهو يزجرها بجفاء: "أيّ ذكرى؟ لقد تقابلنا على ظهر معدّية بائسة وقذرة ذات ضجيج عال في ظهيرة قائظة، وروائح العرق النتنة تفوح من آباط الناس والبهائم، ولا أتذكر ذلك اليوم إلا ويتجدد غليان الدماء في نافوخي!"

عمّ سكون لم يكن يخترقه إلا بقايا بكاء ابن نعمات التي راحت تبدل له ملابسه المبتلة بأخرى جديدة، وما إن انتهت حتى تكلّم شرف الدين: "سوف أغادر غدًا صباحًا إلى الخرطوم؛ فمن منكن سوف تتطوع بإيقاظي؟" لم يقع كلامه موقع الرضا والقبول من الجميع؛ فراحوا يلومونه على قراره المتعجل بالمغادرة: "كيف تقضي يومًا واحدًا فقط في عزاء أمك؟ ماذا سيقول الناس عنا؟ وماذا عن الذين سيأتون غدًا من رفاعة والكاملين والهلالية وسوبا لتعزيتك؟ ماذا سنقول لهم؟ ألا تدعك من جنونك هذا؟"

لطالما أهمل مثل هذه الأمور، ولم يلق لها بالًا، ويتعجب حرصهم البالغ على إرضاء الآخرين. "ليس من واجبي أن أهبهم الإحساس بأداء الواجب والرضا عن أنفسهم. إن كانوا قادمين من أجل أمي؛ فعليهم أن يتوجهوا إلى قبرها حيث ترقد، ويقرؤوا الفاتحة على روحها هناك؛ فلا شأن لي بهم." قذف جملته في هستيريا غاضبة على وجه الجميع، وأقفل راجعًا إلى غرفته حيث كان.

في طريقه إلى الغرفة؛ لم يتوقف عن كيل السباب واللعنات للساعة التي قرر فيها المجيء إلى العيكورة، وازدادت حدة غضبه عندما أحس بتلاشي مفعول الخمر في رأسه. ساءه إصرارهم على جذبه نحو أوهامهم الفارغة، واهتماماتهم السخيفة والمملة، ومحاصرتهم له بتصوراتهم البدائية عن الناس والأشياء: "هل يتوجب عليّ أن أبكي كالأطفال ليعلم الجميع مقدار حبي لأمي؟ هل يجب أن يعرف الآخرون ما إذا كنتُ أحبها أصلًا أم لا؟ هل يجب أن أُظهر ذلك حقًا؟ لماذا يُصرون على تجسيد الحزن في شكل حركات وإيماءات عقيمة الجدوى والفائدة؟ لماذا يجب أن تتوقف حياتنا لثلاثة أيام بالتحديد؟ بل لماذا يجب أن تتوقف حياة الأحياء هنا؛ بينما تبدأ حياة الأموات هناك؟ بأيّ ميزان يزن هؤلاء الأمور؟"

دخل الغرفة، ومارد ما يتخلق في صدره غيظًا وحنقًا، لم يُدر مفتاح الإنارة وراءه، وتوغل في جسد الغرفة المظلمة كدودة أسكارس عمياء تتخبط في طريقها داخل أحشاء أحدهم. تعثر عشرات المرات قبل أن يقف أخيرًا أمام النافذة المطلة على الشارع، أزاح ستارها الخفيف؛ فتسلل ضوء البدر شبه المكتمل إلى وجهه الغاضب، وراحت نسمات الهواء الباردة المعبأة بالرطوبة تلعب في ملامحه الحانقة، كأنثى لعوب تحاول تهدئته دون جدوى، حتى أنفاس البرنجي التي دخنها بشراهة متسرعة لم تجد نفعًا في كظم غيظه.

القرية تقبع في هدوء مخيف داخل كرش الكون المظلم، ونباح الكلاب البعيدة تتيه في هدوء متثاقل داخل النسق الزئبقي للكون، وظلال أشجار الهجليلج الرمادية تتقافز كالأشباح في كل مكان، وتمر أمام ناظريه دون أن يلقي لها بالًا. نظر بعيدًا إلى نقطة ما في سماء العيكورة المليئة بالنجوم والخرافات. خطرت في باله عشرات الذكريات التي لا طعم لها، ولا رائحة. بطريقة غير مبررة مرت بذهنه صورة لأطفال صغار يلعبون ألعابًا شعبية حميمة. كانت أصواتهم تأتيه وكأنها خلف النافذة تمامًا، فابتسم بهدوء وهو يراقب ضوء القمر الخافت الخجول، وأخذ يُردد بصوت خافت: "يا قَمْرَا .. أقِلْبي السَّنْسَنَ الحَمْرَا .. شُوْفِي لِيه مَاْ جَا" شعر بأنه يشاركهم اللعب بطريقة تخاطرية، وأحس بسعادة غامرة لذلك، ثم وبعد دقائق، وقف على أطراف أصابعه، ورفع ذراعيه بأقصى ما يستطيع، وكأنه يحاول الطيران؛ تمطى قليلًا ثم نام.

نهاية الفصل الثاني



+

Post: #60
Title: Re: قونقليز
Author: عثمان رضوان
Date: 10-24-2010, 11:18 AM
Parent: #50



تهانينا القلبية

ومزيداً من الإبداع والنجاح

Post: #62
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-24-2010, 11:36 AM
Parent: #60

الأخ: عثمان رضوان
شكرًا لك يا عزيزي على التهنئة .. وأمنياتي للجميع بالنجاح والتوفيق

مودتي

Post: #63
Title: Re: قونقليز
Author: محمد سنى دفع الله
Date: 10-24-2010, 11:56 AM
Parent: #62

اخوي هشام
الف مبرووك
واسعدني الغلاف جدا
الكتابة والاهتمام بالطباعة وشكلها والغلاف وتصميمه مسألة مهمة جدا جدا
والجائزة تستاهلها كل الامنيات لك بالنجاح والتوفيق واعوامك سعادة
اهديك زهرة القونقليس
محبتي ابدية

وللقائمين على امر الجائزة واخوانك طه جعفر ويوسف احمد زهوري

Post: #65
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-24-2010, 12:18 PM
Parent: #63

الأستاذ: محمد سني دفع الله
تحياتي

أشكرك يا أستاذ على هذه المُداخلة الجميلة، والإهداء الأجمل
دمتَ بألف خير وصحة .. وأمنياتي لك بالنجاح الدائم

مودتي

Post: #64
Title: Re: قونقليز
Author: مرتضي عبد الجليل
Date: 10-24-2010, 11:58 AM
Parent: #62

شكرا علي الإتصال
ودوما للامام يا ملك

Post: #66
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-24-2010, 12:18 PM
Parent: #64

شكراً ليك تاني أخوي مرتضى

Post: #67
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-25-2010, 09:39 AM
Parent: #66

الفصل الثالث
chapter3.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

Post: #68
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-25-2010, 09:42 AM
Parent: #67

قد تسقط حصاة صغيرة قبل أن يحدث انهيار صخري مروّع، سيكون ذلك، إذن، علامة تحذير لا يُستهان بها. لابد أن نعطي كل لحظة حقها من التأمل، وأن نعيشها كما لو كانت آخر اللحظات. الأشياء مستقلة عن بعضها، ومترابطة في ذات الوقت؛ تمامًا كخرزات السبحة، حيث تصلح كل خرزة منها أن تكون نقطة نهاية أو نقطة بداية. نحن فقط بغرورنا نميل إلى افتراض بدايات الأشياء ونهاياتها الحتمية. لا شيء حتمي على الإطلاق؛ ثمة فوضى تتحكم في كل شيء، والنظام الذي نتوهمه هو أصل الفوضى ودلالته الصورية. الأشياء تحمل خلاصاتها داخلها، نحن الذين نحب أن نراها مُعقدة حتى نقنع أنفسنا بأننا ننجح في حلها؛ هي محلولة فعلًا!

قبل سنوات لم يكن لشرف الدين رغبة في فعل شيء، ولا يتذكر أنه حلم بشيء قط. كل ما أراده هو أن يجد أنثى بسيطة، يضع رأسه بين ثدييها، ويحكي لها عن تفاهاته ونزواته واختلافه عن الآخرين، وعندما أمكنه فعل الشيء ذاته مع حسن البلولة فإنه لم يفكر في أيّ أنثى. الحقيقة أنه لم ير نفسه مُحبًا للإناث بصورة عامة، إلا فيما يرتبط برغباته الوحشية الطارئة، كان يراهن ككائنات غريبة ومخادعة، ويقول دائمًا: "المرأة لا تصدق أبدًا حتى مع نفسها، اللحظة الوحيدة التي تكون فيها صادقة هي عندما تغضب؛ عندها تقول كل الحقيقة." ولم ير في فتيات القرية من تحرك فيه شيئًا آخر غير شهوته، كن كلهن بالنسبة إليه كائنات منزلية أليفة، يمكن الاستغناء عنها في أية لحظة.

كان شرف يجالس حسن البلولة كثيرًا؛ لاسيما في تلك اللحظات التي اختصها لنفسه، ولم يعرف قيمة الصمت، إلا عندما خانته الثرثرة. تحدث معه عن نكساته الكبرى، وعن عزلته التي كانت تضيق عليه حتى أخذته إلى الداخل: قريبًا من نفسه وبعيدًا عن الآخرين. أسرّ إليه عن فساد الذات عندما تختلط بالآخر، وكيف أن الآخر دائمًا ما يكون المتسبب في فقدان صفائها الفطري.

نظر إلى الدنيا بعيني محتضر؛ فوجدها تقبع في هدوء يُقلل من قيمتها، وتضيق لتصبح بحجم إنسان! "حتمًا ستكون صادقًا عندما تخلو مع نفسك، وفي حال وجود شخص آخر؛ فعلى الأرجح أنت مُجامل، ولكن عندما تكون في جماعة؛ فأنت كاذب لا محالة." قالها ولم يُخف استياءه من النتيجة النهائية المترتبة على ذلك.

Post: #69
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-25-2010, 09:51 AM
Parent: #68

حسن البلولة، الشاب ذو العينين المذهولتين دومًا، والشَعر الهجيني الناعم، والجسد الأسمر الناحل، من القلائل الذين ذهبوا إلى العاصمة، وعاد بعد سنتين فقط من التحاقه بجامعة السودان، ولا يعلم أحد من سكان العيكورة لماذا عاد، ولكنه لم يعد من العاصمة كما ذهب إليها. حياته بعد عودته من الخرطوم كانت محاطة بسرية غامضة، وحيكت حوله الشائعات والأكاذيب، ولم يستطع أحد أن يجزم بشيء مما يقال.

الشائعات كائنات ذاتية التكاثر، يكفي فقط أن تخرج الشائعة من فم هازل؛ حتى تكون لها حياتها الخاصة ونفوذها البشع. للشائعات قداسة كقداسة الحقيقة تمامًا؛ بيد أنها تبدو أكثر هيلمانًا وسطوة؛ نظرًا لطبيعتها الأسطورية. الشائعات، كالصعقة الكهربائية، إذا أصابت أحدهم، فسوف تنتقل إلى الآخر بمجرد ملامسته، إنها كأساور الشرطة التي تضيق على المعصم كلما حاول المسجون فكها أو التخلص منها.

استشعر حسن البلولة شيئًا من الفخر أو المسئولية عندما اكتشف خصوصيته لدى شرف الدين، وهو الذي ينبذه الآخرون، ولا يحبذون الاختلاط به. لم يأبه كثيرًا لمعرفة السبب، ولكنه كان سعيدًا برفقته؛ رغم كل شيء. لم يكونا يلتقيان إلا في كمائن الطوب الأحمر أو حقول القصب. أحب الدهشة التي يخلقها له في كل مرة يتحدث فيها عن العيكورة وأهلها، وعن الإنسان والأشياء، وعن الله والكون.

كل منهما وجد في الآخر شيئًا اكتشف أنه كان بحاجة إليه: هو لم يكن يعرف أنه بحاجة إلى سماع الثرثرات، وشرف الدين نفسه لم يعرف أنه يحتاج إلى أحد يسمعه. اكتشفا ذلك بمحض المصادفة، ولم يتوقفا كثيرًا ليتساءلا عن سر التقائهما الآن فقط؛ رغم أنهما من قرية واحدة، ويعرفان بعضهما منذ زمن طويل. ابتسم شرف الدين لصديقه البلولة مرة وقال:

"الآخر هو نحن يا البلولة! ولكنه الجانب السيئ منا. قد تعيش سعيدًا حتى تلك اللحظة التي تجد فيها فتاة تعجبك؛ فتحبها، ومنذ تلك اللحظة، بالتحديد، تبدأ التعاسة في حياتك. ماذا سيحدث لو لم تقابل تلك الفتاة؟ هل حددتْ مسار حياتك القادمة بطريقة ما؟ حتى وإن لم تكن تعي ذلك؛ فإنها تفعل ولاشك!

تكون جالسًا؛ تقرأ في كتاب لا يُحرك فيك إلا دماغك، فيأتيك أحدهم، ويتحدث عن أشياء خرقاء لا تحب ولا تهتم لسماعها، فإن كنتَ صادقًا مع نفسك فسوف تلطمه أو تصرخ في وجهه؛ وإلا فإنك سوف تضطر لرسم ابتسامة مجامِلة، لا معنى لها سوى أنه نجح في إخراجك من عالمك الخاص، وجرّك إلى عالمه.

تشعر بالضيق وعدم الرغبة في الكلام، هذا يحدث لنا كثيرًا؛ بل ونحتاج إليه في أوقات كثيرة. تنصرف، عندها، إلى النظر في ذاتك وفي أشيائك الخاصة، فيمر متطفل ما، ويلقي عليك التحية؛ فتجد نفسك مُجبرًا على الخروج من عزلتك لترد عليه التحية.

الخروج من العالم الخاص سهل، يكفي فقط إلقاء التحية لجعله يحدث، ولكن الدخول إليه ليس بالسهولة التي تتصوّر. وبينما تجاهد أنت في إصلاح ما أتلفه، يكون هو سعيدًا لأنه نال حسنة بأقل مجهود! لو لم يكن هنالك آخر لما وُجدت الحركة. الآخرون هم من يجعلون الأحداث تحدث، وجُلُّ هذه الأحداث لا تكون برغبتنا، ولا حتى برغبتهم."

هز البلولة رأسه بشدة، مؤيدًا كلام شرف الدين، ورسم ابتسامة عنت أنه مقتنع؛ بل ومندهش من بساطة الفكرة التي غابت عنه، ولم يكتشفها إلا توًا. هذا ما كان يبقيه على تواصل دائم معه؛ رغم أنه غالبًا ما يفاجئه بأفكار غامضة ومخيفة:
- هل تعرف الفرق بين الحب والجنس والزواج؟
- !!
- هل تعرف الفرق بين الله والخير والشر؟
- !!
- الحقيقة لا يوجد بينهم فرق على الإطلاق: (الحب) تعبير لغوي عن علاقة ما، تربط بين الجنس والزواج، تمامًا كما أن (الله) تعبير لغوي عن علاقة ما، تربط بين الخير والشر. لكي تمارس الجنس يجب أن تتزوّج، وعندما تتزوّج تمارس الجنس مع زوجتك؛ هذا هو الحب! الزواج مجرّد فكرة جهنمية للربط بين الحب والجنس حتى يبدو الأمر في مظهره الإنساني البراق؛ ولهذا فإن من يمارس الجنس دون زواج يُسمى مجرمًا، لأنه لا يمكن أن تمارس الجنس دون حب، ولأنه لا يُعقل أن تحب كل من تمارس معها الجنس، ووراء صراع الخير والشر تكمن الفكرة الجهنمية لله!

منذ أن عاد البلولة من الخرطوم، عاش حالة من التيه. جاب القرية طولًا وعرضًا، هام على وجهه كالممسوس، قطع ظهر النيل الأزرق إلى الضفة الأخرى، ثم عاد، ثم غاب مرة أخرى، وافتقده الناس. قال بعضهم أنه توجه إلى قرية الشيخ طه، وقال بعضهم أنه ذهب إلى الحصاحيصا، بينما خمّن آخرون أن يكون قد عاد إلى الخرطوم، واختلفوا حول ذلك إلى أن وجدوه، أخيرًا، نائمًا في إحدى جداول حقل القصب. مشى على رمضاء العيكورة، وقطع ميادينها وحقولها حتى تشققت قدماه.

بعض نساء العيكورة استخدمنه في مشاريعهن الخاصة والسرية، ورأوا أنه لا خوف منه على الإطلاق، فكان يدخل عليهن بلا استئذان، ويشهد جلسات نزع شعر الجسم بالشمع العسلي، والتي تتم في جلسات جماعية، تتناقل فيه النساء النميمة والأخبار الماجنة، ويجهز حفر الدخان للفتيات اللواتي على وشك الزواج، ويحضر تدريبات رقيص العروس السرية للمساعدة في أي شيء قد تحتاج إليه النساء أو العروس بصفة شخصية، ينقل أغصان القش اليابس التي تستخدم في المطابخ التقليدية، ويحلب الأغنام، ويساعد في تلقيحها الإتان بالحمير، وكذلك الأغنام بالتيوس. يفعل كل شيء، وأي شيء، طالما أن رغبة الهروب لا تراوده.

حاولوا مساعدته على الخروج من وحدته، ذهبوا به إلى قبة الشيخ أبو صباح في الهلالية، وقرءوا عليه التعاويذ، وصنعوا له الأحجبة والتمائم؛ فلم تفلح. ثم ذهبوا به إلى قبة الشيخ أب شرا، وطافوا به على شيوخ أبو حراز. عفروا رأسه بتراب القباب، وغسلوا جسده الأسمر الناحل بالزيوت المباركة، غير أن محاولاتهم باءت بالفشل؛ بل زادت الأمر سوءًا. ذكروا أن جنية شبقة لعقت فمه وهو نائم، وأن إحداهن تعلقت بعضوه الذكري كحشرة طفيلية ملعونة، فلم يستطع الخلاص منها، ولكن كل ذلك كان محض تكهنات لم يكن بوسع أحدهم الجزم به على الإطلاق.

Post: #70
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-25-2010, 09:52 AM
Parent: #69

كان خبرًا اعتياديًا أن ينجح أحدهم، وينتقل للدراسة الجامعية في الخرطوم، ربما لأن التعليم نفسه لم يكن ذا شأن عظيم في العيكورة. يتنافس أهالي القرية على الزراعة، وحديثها يغلب على الألسنة في المجالس، ومؤخرًا كانت التجارة أهم من أيّ شأن آخر، حتى غدت غيطان البرسيم والباذنجان مهجورة تنعق فيها الغربان، وتتكاثر فيها الثعابين غير السامة. قلة من النساء فقط من بقين على مهنة الزراعة، في حين انصرف جُل الرجال إلى التجارة والربح السريع.

يتكلم أهالي العيكورة بكثير من الفخر والغيرة عن مختار عوض الجِيد، وما جناه من أرباح طائلة من بيع الفول والسعوط، وتوسعه في التجارة، والمحال التجارية التي يملكها في الخرطوم، وكيف أنه مد يده لأبناء عمومته، ونقلهم معه إلى هناك، بينما تعتريهم الشفقة كلما جاء ذكر حسن البلولة، وما جرى له. حاول الجميع أن يعرفوا شيئًا عن دراسته، ولكنهم أخفقوا؛ رغم أنه كرر لهم ذلك أكثر من مرة، واقتنعوا في نهاية الأمر أنها دراسة ليست ذات جدوى:
- ماذا تعني كلية الفنون الجميلة يا البلولة؟
- إنها كلية تدرّس الفن التشكيلي.
- يعني؛ ماذا ستكون في النهاية بعدما تتخرّج؟
- لم أحدد بعد، ربما أكون فنانًا تشكيليًا أو نحاتًا، يجب أن أصقل موهبتي بالدراسة أولًا، ثم أحدد ما يجب أن أكون عليه.
- نحاتًا؟ هل هذا يحتاج إلى دراسة؟ ود ضيف الله النقاش لم يُكمل تعليمه الابتدائي، ورغم ذلك فهو أشهر نقاش في المنطقة!

كانوا مقتنعين بأن التعليم قد أفسد عقله، وازدادت قناعتهم تلك عندما عاد إليهم كالمعتوه، يهيم على وجهه في ميادين القرية، وحقولها المهجورة، يجر وراءه عصىً من الخيزران. قالوا: "ها قد أصبح فنانًا تشكيليًا كما أراد!"

كان على وشك أن يدس كرة السعوط داخل فمه، عندما سمع جلبة قادمة نحوه، فعرف أن مظاهرةً ما تتخلّق داخل الجامعة. انتقل من مكانه ذلك إلى ركن قصي، وتناول الكرة وقذفها في فمه، وراح يعالجها بلسانه حتى استقرت أخيرًا في مكان ما من لثته الداخلية. لم تكد النشوة تبلغ مداها حتى تصاعدت الجلبة مرة أخرى، أعلى من ذي قبل. ثم رأى جموع الطلبة، وهي تركض بلا هدى وبلا هوادة كقطيع من الجواميس البرية التي فقدت صوابها، ثم سمع صوت فرقعات مُجلجلة، تبعتها سُحب دخانية بيضاء أصابت عينيه وجهازه التنفسي.

على الفور مد يده واقتطف غصنًا من شجرة نيم قريبة، وضع أوراقها على أنفه وركض مع الراكضين. سمع من خلفه نداءات رجال الأمن: "حاصروهم، اذهبوا من الجهة الأخرى." ووراء تلك النداءات الهستيرية ارتفعت أصوات سيارات الشرطة، وطقطقة الأجهزة اللاسلكية، وصياح الفتيات، وأصوات أخرى لم يتعرف عليها جيدًا، غير أنها كانت متناغمة تمامًا مع كل ما يجري.

فجأة؛ وجد نفسه محاصرًا بين عدد من رجال الأمن. دفعته غريزته إلى المقاومة، ولكنهم انهالوا عليه ضربًا بالعصي، حتى خارت قواه، وسقطت من فمه كرة السعوط مختلطة بلعابه والدماء التي بدأت تسيل من فمه. حملوه من طرف قميصه، وقذفوا به داخل إحدى السيارات المكشوفة، وأجبروه على التمدد.

اكتظت العربة بعشرات الطلاب المعتقلين الذين تكدسوا فوق بعضهم كشحنة من القرديس الحيّ، رفع رأسه محاولًا توضيح الالتباس، فعاجلوه بضربات سريعة وموجعة من عصيّهم الغليظة؛ فاستسلم على الفور لمصيره.

Post: #71
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-25-2010, 09:54 AM
Parent: #70

في مكان آخر؛ بدأت سيارات الشرطة المحملة بالمعتقلين تتوافد خلف بعضها أمام مبنى أخفت أغصان الجميز المتشابكة الكثير من معالمه. فتحت أبواب السيارات المكشوفة، وأجبر من فيها على النزول إما ضربًا بالعصي أو ركلًا بالأقدام، وسيقوا إلى داخل المبنى مطأطئي الرؤوس، وأخذ الجندي الذي يقف على البوابة يختم ظهر كل داخل منهم بضربة من سوطه الذي من جلد البقر.

احتشدوا في فناء المبنى المغطى بالحشائش القصيرة، والعشب الرطب، ولم يُسمح لهم بالجلوس. سور المبنى عال ومنته بفوانيس إضاءة من تلك التي خلفها الاستعمار البريطاني وراءه، وتناثرت القطط على السور، وكأنها جنود مرابطة تحرس المكان. كانت بعض القطط تنظر إلى ما يجري بفضول مشاغب، فيما انشغل بعضها الآخر بتنظيف نفسها، وكأنها معتادة على ذلك، بل وتعلم ما سيجري لاحقًا.

بصورة مفاجئة خرج أحد الجنود من داخل المبنى حاملًا حزامه العسكري الغليظ، وبدأ يضرب الطلاب ويُكرر: "أرضًا .. أرضًا" حتى أولئك الذين استفادوا مما جرى لمن سبقهم، وسارعوا بالجلوس، لم يسلموا من حزامه المجنون. وقف غير بعيد، وهو يمرر بصره الحاد على الجميع، ثم زفر زفرة حانقة، وعاد إلى داخل المبنى.

أمضى الطلاب ساعتين في ذلك المكان المبتل، قبل أن يخرج عليهم رجل لم تبد عليه أي ملامح عسكرية قاسية؛ بل بدا مرحًا خفيف الظل وصاحب نكتة. كان مهندمًا، معتنيًا بحلاقة ذقنه، يرتدي ملابس أنيقة اجتهد في تناسق ألوانها. وقف أمام طابور الطلاب، في المنتصف تمامًا، وبدأ حديثه، فكان صوته أكثر رقة من مظهره:
"دعوني أولًا أعرفكم بنفسي: أنا عدو الفوضى والشغب الأول، لا أكره شيئًا في حياتي كلها كما أكره الفوضى والهرجلة. كانت أمي ترضعني حليبها في مواعيد منتظمة ومحددة، ومنذ ذلك الوقت وأنا أحب النظام والانضباط. بالتأكيد تعلمون لماذا أنتم هنا، أنتم هنا لأنكم فوضويون ومثيرون للشغب، وفي هذا المكان سوف تتعلمون كيف تحترمون النظام وتحبونه، ولن تخرجوا من هنا قبل أن يحدث ذلك، كونوا على ثقة."

نهض حسن البلولة بسذاجة القروي، وقد توسّم خيرًا في هذا الشخص المُحب للنظام. خمّن أنه إن عرف قصته فقد يأمر بخروجه في الحال، لأن وجوده مخالف للنظام: "أنا لم أفعل شيئًا سيدي، كل ما فعلته أنني كنت جالسًا بمفردي، أكوّر السعوط، وحتى عندما عرفت بأمر المظاهرة غيّرت موقعي على الفور، ولكن الأمر حدث بسرعة، ولم أستطع فعل شيء، وهأنذا أمامك الآن. صدقني أنا لم أفعل شيئًا."

حدق الرجل في وجه حسن البلولة، وكأنه يريد أن يرسم له صورة في ذهنه، ثم طفت ابتسامة باهتة على محياه، وأشار إليه بيده أن يتبعه، وهو يقول: "يبدو أننا ظفرنا بأول محب للنظام!"

Post: #72
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-25-2010, 09:56 AM
Parent: #71

قاده معه إلى داخل المبنى، فيما أمر الجنود باقتياد البقية إلى مكان آخر، سمّاه "لوكاندة". في إحدى المكاتب كان ثمة رجال عراة الصدر يقفون دون حراك، وأجسامهم العضلية توحي بالغضب والشراسة. جلس على كرسيه خلف المكتب، وأشار إلى البلولة بالجلوس قبالته؛ ففعل.

- ما اسمك؟
- ... حسن البلولة
- قلتَ إنك كنت تكوّر السعوط إذن يا البلولة؟
- أجل سيدي، هذا كل ما كنتُ أفعله عندما اندلعت المظاهرة.
- ألا تعلم أن السعوط مضر بالصحة؟ وعندما تنتهي منه أين تبصقه؟ على الأرض؟
- أنا ...
- هذا تصرّف غير مسئول، وهو ضد النظام. هل تحب النظام؟
- بالتأكيد أحـ...

فاجأته صفعة قوية على قفاه، كانت كأنها صفعة من إله غاضب أو كائن ماورائي مُهتاج. وجد نفسه يهوي على المكتب الذي أمامه، ثم يرتد في حركة ميكانيكية سريعة؛ ليجد اليد الخرافية بانتظاره مرة أخرى. حاول أن ينظر وراءه ليعرف مصدر الصفعات، لكنه لم يستطع. ثم توقف الصفع فجأة كما بدأ.
- رجالي يقولون إنهم أمسكوا بك وأنتَ تحرّض الطلاب في أحد أركان النقاش على الخروج في المظاهرة.
- أنا؟ أنا لستُ طـ...

عاودت اليد الماورائية صفعه، وهذه المرة كانت الصفعة تغطي جزءًا من أذنه، حتى سمع طنينًا مزعجًا ومتواصلًا، أفقده السمع لبرهة. كان صوت الرجل المهندم من وراء المكتب يأتيه من مكان سحيق، ثم أخذ الصوت يزداد وضوحًا شيئًا فشيئًا.
- هل أنتَ شيوعي يا البلولة؟
- شيوعي؟ أبدًا
- إذن فأنتَ مثليّ؟
- ماذا؟
- اعترف .. أيهما أنت؟
- لستُ مثليًا سيدي.
- إذن فأنت شيوعي!
- ولستُ شيوعيًا كذلك.
- للأسف .. لا تريد أن تبدي ولو قليلًا من التعاون. لا بأس سنعرف حاليًا ما إذا كنتَ هذا أم ذاك.

أشار بعينيه إلى المخلوقات الماورائية التي كانت تقف خلفه مباشرة؛ فأمسكت بعضها بتلابيبه، وبعضها أمسكته من عضوه الذكري. رفعته عاليًا، ثم قذفت به إلى ركن ما من الغرفة الخاوية من الأثاث. أخذ الرجال في خلع ملابسهم، فجحظت عيناه في خوف. نهض وحاول الهرب، ولكنهم أمسكوا به كجراد يائس أوقعه حظه العاثر بين أرجل الأرملة السوداء.

راح يصرخ بكل ما أوتي من قوة، ويكيل السباب عليهم قدر ما استطاع، بينما أشعل عدو الفوضى والشغب الأول سيجارته، وهو يستمتع بالمتابعة، مُصدرًا ضحكات خافتة ومتقطعة بين الحين والآخر. أمسك به الرجال، وهو يحاول الهرب، قذفوا به إلى الأرض، وأمسكوا بكاحليه بقوة لم يستطع الإفلات منها، ووضع بعضهم قطعة قماشية رطبه على فمه وأجزاء من أنفه، فاختفى صوته في المكان، إلا من بعض صرخات مكتومة كانت تأتي من وراء القماش الرطب كآخر صرخة لغريق يائس من النجاة.

الجدران متواطئة مع ما يحدث، والعالم يضيق ليصبح بحجم الغرفة الخاوية من الأثاث، والناس كلهم يأخذون شكل ذلك الرجل المهندم الكاره للشغب والفوضى. تمنى البلولة أن تحدث معجزة تقتلعه من الغرفة باردة الجدران، أن تختفي الجدران، وقضبان النوافذ العالية، والرجال الماورائيون، وأن يختفي هو نفسه. تذكر القطط التي رآها على السور، وتمنى أن لو كان قطًا أو أن لم يكن. نزف دماءً حارة من حنجرته أثناء صراخه، خارت قواه وهو يحاول منع المهزلة من أن تحدث؛ فلم يستطع.

خرج البلولة من المعتقل بعد أسابيع من ذلك، فاكتشف أنه لم يكن راغبًا في الخروج. كان يتساءل: "ترى هل يعرف الناس بأمر هذا المبنى وما يجري داخله؟ هل مرّ الجميع بمثل ما مررت به؟" قال ذلك وهو يرى حشدًا من الراكضين وراء المركبات العامة. شعر بالعُري والفضيحة، أحس بأن الجميع قد شهدوا ما حدث له، وأنهم، بلا استثناء، يرثون لحاله ويشعرون تجاهه بالشفقة. آلمه ذلك الشعور كثيرًا، ومشى مطأطأ الرأس شارد الذهن. يصيبه القليل من الضجيج بالهستيريا، وأصابته فوبيا من التجمهرات والحشود. عاد إلى قريته في العيكورة، وقد فقد صوته وشرفه!

نهاية الفصل الثالث

Post: #73
Title: Re: قونقليز
Author: حيدر حسن ميرغني
Date: 10-25-2010, 10:06 AM
Parent: #72

أمس دخلت موقع عربي
وجدت خبر عن فوزك بالجائزة
اشد ماعجبني فيه التعليقات وردودك عليها
الحاجة المميزة فيه معظم التعليقات ججاءت من غير السودانيين
مبروك تاني ياهشام وتستاهل جائزة عزيزة علينا جدا
الله يرحم صاحبها ويحسن إليه

Post: #75
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-25-2010, 12:16 PM
Parent: #73

الأخ: حيدر حسن ميرغني
الآخرون يُقيمون ويُقدرون الأدب السوداني بشكل عام، ويحملون تجاهه كثيراً من التقدير، ولكن شح النصوص السودانية، وقلة المعلومات هو ما يجعل أدبنا السوداني يبدو في الظل تماماً. هنالك أدباء سودانيون يسعون جاهدين لكسر طوق العزلة المفروض عليهم وذلك باقتحام هذه العوالم عنوة، وفرض أنفسهم من خلال أدب يستحق الإشادة، ومن أمثال هؤلاء: الروائي بركة ساكن، وكذلك القاصة رانيا مأمون التي تشارك الآن في ورشة عمل تقيمه لجنة جائزة البوكر في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي ممثلة للسودان في هذه الورشة ما يجعلنا فخورين بها غاية الفخر، وهنالك آخرون كمُحسن خالد، وعصام عيسى رجب وغيرهم .. عسى مساعيهم تكلل بالنجاح يوماً ما

تحياتي وأشكر لك المتابعة

Post: #74
Title: Re: قونقليز
Author: dardiri satti
Date: 10-25-2010, 10:20 AM
Parent: #71

Quote: ؟ مازال في العمر متسع للحزن، ولكن اللحظات الجميلة تنقضي بسرعة.



هشام آدم ،
ايها المبدع ،
يبدو أننا موعودون بشيء
رائع لم يكتمل بعد.
أتذكر ، بعد سنوات ،
Camus و Meursault
سوف أعود إليك
عندما أقرأ كامل حلقات الرواية.

Post: #76
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-25-2010, 12:22 PM
Parent: #74

الأخ: درديري ساتي
تحياتي

أشكرك يا عزيزي على المتابعة
وفي انتظار عودتك بعد اكتمال الرواية

مودتي

Post: #77
Title: Re: قونقليز
Author: عبد الناصر الخطيب
Date: 10-25-2010, 12:39 PM
Parent: #76

هشام ادم
تحية وتقدير ,,,

تسجيل حضور ومتابعة




-----------------------
**غايتو احتفائي بعملك ده , بتصور إنها المرة الأولي البتكتب فيها عوالم (((سودانية )))
روح وشخوص ومشاهد وده حسب قراءاتي السابقة ليك
في ( أرض الميت ) و( السيدة الأولي ) .... إن لم أكن مخطى


ولك صادق الود ,,

Post: #78
Title: Re: قونقليز
Author: الجندرية
Date: 10-25-2010, 03:41 PM
Parent: #77

الف مبروك اخ هشام نيلك جائزة الطيب صالح الروائية عن قنقليز

Post: #79
Title: Re: قونقليز
Author: Elawad
Date: 10-25-2010, 06:03 PM
Parent: #78

مباركة الجائزة يا هشام و ربنا يوفقك إن شاء الله.

Post: #80
Title: Re: قونقليز
Author: Nazik Eltayeb
Date: 10-25-2010, 06:55 PM
Parent: #79

تهنئة و تحية وتقدير

Post: #81
Title: Re: قونقليز
Author: يوسف الولى
Date: 10-25-2010, 09:10 PM
Parent: #80

ألف مبروكـ يا هشام....
هذا الحماس للانتاج والابداع يزكى فينا شعله حماس للقراءه
لو تمكنت من رفع الروايه فى احدى مواقع تحميل الملفات حتى يستطيع اكبر كميه من القراء قراءتها
وارجو ان لا يتعارض اقتراحى هذا مع المردود التجارى المتوقع من بيع الروايه

Post: #82
Title: Re: قونقليز
Author: طه جعفر
Date: 10-25-2010, 09:18 PM
Parent: #81

مبروك هشام آدم
علي هذا الجمال
الف مبروك
و لكم الشكر

الف مبروك يا استاذ
الفوز بجائزة الطيب صالح من مركز عبد الكريم مرغي شرف لا يعدله شرف
هي جائزة تكرس الكتاب و تفتح الطريق امام انجازات عصية الا علي اهل المبادرات امثالكم



طه جعفر

Post: #94
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 05:07 PM
Parent: #82

الأستاذ: طه جعفر
تحياتي

أشكرك يا عزيزي على التهنئة وأُبادلكَ بمثالها، فهنيئاً لك فوزك بجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي وهنيئاً كذلك لزميلنا الروائي يوسف الشيخ صاحب (سبق لهم الموت) وأتمنى أن أقرأ نصيّكما قريبًا ، لاسيما نص الأستاذ يوسف الشيخ والذي أجاد ووفق في اختيار عنوانها

مودتي الخالصة

Post: #83
Title: Re: قونقليز
Author: فتح الرحمن محمد
Date: 10-25-2010, 09:27 PM
Parent: #81

ألف مبروك .. وفي إنتظار المزيد

Post: #84
Title: Re: قونقليز
Author: محمد يوسف الزين
Date: 10-25-2010, 09:32 PM
Parent: #83

مبروك هشام آدم

حتتمها ولا ما نبدا نقرا؟!

Post: #85
Title: Re: قونقليز
Author: Abuzar Omer
Date: 10-26-2010, 00:51 AM
Parent: #84

يا صديق

التهنئة الحارة على هذا الفوز المستحق.

أعمالك السابقة أظلت علينا غمام التفاؤل، لم يكن برقها خُلّباً، و لم تتركنا لوحشة الإنتظار.

لازلنـا نحلم بما سيأتى..

* أعجبنى إتباعك عرف نشر الفصل الأول، ففيه تعريف، دعاية، و شحتفة.

المهم لو فى أى نوع من ال Feedback تتوقعه أو ترغب فيه يمكن تطلعنا - نحن القرأ و المعجبين- عليه.

بيننا التواصل و فى إنتظار الجديد..

Post: #86
Title: Re: قونقليز
Author: talha alsayed
Date: 10-26-2010, 01:06 AM
Parent: #85

الف مبروك هشام الجائزه

نتمنى ان تكون دافعآ لبذل المزيد من الجهد

Post: #87
Title: Re: قونقليز
Author: amir jabir
Date: 10-26-2010, 01:30 AM
Parent: #86

الف مبروك اخ هشام

قراة جزء من الرواية هل لى بشرف نشرها هنا فى اجزاء
www.su-press.net
البريد

[email protected]

Post: #88
Title: Re: قونقليز
Author: Sabri Elshareef
Date: 10-26-2010, 02:44 AM
Parent: #87

تحياتي ايها الاديب الاريب \ هشام ادم

تمشي في خطي النجاح واثق الخطي

يا سلام عليك وعلي الجدية والابداع والذهن المنفتح

مثلك ثروة يجب ان نفرد لك المساحات لكي تبدع

بالله خليك في هذا العمل بجوار موقفك الفكري المتقدم


سعيد بان اقاسمك مساحة اسفيرية

لقد انتظرت ان اتحصل علي كل ما تنتجه لم يحالفني الحظ الي الان
لكن حتما في اي معرض كتاب في مصر او الامارت او الجزائر او سوريا

سابحث عن منتوجك الادبي والفكري

Post: #100
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 05:46 PM
Parent: #88

العزيز: صبري الشريف
تحية طيبة

أشكركَ يا عزيزي على هذه التهنئة الأخوية الصادقة، وهذه المشاعر والكلمات الرقيقة، ويُسعدني بالتأكيد أن تحظى بنسخك من الروايات المنشورة، وإن كنتَ تملك بطاقة ائتمانية فإنه بإمكانكَ طلب نسختك مُباشرة من موقع النيل والفرات فقط ما عليكَ إلا أن تختار من بين: أرض الميت و السيدة الأولى و بتروفوبيا و أرتكاتا
تحياتي الصادقة لك

Post: #99
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 05:25 PM
Parent: #87

الأخ: أمير جابر
تحياتي

أشكرك على التهنئة يا عزيزي، ولا مانع من إعادة نشر الرواية في الموقع

خالص تقديري

Post: #98
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 05:18 PM
Parent: #86

الأخ: طلحة السيّد
تحية طيبة

أشكرك يا عزيزي على التهنئة الطيبة، وبالتأكيد سوف تكون دافعًا قوياً لبذل المزيد

مودتي

Post: #97
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 05:14 PM
Parent: #85

العزيز: أبوذر عمر
تحياتي

أشكركَ يا عزيزي على التهنئة وعلى الكلمات الرقيقة ، وبالتأكيد يهمني سماع رأيكَ
ورأي الأخوات والأخوة القراء في الرواية فهو الفيصل الذي أُعوّل عليه

مودتي المقيمة

Post: #96
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 05:11 PM
Parent: #84

العزيز: محمد يوسف الزين
تحياتي

أضحكني تعليقكَ، وكل الحق معكَ فيما ذهبتَ إليه. فأنا لم أُكمل رواية بدأتها في هذا المنبر
ولكن "الأعمال بالنيّات"، أليس كذلك؟ أنا أنوي أن أنشر كامل الرواية هنا، وإن لم يحدث ذلك
لأيّ سبب فاعلم أنه كان سبباً قهريًا :)

تحياتي

Post: #95
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 05:08 PM
Parent: #83

الأخ: فتح الرحمن محمد

أشكرك على التهنئة وعلى المتابعة

Post: #93
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 08:35 AM
Parent: #81

العزيز: يوسف الولي
تحياتي

أشكرك يا عزيزي على هذه التهنئة، أما بالنسبة لموضوع رفع الرواية في موقع لتحميل الملفات، فهي فكرة لم أفكر بها من قبل، وربما أفعل ذلك لاحقاً رغم أنني ليست لدي خبرة في مثل ذلك، ولكن سأحاول. مسألة المردود التجاري لا أفكر به على الإطلاق، ليس زهداً ولكن لك أن تعلم أنني لم أتحصل على دولار واحد من رواياتي الأربع الأخرى. قيمة الجائزة الحقيقية التي كنتُ أبحث عنها هي موطئ قدم لي في الساحة الأدبية السودانية، لاسيما وأنني كنتُ بعيداً عنها لفترة طويلة. وهذا جُل ما كنتُ أسعى إليه.

لك مودتي وتقديري

Post: #92
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 08:29 AM
Parent: #80

الأخت: نازك الطيب

شكر وعرفان وامتنان

Post: #91
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 08:28 AM
Parent: #79

Elawad
تسلم يا حبيب .. وأتمنى الرواية تعجبك
مودتي

Post: #90
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 08:24 AM
Parent: #78

الجندرية
تسلمي يا غالية على التهنئة الجميلة دي، وأتمنى إنو يكون النجاح والتوفيق حليفنا كُلنا دائماً

Post: #89
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 08:22 AM
Parent: #77

عبد الناصر الخطيب يا صديقي
التحية ليك

سعيد جداً بمتابعتك، وأتمنى تعجبك الرواية
نص (قونقليز) ما أول نص سوداني الملامح، لأنو (أرض الميت) كانت برضو رواية سودانية بتتكلم عن النوبة ومشكلة التهجير، في حين إنو بقية الروايات فعلاً ما عندها علاقة بالواقع السوداني بشكل مباشر.

Post: #101
Title: Re: قونقليز
Author: M A Muhagir
Date: 10-26-2010, 05:54 PM

الف الف مبروك اخى هشام ادم

ومزيد من التقدم والنجاح

Post: #102
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 06:47 PM
Parent: #101

الأخ: محمد عبد الرحمن مهاجر
تسلمي يا عزيزي على هذه التهنئة وعلى هذه الأمنيات الطيبة

أتمنى أن تعجبك الرواية

مودتي

Post: #103
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 06:58 PM
Parent: #102

الفصل الرابع
chapter4.JPG Hosting at Sudaneseonline.com

Post: #104
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 07:00 PM
Parent: #103

استيقظ شرف الدين قلقًا على صراخ امرأة بدا قريبًا منه، رفع رأسه متكاسلًا، ونظر من خلال النافذة ليجد امرأة، يتذكر ملامحها، ولا يتذكر اسمها، تلوّح بحذائها لطفل، ربما كان ابنها، وهي تتوعده بالعقاب عندما يعودا إلى البيت؛ فابتسم قليلًا، ثم فطن إلى أنه حلم بكابوس مزعج، ولاحظ أنه مبتل تمامًا بعرقه. خرج من غرفته التي كقبر كافر، وعلى الفور أحس بحركة غريبة في المنزل. لم يقف على وجه الغرابة بالتحديد، ولكنه أيقن أن البيت يعج بكائنات كثيرة، عرف ذلك من أصوات اصطكاك الأطباق في المطبخ، وظل أياد تتلاعب بمشلعيب متأرجح، وصوت ضحكات نسائية خجولة، وأصوات رجالية متداخلة، ووقع أقدام راكضة أو مسرعة، وهمهمات أخرى متفرقة. ازداد شعوره بالقلق والحيرة، وكأنه يحاول تذكر شيء ما، وما إن تجاوز أحد الحوائط ببضع خطوات ودخل بهو المنزل حتى فاجأته الأصوات المتعالية: "الفاتحة!"

تذكر شرف الدين من فوره أمر مجيئه بالأمس إلى العيكورة، وبطريقة متصلة تذكر عزاء والدته، ومنظر جسدها المترهل المسجى على عنقريب الجرتق، وصراعها مع الموت، والذي لم يستطع حسم نهايته، ومشواره إلى المقابر، واستيائه البالغ من حرارة الجو، والوقت الذي ينفذ من منخار جرذ، وحرمانه من التدخين لنصف يوم. كما تذكر قراره بالعودة إلى الخرطوم اليوم، ووعده لمديره في العمل بذلك؛ فشعر بالاستياء لأنه مازال في العيكورة، وفي هذا الجو الجنائزي الممل.

نهض حامد ودالنعيم مندفعًا، وأشار إليه بيده ليجلس إلى جواره، فتذكر شرف الدين ملاصقته له منذ البارحة، وكيف أنه كان مستاءً من ذلك أيضًا، ولكنه توجه نحوه، واستسلم لملازمته على نحو قدري، وما إن استوى في جلسته حتى أمال ودالنعيم رأسه باتجاهه، وهمس في أذنه: "حسنًا، صهري، أنك أعدتَ النظر في قرار رحيلك؛ فقد جاء معزون جدد من الكاملين، وطابت الشيخ عبد المحمود، والهلالية، وقريبًا سيأتي آخرون من رفاعة وسوبا كذلك." أحس شرف الدين في حديث ودالنعيم بنبرة شماتة، أو كهذا خمّن، واكتفى بهز رأسه.

كان الجو حارًا جدًا، والهواء ثقيل ذلك الصباح، وقد بدأ يشعر بالملل من تكرار شرح أسباب وفاة أمه للمعزين الجدد، ولم يفهم مدى أهمية ذلك بالنسبة إليهم، فأوكل هذه المهمة إلى ودالنعيم؛ لاسيما وأنه يملك وثائق وتقارير طبية تدعم ما يقول، فقط في حال احتاجوا إليها.

من مشهد أحد الفتيان، وهو يحمل كومة كبيرة من الرغيف داخل غريرة من الخيش الملون، على دراجته الهوائية متوجهًا بها إلى القسم النسائي، عرف أن الوقت لم يتجاوز العاشرة صباحًا. فقط ليقطع دابر شكّه باليقين، همس في أذن ودالنعيم مُظهرًا العتاب: "ألم يتناول المعزون فطورهم بعد؟" فأجابه بطريقة تشبه الاعتذار: "كان علينا أن ننتظر حتى يأتي فوج القادمين من طابت الشيخ عبد المحمود." فتأكد له تمامًا أنه وقت فطور وليس غداء كما يوحي الطقس. حرص هذه المرة ألا يجلس إلى جوار ودالنعيم على المائدة، ووجد في إنجاز ذلك متعة خاصة.

بعد الإفطار؛ تقدم أحدهم، وبدأ يعظ الموجودين، لم يكن شرف الدين يعرفه، ولكنه خمّن من هيئته، ولحيته الكثة أنه إمام جامع القرية الجديد. تكلم بصوت متحشرج، أحسّ فيه التكلف والصَنعة، عرف أنه يحاول التأثير في الحاضرين. قال في سره: "إذا لم يكن الكلام نفسه مؤثرًا، فلا حاجة للمؤثرات الصوتية!" تكلّم الابتلاءات الإلهية التي تواجه المؤمن في دنياه، وعن ضرورة هذه الابتلاءات، وما ينتظر المؤمن من ثواب إذا هو صبر عليها، وتقبلها قبولًا حسنًا، فلم يضجر، ولم يقنط، ثم دعم كلامه بسرد قصة النبي أيوب، الذي يبدو أنه كان أول من سنّ الصبر، وكانت القصة مغايرة، نوعًا ما، للتي يعرفها ويحفظها عن ظهر قلب.

تكلم عن صبر الأنبياء على الابتلاءات، ونصح بالاعتبار من سيرتهم، والاقتداء بهم، وتكلم عن الموت وما بعده، وعن عذاب النار، وعمّا يبقى للميّت من أعمال، وخَلَف صالح يدعو له، فأحس أنه يعنيه بذلك.

طالت الموعظة، وشعر شرف الدين بالضيق والملل؛ لاسيما وأن الجو قد بدأ يزداد حرارة، كما أن حديث الشيخ عن النار فاقم من إحساسه بالسخونة. تمنى أن يتخلص من ثيابه التي التصقت بجسده بفعل الرطوبة؛ فخطر له أن يسبح عاريًا في مياه النيل، وعزم على ذلك. بدأت شهوة التدخين تحكم وثاقها على صدره من جديد، ما ضاعف إصراره على الخروج في أسرع وقت.

ظل ينتظر اللحظة المناسبة التي يُعلن فيها عن قراره؛ ولم تأت، فلم يكن الشيخ يلتقط أنفاسه، ويتكلم دون انقطاع، فحسم أمره وضغط بكفيه على ركبتيه، وهو يحاول النهوض، وللمرة الثانية وجد نفسه مضطرًا للاستئذان من ودالنعيم، فهمس إليه بشيء من الجدية: "أكاد أختنق من هذا الجو، أحتاج إلى قليل من الهواء. سأكون بالخارج لبعض الوقت." ولم ينتظر حتى يسمع رأيه، وغادر على الفور.

خارج الصالة المخصصة للرجال، بعث منظر الأحذية والمراكيب المتناثرة في نفسه شعورًا بالضيق لم يفهم مصدره على وجه الدقة، وتدافع بعض الأطفال أمامه، وهم يركضون غير آبهين بحُرمة العزاء، ولم يزجرهم أحد. اصطدمت يد أحدهم بما بين فخذيه، تألم كثيرًا غير أنه لم يستطع أن يبدي ألمه أمام الجميع. رأى أن بروز الخصيتين خارج الجسد فكرة غير صائبة؛ إذ بإمكان طفل شقي أن يشكل تهديدًا دائمًا لمستقبله التناسلي، وعندما تذكر أنه لا يرغب في الإنجاب، شعر بشيء من التحسّن.

سمع صوت بسبسة تأتي من جهة ما، التفت نحوه ليجد أخته عواطف واقفة عند مدخل الصالة النسائية، وقد غطت نصف وجهها السفلي بطرف ثوبها القاتم؛ فتوجه نحوها بخطوات قصيرة ومتألمة: "حبيبي أنتَ يا شرف، أشكرك لأنك لم ترحل، وتضعنا في حرج مع الناس. هنالك نسوة يردن تعزيتك." ومرة أخرى تعالت الأصوات: "الفاتحة!"

Post: #105
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 07:02 PM
Parent: #104

الأرض، التي تميل إلى الحُمرة، أسفرت عن بعض النباتات الشوكية المتفرقة كثآليل فيروسية مقززة. بدت أرض العيكورة كظهر زاحف أسطوري مليء بالحراشف المدببة، ينام في هدوء على ضفاف بحيرة بركانية. تتقاتل صغار العقارب للظفر بظل بائس تحت أوراق النيم المتيبسة، فيما يعبر نمل كـلـب الـحَر في قوافل طويلة بمحاذاة جدران البيوت، والرياح تتواطأ مع المناخ ضد الإنسان؛ فتنفث سَمومها الغباري على وجه القرية، وتعبر فتحات النوافذ والأبواب لتنتحر، أخيرًا، على جلود النساء والرجال والأطفال ذوي البشرة الدهنية.

للوهلة الأولى تبدو العيكورة كقرية حلت عليها اللعنة؛ فلا تسمع غير صفير الريح، وطقطقة النوافذ الخشبية، وحفيف أشجار الهجليج والمورينجا، ونباح الكـلاب، وزعيق طيور البوقير المزعجة. تنهض أعاصير ترابية من مخابئها، ثم تختفي، ثم تظهر مرة أخرى، كعفاريت تروّح عن نفسها، في هذه القائظة، باللهو والألاعيب السحرية. وحده ثغاء الماعز، خلف أقبة البيوت، من يهب المكان حيويته وطابعه الإنساني.

ألقت الشمس أشعتها على مياه النيل بشكل رأسي؛ فبدا سطحه وكأنه مغطى بورق القصدير. وقف شرف الدين قبالة النيل، وعبأ صدره بقليل من الهواء الساخن، ثم شرع في نزع ثيابه قطعة قطعة، بعد أن أمسك بعقب السجائر بين إبهامه وسبابته وقذف به بعيدًا. خاض بقدميه في النهر حتى وصلت المياه إلى حجابه الحاجز، عندها رمى بنفسه في أحشاء النيل. تسلل إليه شعور جيد ومنعش، وأخذ يغطس في الماء ويخرج منه، وكرر ذلك حتى تعب، عندها رفع قدميه إلى مستوى رأسه، وطفا على ظهره.

كانت الأمواج تعتلي كرشه الصغيرة، فتعجبه الدغدغة التي تصدرها، وراح ينفث الماء من فمه، كالحيتان، فتنطلق عاليًا محدثة نافورة فموية لتهطل على وجهه من جديد. نظر إلى القرية وهي غارقة في سراب كوني سببته أشعة الشمس، وكأنها ستختفي بعد قليل. لاحظ وجود شبح أسود في منتصف الصورة السرابية من الناحية القريبة منه، ولم يتأكد من كنهه، ولم يتوقف عن السباحة حتى هبّت ريح فجائية حركت الموج بقوة، وكأن شيئًا ما، لا يعرفه، قد أغضب الإله. وجد صعوبة بالغة في السباحة مع هذه الأمواج المتلاطمة فقرر الخروج.

على ضفة النهر وقفت وقية عبد الباسط ترمق جسده العاري المبتل بنظراتها المثيرة: "رأيتك تخرج من البيت متوجهًا إلى هنا؛ فأتيت." لم يكن شرف الدين قد سألها عن سر معرفتها بوجوده هنا، ولكنه وجد تبريرها مقنعًا؛ لاسيما وأنه تذكر أنها استمتعت معه كثيرًا ليلة البارحة. "الجميع توجهوا منذ الصباح لبيت العزاء، ولن يعودوا قبل غروب الشمس؛ سأنتظرك في البيت، وأترك لك الباب مفتوحًا." هز رأسه موافقًا، وغادرت هي على الفور، قبل أن يقوم بفعل طائش ومجنون، كما هي عادته.

Post: #106
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 07:05 PM
Parent: #105

لم يحتج شرف الدين أن ينتظر طويلًا حتى يجف جسده، فقد كانت الشمس حارقة لدرجة أنه جف بمجرد خروجه من الماء، ولكنه كان ما يزال يحس بالانتعاش. اعترته رغبة جامحة في معاقرة خمر أكيج من جديد، فسار بمحاذاة النيل حتى وصل إلى منزلها.

طرق الباب، وكان بإمكانه أن يدخل الحانة، كعادته، من الجدار الجنوبي المنهار جزئيًا، غير أنه تذكر أنها متزوجة الآن، ولم يجد لباقة في تصرفه ذلك. خرج إليه زنجي عملاق سد فتحة الباب، وسأله بنبرة جافة، ولكنة عربية ركيكة: "ماذا تريد؟" كان شرف الدين قد أعد نفسه للتعريف بنفسه أولًا، غير أن السؤال المفاجئ أربكه قليلًا، قبل أن يُجيب: "أريد بعضًا من الخمر." نظر إليه الزنجي، وقد قطب حاجبه: "في هذا الوقت؟" لم يفهم شرف الدين مغزى سؤاله، إلا أنه هز رأسه واصطنع الظرف: "لا يقتل الوهم إلا مزيد من الوهم!" لم يفهم جيمس معنى ذلك، ولم يجد في كلامه ما يدعو للضحك، غير أنه سمح له بالدخول على مضض.

توجه شرف الدين إلى المكان المخصص للسُكارى تحت الراكوبة المصنوعة من أعواد الخيزران، وكانت ما تزال مغطاة بقطعة من الخيش مثبتة بحجارة عملاقة، وأسفل منها رأى النيل رزقة نائمًا على حصيرة من ألياف النخيل. أخرج سيجارة وأشعلها، وظل ينتظر إلى أن جاء الزنجي العملاق حاملًا زجاجة الخمر، وكأسًا وضعهما أمامه مباشرة، وانصرف.

الحقيقة أن شرف الدين لم ينتبه إلى ملامحه هذه المرة، ولكنه راح يصب الخمر لنفسه، وعرف منذ الرشفة الأولى أنها ليست من النخب الأول الذي تسقيه منه أكيج، فاستاء لذلك كثيرًا، بيد أنه لم يتوقف عن الشراب.

كان الكـلـب الكسول ممدًا على شريط ضيق من الظل، وذيله ما يزال يهتز بطريقة متوترة، والذباب يتجمع على أنفه الرطب كما تتجمع الفراشات حول الضوء. أُزيح الستار عن مدخل إحدى الغرفتين، وخرج جيمس العملاق مرة أخرى. توجه ناحية الكـلـب ووضع أمامه طبقًا متسخًا به بقايا طعام بشري، ولم يكترث الـكـلب لذلك، فقط رفع رأسه في لامبالاة واضحة، ونظر إليه قليلًا، ثم أعاد دس رأسه بين قائمتيه الأماميتين مرة أخرى.

في طريق عودة الزنجي استوقفه شرف الدين، وسأله عن أكيج، فنظر إليه جيمس بشيء يشبه الغيرة، وأخبره أنها تأخذ قيلولتها في الداخل، وأحس شرف الدين أنه أراد إخباره بأن الوقت ليس مناسبًا للزيارة، وهو أيضًا رأى ذلك. كان مذاق الخمر سيئًا، ولكنه تناولها دفعة واحدة، وانصرف.

Post: #107
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 07:06 PM
Parent: #106

أضافت إليه الخمر إحساسًا بالضيق، رغم تحرك بعض الكرات المجنونة الصغيرة في رأسه، فلم يعرف أن يحدد ما إذا كان ترنحه في المسير بفعل الخمر، أم بفعل أشعة الشمس. لاحظ وجود خط طويل على الأرض الرملية الحمراء، يبدأ من مكان ما داخل القرية، ويختفي داخل حقل القصب، فعرف أنه حسن البلولة.

داخل حقل القصب اكتشف شرف الدين أن الحرارة أخف وطأة، وتعجب كيف لم يفكر في اللجوء إلى هنا من قبل. لم يدم بحثه عن البلولة كثيرًا، ولم يكن يصعب عليه تخمين أين يجده بين سيقان القصب المتشابكة؛ إذ تعودا الجلوس عند ملتقى تقاطع الجداول المائية، وما إن رآه حتى ازدادت عيناه اتساعًا، وصرخ بفرح، مُصدرًا أصواتًا ذكّرته نواح عمته عديلة بابو المتكلف.

تبادلا بعض النظرات التي تعبّر عن الاشتياق، ثم جلسا أرضًا، وراح يخبره عن عمله الجديد في العاصمة، وعن زملائه في العمل. أخبره عن الجانب المشرق من الخرطوم، وعن شوارعها السرية، وروعة الليل في شارع النيل، وعن الفتيات في حديقة المقرن، وقاعة الصداقة، وحفلات أبو عركي البخيت في الفندق الكبير، وعن جزيرة توتي القابعة في قلب النيل كعروس بحر أسطورية، وعن جنائنها التي ترك فيها ذكريات جميلة.

أخبره عن علاقاته العاطفية الفاشلة، وعن قراره الأخير بأن يدلل نفسه، وأن يعوضها عن اللحظات التي أنفقها في مطاردة الوهم. أخبره عن علاقته بوقية عبد الباسط، وكيف أنه يُجل فيها قدرتها الاستثنائية على الإغراء: "أن تقرر أنثى وهب جسدها لأحدهم دون مقابل؛ هذا ليس بالأمر السهل على الإطلاق!" قالها بنبرة امتنان، وعيناه تلمعان في مكر. أخبره، أيضًا، عن بغضه للأطفال وإزعاجهم الذي لا ينقطع، ثم تذكر فجأة، واستطرد: "كما أن أمي توفيت كذلك!" تغيرت ملامح البلولة، وأوشك أن يرفع يديه لقراءة الفاتحة معه، إلا أن شرف الدين خفضهما له، وهو يقول: "كان ذلك بالأمس."

بعد أحاديث كثيرة ومتفرقة، ساد صمت طويل بينهما، وكأنهما قررا منح نفسيهما مهلة للاستمتاع بالهواء البارد الذي مر فجأة؛ فلحظات كهذه قد لا تتكرر كثيرًا في هذا الجو الحار. أرخى شرف الدين ظهره إلى الخلف، ووضع رأسه على كفيّه المتشابكتين:
- هل تعلم، يا البلولة، ما هي أصعب مهمة قد ينجزها الإنسان؟
- !!
- الصدق! الصدق يتطلب توفر صفات كثيرة، فهو يتطلب قدرًا كبيرًا من الشجاعة والصبر والحكمة؛ وهي مهمة لا يستطيع إنجازها إلا الأنبياء.

سكتَ قليلًا قبل أن يستدرك: "حتى بعض الأنبياء لم يفلحوا في ذلك!" كانت عينا البلولة جاحظتين، فلم يستطع شرف الدين أن يفهم ما إذا كان ذلك وضعهما الطبيعي أم بسبب ما قاله للتو، وبطريقة توحي باتصال الحديث، التفت إليه وهو يتساءل: "لماذا لا تأتي معي إلى الخرطوم؟ بإمكاننا شراء لوحات لفان جوخ وجونان أو حتى لادجار ديجاز." ولكنه تذكر أن لوحات هؤلاء لا يمكن أن توجد في الخرطوم، فضحك ثم سكت قليلًا وضحك مرة أخرى وهو يقول: "لا علاقة للأمر بما كنا نتكلم عنه؛ أليس كذلك؟ ذكرني هذا بالرجل التحفة (علي مناسبات). ترى أين هو الآن؟"

Post: #108
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-26-2010, 07:09 PM
Parent: #107

كان شرف الدين قد أمضى وقتًا طويلًا مع البلولة في حقل القصب واتفقا، تقريبًا وبشكل مبدئي، على الذهاب إلى الخرطوم سويًا، وأقفل شرف الدين عائدًا إلى المنزل، وهو يتساءل ما إذا كان الشيخ قد أنهى موعظته أم لا، وأضمر الحقد تجاهه. كانت تزعجه كثيرًا خطب الوعظ، وكل ما يتعلق برجال الدين. لم يكن قادرًا على فهم الدين من حيث أنه علم كهنوتي، له رجاله العارفين بخباياه، وكان دائمًا يقول: "لا خبايا في الدين. يجدر بالدين أن يكشف الخبايا لا أن يتحلى بها" ولذا فإنه لم يكن يحب رجال الدين، ولم يحب مظهرهم أو حتى الطريقة التي يتكلمون بها مع الآخرين، وكأنهم أقل منهم.

أذهل البلولة ذات يوم، عندما قال له: "لا شيء اسمه (دين). للدين فلسفة وحيدة، وهي أن يمنحنا الطمأنينة، ولكل شخص دينه الخاص. لا يتطلب الأمر أوامر ونواهي؛ تلك وظيفة الأخلاق لا الدين، وواهم من ظن أنهما شيء واحد." وفي أثناء ذلك تذكر أن وقية تنتظره في منزلها؛ فتهللت أساريره بالفرح، وساعده ذلك على التصالح مع الواعظ وموعظته.

لم يجد باب منزلها مفتوحًا كما أخبرته، فتردد في طرق الباب قبل أن ينتبه إلى وجود سلك بارز في الباب، شده برفق فانفتح الباب، ليجدها أمامه، وما أن أغلق الباب وراءه حتى أسندت ظهرها عليه، وراحت تنظر إليه بغضب "هل تعلم كم من الوقت أمضيت وأنا أنتظرك؟ أين كنت؟" حكا لها عن ذهابه إلى منزل أكيج، وعن الوقت الذي قضاه مع البلولة، ولم يبد عليه أنه كان يُبرر؛ بل أخذ يقص عليها الأمر، وكأنه لم يفهم مغزى سؤالها على الوجه المطلوب، ولكنها لم تقاطعه، وراحت تنصت لما يقوله باهتمام، ثم إنها أعادت رسم ملامح الغضب عندما بدأ يتغزل بها "دعك من كل هذا، تبدين رائعة في هذه الثياب."

عاتبته بغنج تتقنه، وأخبرته أنها منذ تركته عند ضفة النهر، وهي منشغلة في تهيئة نفسها لاستقباله، وقضاء وقت ممتع معه، حتى أنها لم تشأ أن ترتدي ملابسها الداخلية، ولامته لأنه لم يبد ملاحظته بشأن العطر الذي تطيّبت به؛ فانتبه، وقتها، إلى أن رائحتها كانت جميلة فعلًا. أراد أن يقص عليها طرفة ابن أخته الذي تبول على الجدار، فاكتشف أنه لا يعرف اسمه، فتجاهل الأمر.

حاول أن يستدرجها لتتمدد، فلم تفعل، وسمحت له فقط بملامسات جسدية وقبلات سريعة، لأنها توقعت أن تعود أمها وأخواتها الأربع في أية لحظة، واقترحت عليه أن يمضيا المتبقي من الوقت في الحديث عن مستقبل علاقتهما الغريبة هذه.

كانت هي المرة الأولى التي يكتشف فيها شرف الدين أن علاقته بوقية عبد الباسط قد تكون غريبة، وأدهشه ذلك، ولم يكن يعرف ما يمكن قوله بهذا الشأن، ولكنه قدّر أنه من المهم أن يسمع ما تريد قوله. ترددت وقية قبل أن تسأله بمكر: "لماذا لم تفكر بالزواج حتى الآن؟" أراد أن يقول بأنه شخص مزاجي، ويحب أن ينزل من سريره من أية جهة يُريد، ولكنه عدل عن ذلك؛ إذ لم يجدها حجة جيّدة.
- أعتقد أن الأطفال هم السبب، فأنا لا أحب الأطفال.
- هل هنالك شخص لا يُحب الأطفال؟
- أنا
- الأطفال هم ملح الحياة، والسر الذي يدفع الناس للزواج.
- الأطفال مزعجون.
- سوف تعتاد إزعاجهم، حتى تعود لا تراهم كذلك.
- كما أنهم فوضويون
- أنت فقط مفرط الحساسية. فقط تخيّل أن قطعة منك تسير وتكبر أمام عينيك؟
- لقد تخيّلت هذا من قبل، وأراها فكرة مخيفة!

اكتشفت وقية أن الوسيلة التي اتبعتها معه منذ البداية كانت خاطئة، فغيّرت مسار الحديث مباشرة:
- ماذا تسمي علاقتنا هذه، وما هو مصيرها برأيك؟
- أنا أراك امرأة فاتنة ومثيرة، كما أنك لستِ مزعجة أو ثرثارة كبقية النساء.
- ألا تفكر في الزواج بي؟

بدا عليه الاندهاش والمفاجأة، ثم راح يفكر بعمق:
- لا أجدها فكرة سيئة على الإطلاق
- إذن؟
- لابد، أولًا، أن أتخلص من رواسب تجاربي الفاشلة. أحتاج إلى بعض الوقت يا وقية.
- عمري الآن تسعة وعشرين يا شرف!
- كان عمري تسعة وعشرين من قبل، وماذا في ذلك؟
- قد انتظرتُ لسنوات طويلة، ولا أرى أنني قد أحتمل أكثر. لقد بدأ الناس يتحدثون عني في مجالسهم الخاصة، وهم يعتقدون أن وراء عدم زواجي، حتى الآن، سرًا.
- ماذا إذن؛ هل نذهب إلى مأذون الأنكحة الآن؟
- لا، ليس الآن طبعًا، بعد بضع الوقت.
- وهذا ما طلبته بالضبط!

نظرت إليه في حنق، وانهالت عليه ضربًا، ثم انفجرت بالضحك، ورغم أنه لم يفهم سر ما حدث، إلا أنه أعجبته الطريقة الحميمة التي انتهى بها الحوار. في أثناء ذلك سمعا أحدهم يحاول فتح الباب من الخارج، فنهضا فزعين على الفور، وطلبت منه تسلق السور الخلفي للمنزل والهرب، ففعل.

نهاية الفصل الرابع

Post: #109
Title: Re: قونقليز
Author: هشام آدم
Date: 10-27-2010, 09:48 PM
Parent: #108

أبدأ غداً نشر الفصل الخامس

Post: #110
Title: Re: قونقليز
Author: النذير حجازي
Date: 11-06-2010, 04:26 PM

شكراً يا هشام، والله متعة وقمة الإبداع
وألف مبروك تاني، ولسا ما كملت القراية

تحياتي ليك يا ملك