صاحبة الظِل الجميل.. قصّـة وحكايّـة

كان قلبه يجرُّ أحلاماً، يعرفها وتَعرفه، و ثمة نهاراً كئيباً، يَمضغ أُمنياته في كُل يـوم وما يزال يتخبط، يقفُ هو خلف نافذته عند كُل مساء، بجـواره بعضُ أمنياتٍ مُنتشرة على سَاحة القَلب وكماً من الآلام تمددت على أرصفة الروح تُغَني.
-حسناً؛ إنه وقتُ الدواء ..
ينظرُ لساعته ليجد أن وقتها قد حـان، يُردد:
- لابُد أن تأتي الآن..

كان ينظر صَوب نافذتها فيجدها مازالت غارقةً في الظلام الدامِس، يُدب القلق بداخله كثيراً، يستدرك أنّ ساعته لازال وقتها مُتَقدماً بدقيقتين أو ثلاث، يُردد في قلبه الذي إكتوى بنيران الإنتظار:
- ستأتين إذاً يا صاحبة الظِل الليلي الجميل وتَحملين الضوء في عينيك، سيأتي ظِلك وستدهشين ضوء القمر الحـزين.
كانت (هي) مثلما الشمس في الصباحات الشتوية، تغمرُ الأرض بالدفء، يأتي ظِلها تغمره النشوة ليلاً، يأتي في موعده دائماً، التاسعة مساءً، كانت تفتحُ ضِلف نافذتها قبل أن تفتح أضواء غرفتها، كأنها تعلم بوجوده، هو، و أمنياتيه تقفُ بجواره، والقمر الحزين، ذلك القمر الذي لم يكُن في حضرة ظِلها سوى قطعة رمزية تزيِّن اللوحة خارج إطار النافذة، تتلصص عيناه حركاتها، يراقب ظِلها المنعكس على ستارةِ النافذة ناصعة البياض، يراه بوضوح مُفرط.. الآن يَرتمي ظِلها مستقيماً يهمسُ للأشياء من حوله، الطاولة، أوراق الدراسة، الكُرسِّي، وأصيص الورد على حافة العين حيثُ تكتمل تفاصيل لـوحَته الظلِّية. يَتعرجُ ظِلها عند وصوله لستار النافذة يَبدوا جميلاً مشهده وهو يقاوم حِدة الأضواء المُنبعثة بقوة، كانت عند كل مساء تفتح نافذة النشوة في غرفتها، لكنها لا تسدل ستارها الأبيض أبدا؛ هذا الستار لم يُسدل إلا في فصل الصيف مرةً وفي أحلامه السعيدة قديماً مرةً أو مرتين تقريباً .
تكون الساعة التاسعة وسبع دقائق على حسب توقيت ساعته المهترئة حين يبدأ مُقدم برنامج (العُشَاقْ هـذا المَسـاء) في النعيق على مذياع حُجرتها، يأتيه نعيقه عبر نافذتها صاخباً ليبدد نشوته وتأمله .. فيتذمر ..
- تباً ؛ هذا الصوت يُفسد "لوحتي" دائماً !
تبدأ اللوحة في النعاس أمـام عينيه كلَّما ظَل ذلك الوغد يُثرثر بصوته الكئيب على سماعة المذياع، تكون هي قد ملّت حديث العشق بسبب ذلك الصوت المذياعي النشاز. فيَتحرك ظلها يَجول حـول غرفتها، يفصحُ عن كآبة عشاق المذياع في هذا المساء، يراها مرةً أخرى، وهي تُحركُ يَدها، يَدها تحدِثُ فمها الآن، يدُور بينهما حديث قصير، يبدوا أنها تتثاءب، لا لم يحن وقت النوم بعـد، يقول في إستياء.. ثم إنه يراها، يرى ما حولها، يذبل أكليل الورد بجوارها إذ لم يزل ذلك الوغد على المذياع يثرثر، تَجلس هَي على الكرسيِّ، تتأرجح، يتدلى شعرهـا، ينساب خطوطاً سوداء على سطح ستارتها البيضاء، ثم ظلها يتحرك .. ببطء .. ببطء جميل ..

يكون هو مشدوهاً لبُرهة.. يرشف قهوته التي ماعادت تجدي مفعولاً ..
الآن هـاهي صاحبة الظل الجميل تستعيد حيويتها لمُجَرد أن يختم ذلك المذيع نَعيقه بـجملته الفضلى في البرنامج:
- نستمع الآن إلى أغنية المساء ثم نستقبل اتصالاتكم ..
يبتسم هو على نافذتي.. يرى أبتسامتها تزينُ اللوحة ..
يقول: هاهي لوحتي تعاود الشروق إذاً..
يراها الآن في أبهى حُللها ..
يرى ظلها بوضوح، تنهض، تُحرك الكُرسي، تَبحثُ عن مساحة، تطوّحُ رأسها بحركةٍ شبه دائرية، تنشرُ شعرها خطوطاً سوداء على أطراف اللوحة، يراها وقد طوَّت باقة معطفها ببطء وأهدته للكُرسي، ثم زادت من مستوى صوت المذياع درجة؛ الموسيقى في هذا الشتاء دافئة تخفف عبء النار، والأوتار مضبوطة ومُحكمة على درجة الدفء الذي يحتاجه ذات شتاء وذات عواصف قلبية، يرى ظِلها بوضوح، وصوت موسيقى المذياع يأتيه عالياً، يا للهول إنها ترقص؛ إكليل الورد بجانبها ينضح، تتفتح الأزهار عند غرفتها في المساء، والرقص في هذا المساء يقيكِ شر الحُزن، الحُزن لابُد أنه كائن ضخم كان بارعاً في تحطيم الدواخل لكنه يوشك اليوم على الانقراض .

مشدوهٌ (هو) يراقب في صمت.. مملوء بالنشوة ..
وظِلها يرقُص على أنغام موسيقى المساء خلف ستارة بيضاء ناصعة لم تُسدل إلا في أيـام الصيف وفي احلامه السعيدة قديماً مرةً أو مرتين ..
يُردد:
- "لوحتي" تتجلى معانيها" ..
كانت الألوان الوان الظلال، كُلٌ بلونٍ واحد، الإضاءة خافتة، اليوم يوم الجمعة، يقفُ (هو) خلف نافذته وبجواره أمنيات مبعثرة على أرصفة القلب وبيده كأساً يزيد من ضغط سريان العشق في دمه !
قلم الرصاص تَحت طاولته، يتناوله مسرعاً ليكتب على جدران "الغرفة" الذي تصدع وأمتلأ من كثرة ملاحظاته المسائية عن اللوحة ..
كتب بخط مملؤ بالفرح:
-" مساء الجُمعَة الساعة التاسعة والنِصف كانت لوحتي ترقُص !".
ثُم ضحك بصوت عـالٍ، سخر من نفسه، ثم قال:
- أنا الشخص الذي يؤرخ ايامه بحركات ظِلها عند المساء.
لكنه رغم ذلك يتمنى ان تُصبح كُل الأيام يوم الجمعة.. فقلبه يَجرُّ كماً من الأُمنيات تَعرفه ويعرفهـا، وليلُ أعمى يَبتلعُ أحلامه في كُل يـوم ويواصل تخبطه حتى بزوغ الفجر ..!
.

تمّت.

لنا الدهشة
ولك كل الجمال

امتزاج القص بالشعر
وهى حالة تمر بها الكثير من القصص مؤخرا
لكنها بديعة حيث تتحول القصيدة الى نثر
جميلة هى احلام الفتى لكنا لانعرف ماهى مميزاته "سوى انه طالب فى الجامعة ربما "
حيث تشير بعض المعلومات الى ذلك
ماهو طوله ؟ سنه ؟ ملامحه ؟
اذكر انى قرات فى فى وقت باكر قصة لانطون تشيكوف
وما زلت ارى تلك الشخصية التى تحدث عنها تشيكوف الى الان
بملامحها ولونها ولون شعرها
وخصائصها الانسانية
الى اخر التفاصيل
شكرا لك على اشراكنا فى هذا الوهج

حاتم شنّاب .. تحيّات
الدهشّة تأتي معك وبكْ ياصديقي
شكراً كتيراً ياخ على مرورك الرائع

أ.سلمى الشيخ
أشكرك كتير جداً على حضورك الأنيق..
وعلى ملاحظاتك حول القصة، التي هي بلا شك محل إحترام وتقدير
لكني تعمّدت عدم الإكثار في وصف شخصيّة القصّة؛ لأن كثرة إكتظاظ التفاصيل داخل النص
قد تخرج بالقصّة الى مسارات أخرى بعيدة عن فكرتها الأصلية.
تشيخوف .. أجد متعة خارقة وأنا أقرأ له
شكراً على لطف حضورك
تحايا صادقة لك.

حسنا
لابد أني انتشيت
أجل انتشيت تماماً
لابد لها أن ترقص فمن تعزف علي أوتار القلب لابد لها من أن تجيد الرقص
أمتعني النص
مكتوب بحرفية واحترافية عالية ...
شكرا لهذه المتعة الباتعة
وشكرا لهذا الجمال الذي قطن هنا



م ا ي

محمّد الطيِّب
لابٌّد أنني سعيدٌ جداً بمرورك
وبتواجدك هنا
فشكراً لأنك هنا وشكراً لهذه الروع التي أضفيتها سحراً..
تحايا من القلب :)

(*)

لم ار هذا العمل إلا أمس.
.تصوير بارع بعدسة سينمائية ترصد الحركة من الجانب الخارجي ونرصد معها المشاعر.ما التقطته هذه العدسة لا يروي غليلنا.هذه القصة تشبه قصة الحسناء النائمة لغابرييل ماركيز هناك جاءت الحسناء اليابانية لتجلس قرب الراوي في مقعد بالطائرة ونامت وانتهز الراوي فرصة نومها ليحدثنا عن ثقافة اليابان وأدبها.
حسناؤك يا هشام الطيب نرى ظلها الجميل ونتلهف. ونتمنى كقراء لو واصلت بما يكشف عما وراء الستائر المسدلة.منتهى التشويق.
قولك بأنها لم تسدل الستارة معكوس قصدك لم ترفعها أو تفتحها إلا مرة في الصيف ومرّات في الحلم فالمسدلة هي المقفولة التي تحجب عنا النظر لا العكس.
قصة رائعة.

بشرى الفاضل
سعيدٌ جداً بحضورك الذي عنى ليّ الكثير الكثير
وسعيدٌ بملاحظاتك وآرائك النيِّرة حول القصّة..
هذه القصّة من أولى القصص التي كتبتها، وأذكر أنّني قد أخذتُ وقتاً طويلاً جداً في صياغتها
ففي كُل يوم كُنت أحذفُ منها، وأضيفْ.. إلى أن خرجت بهذا الشكل ..
ولازالت تراودني فكرّة اضافة مزيداً من الأحداث لها
الشكر الوافر مرة أخرى

عزيزى / هشام الطيب
ابداع وسحر فى الكلمات - دهشة
مع عظيم امتنانى بالاطلاع

نص جميل يا اخ هشام أهنئك عليه ..لاحظت أيضا أثناء القراءة لما انتبه له الدكتور بشري

Quote: لم تُسدل إلا في أيـام الصيف

ففي الصيف عادة ترفع الستائر ..وكذا فى أحلام فتاك , أم عنيت ما كتبت..

مع وافر التقدير والاحترام

Quote: سيأتي ظِلك وستدهشين ضوء القمر الحـزين.

أهنئك على هذا النص ولي عودة لهذا الاقتباس ...

أنوّر ..
شكراً على الحضور .. وفي إنتظار عودتك التي تعني لي الكثير

روزمين
شكراً على لطف مروروك، وعلى التنبيه كذلك
ودعيني أقول أنّ هذا النص رما يكون فيه أخطاء عديدة بمفرداته، ولغته.
فقد كُنت حين كتابته حديثُ عهدٍ بالقصّة وفنونها ولغتها.
فهو كما ذكرت آنفاً؛ أنه من أوائل النصوص القصصّية التي كتبتها.
وحرصتُ على نشره كما (هو)؛ بإعتبار أنّه بدايّة تجربتي في كتابة القصّة.
الشكر الوافر مجدداً ياعزيزتي ..

عزيزي جداً عبد الرحيم
شكراً على لطف حضورك
مرورك أسعدني كثيراً
تحايا صادقة ..

الأخ هشام ، تحياتي الحارة و عموما استطيع أن أقول أنك بدأت تتلمس أين مكانك في الكتابة ، فأنت يا أخي هنا وهذه الكتابة مهمة صعبة
ومسؤولية لا يطيقها الكثيرون ، أولا أشكر تداخلات المتداخلين وخاصة الأستاذ بشرى الفاضل الذي علق تعليقا وافيا وشافيا وهو الكاتب
المحنك الخبير بخفايا النصوص ، فكتابتك حقا ممتعة وأنت مازلت في بداياتك ولكن بداياتك جميلة وهذه سانحة طيبة أن تتعرض نصوصك للنقد ، فالنقد يقوي الكتابة ويحولها من الهواية المحضة إلى الإحترافية العريضة ، فاحرص على فتح قناة مع الكتاب المحترفين هنا في هذا المنتدى وخارجه أولا كالأستاذ بشرى ، الأستاذة روزمين ، الأستاذ محسن ، الأستاذ محمد زين الشفيع ، الأستاذ أبو جهينة ، وغيرهم من الكتاب الكثر الذين لا أستطيع تذكرهم الآن ولكن حاول أن ترترتقي درجة ويكون لك إصداراتك الخاصة وكما يقولون مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة وأنت " ماشاء الله" الأميال الأولى دي عديتها ...
مع تمنياتي لك بالتوفيق