ديكتاتوريات رحيمـــة ـ رومانيــــا ـ عـروس البلقــــــان .....

الإنهيار الداوى لمنظومة دول المعسكر الإشتراكى فى أوروبا، خلّف جراحاً غائرة فى النسيج الإجتماعى لتلك الدول ، الجمهوريات السوفياتية التى إنفصلت و إستقلّت عن الإتحاد السوفياتى السابق لم تسلم هى أيضا من عواقب حالة التحول و الإنفلات المفاجئ و الفذّ من شباك الإنغلاق الإشتراكى المتينة، إلى شِراك الإنفتاح الرأسمالى الدبغة ، ركضوا مهللين بإتجاه جنة الرأسمالية فما حصدوا سوى سراب بقيعة ، و حفنة أوهام كانت قد غذّتها فيهم آلة الإعلام الراسمالى الضخمة. سياسة القبضة الحديدية التى إنتهجتها الأنظمة الشيوعية أو الإشتراكية فى تلك الدول ، كانت السبب المباشر الذى أدىّ إلى زوالها ، و بمنتهى السرعة.
رومانيا شاوسيسكو (عروس البلقان ) كانت إحدى تلك الدول ، و التى ما كادت تطل برأسها إلى فضاء الحرية الذى خلقه غياب الديكتاتور شاوسيسكو ، حتى دبّت فى أوصالها أعراض أمراض كثيرة ، أمراض نجح النظام فى تهدئتها و (تسكينها) لكنه قطعاً لم ينجح فى علاجها ، بل كان هو أحد العوامل الأساسية المسببة لها ، قد تكون حالة رومانيا أخفّ وطأة من بقية دول البلقان الأخرى ، و التى إنفرط عقدها جراء حروب التصفية العرقية و الدينية التى خاضتها فعصفت بها ، و بالأمن و الأمان فى كافة الأنحاء المحيطة بها .

فضائية الإقتصادية عرضت تقريراً مصوراً عن أطفال الشوارع Street Children فى رومانيا عامة ، و فى بوخارست بصورة خاصة ، و لجعل الصورة أكثر وضوحاً ، تعرّض البرنامج للأوضاع الإقتصادية التى تعيشها رومانيا حالياً ، هالنى حالة الإنهيار التام التى تعيشها الدولة الآن ، و التى كانت تعد يوماً ما فى مصاف الدول الأوروبية التى تتمتع بأقتصاد معتدل لحدٍ ما ، هذا إن لم يكن متقدماً . حوالى ثلث السكان يعانون من البطالة ، وبالتالى الفقر المدقع ، و الذى أفرز بدوره الكثير من الأمراض الإجتماعية التى ترزح تحتها الدولة ،و تقف عاجزة أمامها ، فإقتصاد الدولة المتهالك مثلاً عجز تماماً عن تقديم أى مساعدة للمواطن المطحون ، سواء أن كان ذلك فى شكل دعم للسلع الإستهلاكية الأساسية ، أو فى شكل مساعدات إجتماعية درجت الكثير من الدول على تقديمها للعاطلين عن العمل.

فى أحد المراكز التى تأوى اللقطاء ، و الذين يهجرهم والديهم بالمستشفيات ، ذكرت القائمة على أمر المركز أن نسبة هؤلاء الأطفال فى إزدياد مضّطرد ، ففيما مضى كانت القوانين تمنع عمليات الإجهاض فى رومانيا ، أما الآن فإن عمليات الإجهاض تجرى ، و بصورة قانونية على ألآ يتجاوز عمر الجنين الثلاثة اشهر ، و نظراً للأوضاع الإقتصادية التى تعيشها الدولة ، فإن عمليات التبنى باتت نادرة الحدوث ، هذا إن لم تكن منعدمة ، مما يفتح الباب واسعاً أمام مافيا الإتجار بالأطفال لأغراض غير قانونية ، كالتسول و البغاء و تجارة الأعضاء.
فى أحد المراكز الإصلاحية المكتظّة بالأحداث الصغار ، ذكر الكثير من الأطفال النزلاء بانهم يكرهون هذا المكان ، فلا طعام كافٍ ، و لا وسائل تسلية و ترفيه مناسبة ، و الأهم لا وجود لبرامج مدروسة تساعد على إعادة تأهيلهم للإنخراط فى المجتمع من جديد . غالبية الأطفال أحضروا للإصلاحية فى أعقاب إرتكابهم لعمليات سرقة متاجر أو منازل أو ممتلكات عامة . الطريف ان أغلبهم ذكر بأنه يحلم للإنتقال إلى السجن الكبير بدلاً عن الإصلاحية ، فأكثرهم صار أكثر مهارة فى إرتكاب الجرائم ، وبالتالى يحسون بأن الإصلاحية لم تعد المكان المناسب لمثل مهاراتهم و قدراتهم.

" كل ما أريده هو الخروج من هنا ".
قالتها الفتاة ذات الثمانية عشر ربيعاً و هى تغالب إنهمار الدموع من عينيها ، هى الأولى فى الترتيب لأسرة مكوّنة من أربعة عشر فرداً أصغرهم فى الثالثة من العمر ، تركت الدراسة لعامين لأسباب أسرية و حين حاولت العودة ، كانت الفتيات يعيّرنها بكبر السن و بلونها .!!!! رب الأسرة عاطلٌ عن العمل ، فقد سبق له العمل فى السكك الحديدية و حفر الأنفاق ، و فى كل المهن ذات الخطر العالى و الدخل المنخفض ، لكنه الآن يرزح تحت وطأة المرض و البطالة ، ينتمى فى الأصل لأحد قبائل الغجر ، و حين إنهار نظام شاوسيسكو كانت العرقية أحد الأمراض التى بدأت بالظهور و التفشى فى جسم الدولة ، وقد عانى المواطنون المتحدرون من اصول غجرية ، أو من ديانات أخرى غير المسيحية ، عانوا من عسف الآخرين و إضطهادهم بسبب إنتمائهم هذا ، و سرعان ما عادوا إلى حياة العزلة فى (الجيتو) و الأحياء الفقيرة مرة أخرى فى أطراف بوخارست. ينطوون على أحزانهم و آلامهم و خيبتهم من النظم السآئدة الآن. .
برغم مساوئ نظام شاوسيسكو الظاهرة ، إلآ أن الدولة كانت تقوم بدورها فى رعاية مواطنيها ، فعلى الأقل كانت كسرة الخبز حق يناله الكل ، حتى العاطلين عن العمل ، و كانت فرص العمل توزع على الكل ما همّ عرقهم أو لونهم أو دينهم ، أما الآن ، و فى ظل تراجع حضور الدولة و هيبتها فى مقابل المافيا و الطفيليين الذين يديرون و يحركون كل أوجه الحياة فى رومانيا ، يبدو مشهد و جحيم ديكتاتورية شاوسيسكو و المعسكر الإشتراكى القاتم ، أكثر رحمةً ، و إنسانية من فردوس الراسمالية المزعوم ، و الذى جلب الخراب و البؤس ، و الحزن و الأسى ، لعروس البلقان التى ترمّلت فى فستان زفافها الأبيض.