جماجم مائية ,,,!!

(*)

إلى روح أخي وصديقي وإبن خالتي الأثير (عوض علي الشيخ القرشي) 1983 - 2010

مشاوير طويلة مشيناها معاً وبيننا ذلك الحب والإخاء ..

فجعت فيك ,,
كل كلمات العزاء لا تعني لي شيئاً - ولن تجعل تلك الفكرة المخيفة تبتعد عن ذهني
فكرة أن أعود إلى أمدرمان ولا أجدك هناك بإنتظاري كالعادة _ تتبسم وتضحك وتحتضنني
ونمشي معاً تلك المشاوير التي لا يعلمها أحد سوانا ,,

(عوض) هذه الكلمات أكتبها وأنت لم تعد هنا ..
شيعوك إلى مقبرة لم تكن تدري عن ساكنيها شيئاً ..
وأنت بعد غض , تحلم بالغد ..

إليك أهدي هذا المشوار الذي مشيناه معاً ذات عام ,,
وأنت تعلم أني بعدك لم أعد ذلك الرجل ..

محبتي يا أخي وأنت في دار أخرى , بكرت بالرحيل إليها دون موعد
سأظل أذكرك ,,
سأظل أحبك ,,
ستظل أخي وصديقي وأبن خالتي الأثير ,,

إليك أهدي هذا الحب الجامح ..
فأرقد بسلام ,,

(*)

شارع الجمهورية _ 1996 م


كان الخفير رجلاً غريب الأطوار - أبيضاً قصيراً متورم الأرجل حاد الملامح
يمسك بيمناه مسبحة لا تفارقه , يرتدي جلباباً (سمني) اللون وعلى رأسه (طاقية) برتقالية اللون
مضى عمره نحو العقد السادس وهو يجلس أمام تلك الشركة الشهيرة التي تعد من ملامح ذلك الشارع
العريق وهو يعمل خفيراً بها لكنه أيضاً يمتلك (سيارة ) تاكسي يعمل عليها عصراً ومساءً -
لكنه أيضاً كان رغم تدينه البائن وعمله كخفير بهذه الشركة _ كان مثقفاً وكان من رواد سيجارة (البانقو)
يقضي أمسياته بين دخانها وبين مصلاته وتسبيحه ,,

بناته الأربع وإبنه الوحيد هم كل مايعرفه من أهل بعيد رحيل زوجته وأم أبناءه ,,
كان العم (سلطان) يعاملهم معاملة غريبة بعض الشئ - فقد كان بينهم ليس أباً كما نعرف الأباء
كان يشاركهم السكنى والمأكل فحسب , فيما خلا ذلك لم يكن يحفل بهم كثيراً ,,

يعود إلى بيته مساءً فيغرق بوحدته وصلواته وسيجاره ,,

(*)

(عوض) إبن خالتي _ قصيراً أسمراً - بيضاوي الوجه - كان مرواغاً كأرنب بري
متمرداً - لا يشبه فعله سني عمره القصير - كان رغم أنه يصغرني سناً أقرب الناس إلى
وأحبهم - لم أكن أراه كما يراه الآخرون _ ذلك الطفل المشاكس الذي يتمرد على عمره
ويحاول أن يبدو أكبر سناً _ كنت أراه رجلاً نضج قبل أوانه فحسب ,,

ذلك الصباح كان متجهماً - حاد الملامح تبدو عليه معالم الجدية ,,
جاءني وعلى وجهه خبر ,,

كانت جدتي (بت المختار) و(عوض) ندان متشاكسان رغم حنوها عليه ومحبته لها
إلا أنها كانت ترى فيه تلك (الشلاقة) والتعدي على أعمال الكبار ,,

جاءني وهمس بأذني بحضورها _ يبدو أنه يعلم أنها ستحاول دس أنفها بأمورنا كعادتها
صرخت بوجهه :
ياولد في شنو ؟
رد عليها وعلى وجهه تلك الإبتسامة الماكرة :
حبوبة والله مافي حاجة ,,

لم أكن أركز بحديثهما معاً , فقد كنت أحاول تجميع ماهمس به (عوض) بأذني
فلم أتبين سوى كلمة واحدة غريبة بعض الشئ :

جماجم مائية ..!!

(*)

بعد أن ألقى علي مسامعي جملته الغريبة تلك , بدأ بينهما ذلك الحوار المعتاد
وكانت جدتي تظن أن الأمر أمر مغامرة (نسائية) وحب وموعد غرامي - فقد كانت تظن هداها الله
أن (عوض) شليق و (بتاع جكس) وسوف يعود عليها أمر شلاقته بشر ما ,,

كانت تسارع إلى الإتصال بخالتي (إحسان) أم عوض كلما رأته يحادث إحداهن :
يا إحسان يابتي لمي ولدك ده _ ولدك ده الظاهر عليهو إتكلف وبلغ سنة الرجال
وحا يجيب ليك مصيبة ,,

ويبدأ (عوض) في مصارعتها على الهاتف - خجلاً من حديثها ,,
وكان نضحك عليهما فقد كان (عوض) بالغاً متكلفاً منذ سنوات و(حبوبة) ماجايبة خير ,,

نخرج من بيتها بعد زفة معتبرة وشتيمة لكلينا - ونعود مساءً ونجدها كالعادة (فتحت صفحة جديدة)
ويعود (عوض) لمشاكستها ومناكفتها - حتى تراه مرة أخرى مع (بت الجيران) فتثور ثائرتها
فقد كان لديها قناعة بأن (عوض) خطر على بنات الشعب السوداني ,,

(*)

(جماجم مائية) دي شنو؟

هكذا بابغته بالسؤال بعد أن خرجنا من بيت (حبوبة) -
رد (عوض):
ده موضوع طويل أحسن تسمعوا من عمك (سلطان) الغفير هو بشرح ليك أفضل مني ,,

توجهنا نحو شارع الجمهورية ولم نجد عم سلطان بموقعه المعتاد أمام الشركة
أصر (عوض) على أخذي إليه ببيته -
في بادئ الأمر شككت بأن عوض معجب بأحد بناته الأربع - صارحته بالأمر ضحك وأقسم بالله
أن الأمر ليس كما أتصور - ولكن عم سلطان يريدنا بأمر هام ..

وصلنا بيت عم سلطان - وجدناه يتوسط حوش البيت - يجلس على مصلاته والأنوار مطفئة
ورائحة (البانقو) تعبق بالجو -

إنتظرناه حتى أكمل صلاته _ وبدأ يحدثنا عن الأمر -
سأني أولاً :
ياكمال ياولدي سمعت عن ريحة إسمها (جماجم مائية )؟

ضحكت ورددت بسرعة :
دي ريحة (حنوط) ولا شنو ,,

رد عم سلطان بجدية :
لا دي ريحة محظورة بتتباع في أماكن معينة من العالم _ القزازة بتاعتا عليها رسم لجمجمة
زرقاء ,,

واصلت ساخراً :
دي بكون شفتها في مسلسل جزيرة الكنز ياعم سلطان قول كلام معقول ياخ ,,

قاطعني عوض هذه المرة بأن أخرج قصاصة من صحيفة باللغة الفرنسية عليها ذات الرسم
الذي وصفه عم سلطان منذ لحظات ,,

(*)

رغم عدم معرفتي باللغة الفرنسية - إلا أن الصورة والجمجمة الزرقاء
على الزجاجة أدخلا بنفسي رهبة لم أتبين لها سبباً وعرفت أن الأمر جاداً
فلذت بالصمت ,,
وتركت عم سلطان يواصل ,,

قال بعدها وصورته تتراقص أمامنا بين ظلال كثيرة في الظلام :

عندي واحد صاحبي (نيجيري) عاوز الريحة دي وعاوز معاها (بارورد أصفر)
و(زيبق أحمر) وبديكم العاوزنو ,,

قاطعته :
زيبق أحمر وبارود أصفر وجماجم مائية ؟
إنتا ياعم سلطان عاوز تلعب بعقولنا ولا شنو ؟
ودي حا نجيبا من وين الطلبات الزي لبن الطير دي ؟

(*)

مصنع الزخيرة - الشجرة - الخرطوم
بعد يوم واحد من لقاءنا بعم سلطان :


صديقي (بشير) عسكري بالزخيرة أظنه يتبع للشرطة العسكرية - (بشير) كان لطيفاً حبوباً
تلقى رصاصة على كتفه بمعركة ما بحرب الجنوب - لكنه نجا وعاد كماهو مولع بالفوضى
كان بشير يتعثر كثيراً بالكلام ويتأتأ - توجهنا إليه أنا و(عوض) لنحدثه بشأن (البارود الأصفر)
فهو عسكري ويعمل بمصنع الزخيرة كما أنه تلقى رصاصة تجعل من خبرته بالبارود خبرة عملية أكثر

سألني (عوض) وهو يركض من خلفي برجليه القصيرتين وشكله (الدبدوبي) الذي كانت تصفه جدتي وجدته (بت المختار)
بأنه (عامل زي علاقة المفاتيح) _ سألني :
صاحبك الماشين ليهو ده رتبتو شنو؟
أجبته :
والله ماعارف لكن بشير ده العسكري الوحيد البعرفو شغال في الحتات الفيها بارود
وهو زول شيطان بكون عارف البارود الأصفر ده شنو ..

وصلنا إلى المعسكر وتوجهنا نحو بوابته وسألنا عن بشير - ماهي إلا دقائق حتى جاءنا بشير
- ما أن رآه (عوض) _ حتى صاح معترضاً :
ياكمال صاحبك ده (جندب) ساي ..

رددت مستوضحاً :
جندب يعني شنو ياعوض ؟

رد عوض وقد بدا يائساً :
جندب يعني عسكري نفر ساي - ده مابكون عارف التكتح ياخ ..

جلسنا مع بشير وبدأنا بالشرح - وقد بدا مهتماً - ووعدناه بأنه سيكون شريكاً لنا
في الأموال الطائلة التي سنجنيها من صفقة البارود الأصفر ..

ودعنا بشير وعاد إلى المعسكر بعد أن وعدنا بإجراء اللازم ..

(*)

جاءنا بشير مساءً وعلى وجهه مسحة درامية ألفتها كثيراً
فصديقي بشير كان يهوى المبالغة والتهويل ويجنح خياله كثيراً إلى تصور
ما ليس له وجود ..

أجلسنا عوض وأنا أمام بيتنا ثم بدأ بسرد روايته التي بثت الرعب بقلوبنا رغم
معرفتي لهوايته المحببة في تضخيم الأمور - إلا أن حديثه كان خطيراً _

قال بشير بعد أن تأتأ وتلعثم :
بعد ما مشيتوا مني الصباح - رجعت المعسكر
وسألت تحت تحت كده عن البارود الأصفر - مالقيت زول أداني رد
بس أي زول سألتو شعرت بيهو خايف ومخلوع من سؤالي ..

المهم عمك صول كبير كده وقديم في مصنع الزخيرة - جراني براي كده
ونصحني باني ما أفتح الموضوع تاني لأنو خطير جداً...!!