كيف تكتب نعياً... نموذجاً (عبدالسلام)

غرائب الدنيا لا تنفد.. وعجائبها لا تنتهي.. وحبكاتها الدرامية التي يصيغ القدر فصولها تظل أبلغ من أي كاتب.. لعل صدق من قال أن الطبيعة أفضل من الفن، وأن تعبيرها أنجع من تقييد المبدع.
وأخبار الموتى تأتي في كل يوم بطرق مختلفة ومتعددة، فمن نشرات الأخبار التي تحصي بلا رحمة مئات القتلى وآلاف الجرحى، الى نشرة أمدرمان التي تداهمنا بنمطيتها المبتدئة بـ(أيها السادة)، أو عبر تلفونات منتصف الليل التي تراها فيلج القلب ويردد اللسان "إن شاء الله خير". كلها يكتنفها التبيان المبهم منضويا بخفة في سبحات الجهل العقلي بالحدث. ولكن للأقدار أياد أخرى.. كصديق يودعك بحرارة وما هي الا هنيهة فيأتيك خبر رحيله (المفجع؟!).. لا.. الفجيعة لغة.. واللغة لا تعبّر عن المرء.. فهي من مخلوقاته وهو أكبر منها.. نحن أكبر من الفجيعة ذاتها، ونحن أكبر من الموت، ولا أدري فيما يخصني أي تعريف لغوي قد يشرح خلجات نفسي أو يبين عن مقدار إحساسي وشعوري!
من إبداعات الأقدار أنها تتفنن في محاولاتها المستمرة لإصابتنا بما نسميه اصطلاحا (فجيعة!).. وتحاول جاهدة –وهي لا تحتاج معنا لذلك- لإدخال حالة الذهول في رتابة حياتنا، وخلق الدهشة وفغر الأفواه.
ومن المدهشات أن عبد السلام قد رحل!! وليس في رحيل إنسان من دهشة.. ولو عرفت بموت عبدالسلام كما في نشرة (أيها السادة) وانا أتجرع شاي الصباح لبكيت وانتهيت. ولو عرفت بموته وانا أجلس للتلفاز متهيئا للمعرفة عن طريق البي بي سي لبكيت وأنتهيت. ولكن محاولة الأقدار لتجاوز الفجيعة اللغوية مستمرة.. وعبدالسلام في موته المأساوي يقبع أمامي في كل يوم بالمنابر العامة وأنا تائه الذهن اقرأ الأخبار وعبدالسلام مجرد رقم مثله مثل (مئات الجرحى) لا أعرفهم وإن كانت تقرصني لسعة الحزن عليهم.
والباقر (الحزين) بمعرفته يقول بعد أيام ثلاثة من ذهاب عبدالسلام (الغاطس) في الدماء و(السابح) في الغربة نريد أن نكتب نعياً (لصديقنا) عبدالسلام..
للأقدار ألف طريقة وطريقة.. ومنها أن تجهل وتجهل وتجهل حتى تكتب عند الله جاهلا.. قلت سرا دعك في حزنك على من أسميته (صديقنا) وتصديت جهرا لكي أكتب نعياً.. من المتوفي؟! عبدالسلام!!
له الرحمة والهم آله وذويه الصبر وحسن العزاء (هكذا) تكتمل المأساة كأبرع ما تكون، وهكذا يبقى إسخليوس مجرد تلميذ (بليد) في مدرسة الأقدار (الأولية) وهكذا يخطو المرء في جثة أخيه ويصالح اللغة على حساب فجورها الخصيم مع ابن أمه.
من المتوفي؟ عبدالسلام؟! حسناً لأكن علميا وأعرف كيف توفي وأين هذا العبد للسلام.. سأذهب للمنابر عسى أن تفيدني معلومة ما في الكشف عن عبدالسلام (المجهول).. ناشط في مجال حقوق الإنسان! جميل .. رقم من ضمن (السادة). مات مقتولاً..(حزين، مأساوي).. لكنه لا زال رقما في البي بي سي.
في لندن....
في لندن؟!! وبإرتياب طفيف يدفعه الجهل البشري الى الأعماق مكذبا الريبة ودامغا إياها بالجهل أهز رأسي نافيا.. لا ليس هو ولا يمكن أن يكون.. ولتكتمل المهزلة فإن الإسم يرد في المفتتح (عبدالسلام حسن....) فقط حسن... ولكن لا يظنن ظنان أن عبدالسلام الجد اذا ظهر بين طرفي حسن لكان إختلف الأمر.. لا .. فالأقدار لها الف طريقة وطريقة.. وحسن (فقط) يقف بيني وبين معرفة ستؤرق راحتي، وتعصف بيومي هذا..
أالجهل هو؟
وهناك خيط للعزاء آخر ثبتته الإدارة.. ولم اقرأ فيه كثيرا ومررت على المداخلات بسرعة.. وأنزل وأنزل وأنزل وفجأة تخبطني طوبة على وجهي.. وتسمرت يدي على الماوس.. لماذا تقبع صورة عبدالسلام على المنبر.. عبدالسلام بشحمه ولحمه وجثته الممتلئة وسمته العملاق.. عبدالسلام بعرجته وعصاته وضحكته وقفشاته وأفكاره وجنوحه وخياله.. عبدالسلام بلطفه وظرفه وفنه وفكره ونضاله.. لماذا يقبع عبدالسلام على الشاشة.. عبدالسلام؟!! أهذا أنت؟!!
مدحت يا صديقي تعال وأنظر.. هذا عبدالسلام
(صديقنا).. صديقنا!!! صديقنا ااااااه.. هكذا..... هذا ما عناه العفيف بـ(صديقنا)

عبدالسلام؟!!!
للأقدار ألف طريقة وطريقة لتكذِّب أبا تمام في قوله:

على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب

بل من عجائب الأيام أنها تعج بالعجائب ومع هذا فإنا نعجب في كل يوم
عبدالسلام؟؟؟
سأعود

الأخ قصي بأدبك العالي تقلب فينا أحزانا موجعة ونحن لا نصدق أن عبد السلام غادر ولن يعود ولا نملك إلا التسليم بقضاء الله وقدره وأن نترحم على روح فقيدنا الغالي ولي مع عبد السلام عليه الرحمة ذكريات مضيئة إبان إنتفاضة إبريل سأفصح عنها قريبا بل عبر هذا البوست فعبد السلام أستاذي وزميلي وهو يتقدمني في الرول بعامين وهو صديقي وإن تطاول العهد بيننا ولما كان عندي الكثير لأقوله عن الفقيد فحتما ستكون لي عودة.

تعرف، يا قصي، من وجه هذه الغرابة، ثمة إنسان، ظلّ يكتب هنا حينا من الدهر، وقبل أربع سنوات تقريبا، أهداني في مناسبة زواجي زهرة وكلمات طيبة، مات بعدها بوقت قصير من غير أن يتاح لي حتى إمكانية أن أعرف من أي ينبوع في داخله فاضت تلك التهنئة الآسرة!.

أتذكره الآن..



كان يُدعى عبدالماجد فرح يوسف.

Quote: من وجه هذه الغرابة، ثمة إنسان، ظلّ يكتب هنا حينا من الدهر، وقبل أربع سنوات تقريبا، أهداني في مناسبة زواجي زهرة وكلمات طيبة، مات بعدها بوقت قصير من غير أن يتاح لي حتى إمكانية أن أعرف من أي ينبوع في داخله فاضت تلك التهنئة الآسرة!.

Quote: أتذكره الآن.. كان يُدعى عبدالماجد فرح يوسف.

ثم ماذا نصنع بأسير (إنتقاء) النجب!!

ولتكتمل الفاجعة، فإنها تأتي في أشكال متعددة.. وفي أوقات حرجة.. لا تمضي أيام معدودة من توقيع إتفاقية السلام وحضور قرنق للخرطوم حتى تطيح الأقدار بآمال الملايين وتعصف بها وتذروها للرياح!!
كما الحلم.. وكاننا نشاهد مسرحية سريالية بها جرعات عبثية وأرضية حركة واقعية (مسرحية).. لا ينقصنا في دنيانا هذه الا نظارات المشاهدة (3d) حتى يكتمل الحلم وتنضج المتعة المأساوية.
وعبدالسلام.. لعنة الله عليهم ولعنة الله علينا ولعنة الله على الغباء.. خطرت بعرجتك في طرقات العالم تنافح عن الظلم.. ومضت سنين الخوف منهم والمستبد بهم أيضا منك بعرجتك وصمامتك.. مضت وولت فإذا بهم يخرجون علينا بغبائهم الممعن في الغور.. ليتهم فعلوها حتى يبرد الحشا عليك.. ويسكن الفؤاد.. وتسكت الخواطر.
ليتهم فعلوها بل إنهم فعلوها، هم يفوقون سوء الظن العريض... كلما اسأت الظن بهم وجدتهم اسواء من ظنك..فكرت فيهم... هل تراهم أشعلوا الحرب الكونية الثانية، وتراهم ألقوا قنابلهم هورشيما ونجازاكي، هل هم من أباد اليهود بالمانيا وقتل الأطفال بغزة وحيفا ودير ياسين، هل هم من صلب المسيح وضرب محمد ونشر زكريا ورمى بإبراهيم في النار، هل هم من اباد الديناصورات والأجناس البشرية السابقة!!نعم قد فعلوا وأزيد (بعضهم من بعض) وتشابهت قلوبهم فتشابهت أفعالهم.. كنتم اردأ أمة أخرجت للناس تقطعون الأرحام وتقتلون النفس وتملأون الأرض فسادا.. اذكروا فتنة الله بكم اذ سميتم أنفسكم إخوانا (كذبا وبهتانا) فقطعكم الى شعوب وأوطان، وبذر بينكم البغضاء الى يوم القيامة.. الا وسوف يختلفون فيما بينهم، الا وسوف يقتلعون عن أرض السودان إقتلاعا، الا أني لصميم وعدك لراج ولبر قسمك لمنتظر:
والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل اذا يسر.. هل في ذلك قسم لذي حجر..

الا قد أقسمت الا فبر بقسمك يااااارب... الا قد أقسمت الا فلقد بلوتنا بإخوان هود، وعاقري ناقتك، ومطاردي كليمك في سمت واحد.. الا فخذهم كما أخذت إرم ذات العماد، وكما ارعبت من جابوا الصخر بالواد، وكما أخرجت العبرة في ذي الأوتاد.

كما الحلم أخذتهم ، وكما الحلم خذ هولاء.. من أين أتى هولاء؟ من أين أتوا؟
أمن أصلاب الجلافة ومن بطون القسوة، أرضعوا من ثدي الحقد وشربوا ألبان الكراهية.. أما فيهم عقل يشتعل ولا قلب ينبض.. أما نظروا بعين الى الجمال وترنموا الى سماع مطرب..ومن سمع ولم يطرب فهو من أصحاب امامنا الغزالي.

من أين أتوا ؟ والى أين سيأخذون هذا الشعب المسكين الغافل ؟!

اما ودربك قد (مرق) .. ومرقت عنا كالسهم من رميته.. فإني أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه... سائله لك أن يشملك في جنابه، ويغمرك بعطفه وكرمه وحبه.. ما ذهبت اليه بكثير صلاة ولا بصيام، ولا غدوت اليه بديانة فاسدة.. بل ذهبت بحبك للناس، وعملك من أجلهم، وهل دين غير الناس؟ وهل دين سوى الحب؟
أما ودربك قد مرق فإني أرجو أن أرى يومهم، وأن أشهد إقتلاعهم، وأن آتيك فرحاً بالبشارة أو تأتيني
فإلى لقاء
ليته قريبا
إن شاء الله