فقد عاش الإنسان في هذا المكان قبل أن يدون التاريخ كما يقول مؤرخون وعلماء آثار، إنه "جبل البركل" الموقع الأثري المهم الذي دخل أخيراً ضمن التراث العالمي الواجب حمايته دولياً.
ومنذ قرون ظلت منطقة الجبل مكاناً لهجرات مختلفة وبعثات أثرية من كل أركان الدنيا تجوب باستمرار المكان تنقب في تاريخ ضارب في القدم وسكان المنطقة لا يأبهون كثيراً بهذه الحركة الغريبة ولا يكترثون تماماً كالجهات الرسمية التي ظلت تغض طرفها وكأنها تقول كما يقول الأهالي هناك، "دع هؤلاء الخواجات يحركون هذه الحجارة والصخور الصماء، كما يشاءون". هذا هو الانطباع الذي كان قائماً إلى وقت قريب.
صحوة رسمية
إلا أن صحوة رسمية، ولو جاءت متأخرة، بدأت تبرز منذ سنوات ليس بالكثيرة، أقامت الحكومة قرية سياحية بمعاونة مستثمرين أوروبيين ولا تزال هناك مساعٍ جارية لاستعادة آلاف القطع الأثرية التي نهبت من المكان، إضافة إلى طموحات سياحية في مشروع يهدف إلى إقامة فنادق ومنتجعات لجذب السياح غير أنه لم ير النور إلى الآن.
ويعد جبل البركل واحداً من أشهر المواقع الأثرية التي يعود تاريخها لفترات مملكة نبتة القديمة.
واتفقت بحوث تاريخية عدة على أن الجبل كان يشكل العاصمة الدينية للمملكة، إذ يشتمل على معابد متعددة وأهرامات نصبت على الطراز الفرعوني تحاصرها الرمال من كل جانب، كما يوجد معبد "الإله موت" بجزئه المنحوت في باطن الجبل، فضلاً عن قصور أشهرها قصر الملك "نتكامني".
ويشكل الجبل الواقع شمالي مدينة كريمة معلماً تأريخياً بارزاً يربط الحاضر بماض امتد لقرون طويلة، إذ ما يزال يقف شامخاً يحمل على سفحه وفي جوفه أساطير وحقائق وأسراراً صامتة وغامضة تماماً كنقوش الكتابة "الهرغلوفية" التي حيرت الجميع.
فترات حضارة الجبل
ويقسم علماء آثار فترات حضارة الجبل لثلاث حقب زمنية متفاوتة، الأولى؛ انطلقت قبل أن يعرف الإنسان التاريخي وتسمى "حضارة كوش ونبتة ومروي" التي تشكل في مجملها أسطورة دينية مدونة في نصوص قديمة تحكي تاريخ هذا الجبل العتيق.
وتؤكد الدراسات الأثرية أن جبل البركل جبل تاريخي امتدت سمعته منذ العام 1580ق.م وحتى اليوم، وهو فترة العصر الحجري القديم، وكل الآثار والشواهد القائمة في الجبل حسب رموز الكتابة الهيلوغروفية إلا أن حضارة البركل سبقت الحضارة الفرعونية القديمة في مصر.
وقصة هذا الجبل طبقاً للأبحاث المتداولة هي عبارة عن أسطورة دينية معقدة تحكي تاريخ المنطقة الممتدة من مدينة أسوان جنوبي مصر وحتى منطقة البركل، حيث كان قدماء المصريين يعتقدون بأن الجبل هو نهاية الدنيا أو عالمهم الروحي، والآثار الموجودة عليه تدل على أنه كان قبلة رئيسية لعبدة الإله أمون رع المعبود الوحيد في تلك الفترة، وكان ملوك الجبل يمتلكون خداماً وحشماً داخله، ويعتقد الكثيرون في تلك الفترة أن أمون هذا هو جبل البركل نفسه.
إلهة الشر تقصد ملكة الفراعنة
وتشير أسطورة متداولة في البحوث التاريخية إلى أن إحدى ملكات الفراعنة قصدتها إلهة الشر وحاولت قتلها ونجت الملكة بنفسها وهاجرت إلى الجنوب لتستقر في منطقة الجبل قبل أن يأتي أحد ملوك الفراعنة ويدعى أمليتو لإرضائها وإرجاعها إلى مصر ورضيت ورجعت، لكنها عادت مرة أخرى إلى الجبل وهذه تعرف حسب مؤرخين بأسطورة الرأس المقدس.
ويتشكل الجبل، بحسب أساتذة أجلاء في قسم الآثار بجامعة الخرطوم، استطلعت رأيهم قبل مدة، من مجموعة كتل تمثل ثلاثة مقرات ضخمة كانت عبارة عن معابد، أكبرها خاص بالملك أو الإله والأخريات خاصات بزوجاته.
ويشير الأساتذة إلى كتلة صخرية أشبه بالإبرة توجد على قمة الجبل، ويرى هؤلاء أنها تتمتع بأهمية كبيرة وهي عبارة عن رمز للمليكة المقدسة، بالإضافة إلى معبد آخر بعيد يعرف بمعبد "دوت" وهو مكان خصص لولادة "الملكات" يقمن داخله طوال فترة الحمل ثم يضعن بداخله.
وهناك رموز أخرى على الجبل من الحجر في شكل ثعبان الكوبرا وصورة لإنسان يعرف بقرص الشمس وعلى رأسه تاج وكوبرا.
معبد أمون الكبير
أما هذه الآثار من حيث الأهمية فأهمها هو معبد أمون الكبير الذي كان يشكل بيت الزعامة الدينية في ذلك الوقت وبمثابة الأماكن المقدسة، حيث يأتي إليه الناس حجاجاً في كل عام باعتباره مكاناً مقدساً ورمزاً دينياً مهماً.
وعلى امتداد تاريخ كوش، يبدو أن جبل البركل كان المركز الرئيس للتتويج الملكي والطقوس الملوكية.
وكان كل ملك جديد لكوش يحضر إلى البركل لتعزيز شرعيته وتتويجه عن طريق الإله الذى يسكن داخل الجبل، كما فعل بالتحديد الملوك في عصر المملكة الحديثة. وهذا التقليد تمَّ إلغاؤه عن طريق الملك ارجمنيس (أركامانى)، الذى أخذ الأمر بيديه عندما صدر له الأمر بالانتحار، فقاد قواته إلى المعبد وقتل الكهنة.
وصحة هذا التقليد تشير إليها حقيقة أنه حتى القرن الثالث ق.م.، سافر الملوك مسافة 230 كيلومتراً ليدفنوا في الأهرامات التي شيدت بمواجهة جبل البركل في منطقة نورى، آخذين في الحسبان وجود معبد في الوادي، غالباً لغرض التحنيط، يجوز للمرء أن يفترض أن معظم الملوك قاموا بالرحلة إلى الجبانة وهم مازالوا أحياءً.