من قاع الذاكرة ... بيت الكراكة ...

تلك هي التسمية التي أطلقناها على المنزل المهجور الملاصق للفسحة التي نلعب فيها الكرة .. نسبة لوجود كراكة قديمة ( تراكتور ) تقف أمام المنزل .. عندما يركل عبود الأشتر الكرة وتسقط داخل بيت الكراكة .. لا أحد يتجرأ بتسلق الحائط وا حضار الكرة .. وحده عاطف الأطرش من يفعل ذلك .. فهو أكثرنا شجاعة أو هكذا كنا نعتقد .. تعرض عاطف لاصابة في المدرسة أفقدته السمع .. لذلك لم يكن على علم بالروايات الكثيرة التي كانت تروى حول بيت الكراكة .. مثل الضوضاء التي تصدر من البيت ليلا .. والخطوات الثقيلة التي تجوب فناء المنزل .. وذلك القط الأسود الضخم الذي تشع عيونه ليلا .. كان طروشة وهو اللقب الذي كنا نناديه به بعيدا كل البعد عما يدور داخل بيت الكراكة .. لذلك لم يكن يتردد في احضار الكرة كلما سقطت داخل البيت المهجور .. بكل همة وسعادة دون ان يسأل نفسه لماذا يحجم الآخرون عن فعل ذلك .. ونحن لم يكن يعترينا اي احساس بتأنيب الضمير تجاه ذلك .. لا عتقادنا ان أمثال عاطف يشملهم الله برعايته وحمايته .. ولن يصيبهم مكروه مهما فعلوا .. فاذا بأسرة عاطف تقرر فجأة الانتقال من حينا الى حي آخر .. وهو ما لم يكن في حسباننا .. كان مشهدا مؤثرا جدا منظر طروشة وهو يعتلي العفش الذي امتلأ به اللوري .. ملوحا لنا بالوداع بكلتا يديه .. مسحنا بأيدينا ظلال دموع كادت ان تغافلنا وتنساب على خدودنا .. فقد كان الموقف أكبر من ان تستوعبه مشاعرنا وعقولنا الصغيرة .. بعد أيام من رحيل طروشة امتلأ بيت الكراكة بكراتنا الطائشة من كل حجم ولون .. دون أن يجروء أحدنا على اعادت أيا منها .. وحده طروشة كان يستطيع ذلك .

التقيت طروشة ( عاطف ) قبل شهور .. صار من أكبر تجار الاسبيرات
في ولاية نهر النيل .. وللأسف الشديد لم يتذكرني .. رغم محاولاتي
اليائسة تذكيره بعدد من المواقف والقصص .. أو لعله لا يريد ان يفعل
كان يضع جهاز على أذنيه يمكنه من السمع بوضوح .. ذكر لي أنه أحضره
من المانيا .. ودعت طروشة .. وأنا أكثر حزنا .. فأحد الذين كانوا جزءا
من تاريخي الطفولي يتنكر لذلك التاريخ .. أو لعله يريد اعادة صياغته أو على
الأقل يريد ان يكون خارج محيطه .. لأسباب تخصه وحده .