" متران تحت التراب " ..مقال شيِّـق >

-----
سبق أن كتبت مقالاً حاولت فيه ترشيح "أكبر سفاح" في التاريخ... وبعد استعراض إنجازات هولاكو وهتلر وستالين وجنكيز خان قررت اختيار "البعوضة" كونها تسببت بوفاة 250 مليون إنسان بالملاريا في المائة عام الأخيرة (وهو رقم يفوق بمراحل أعظم مجزرة أو معركة معروفة)!!

.. غير أنني عدت اليوم لعالم البشر وقررت ترشيح قابيل (ولد آدم) كأعظم سفاح في التاريخ؛ فحين قتل أخاه هابيل كان عدد أبناء آدم أربعة فقط مما يعني قضاؤه على "ربع" البشر المفترض ظهورهم في العصور التالية.. وهذا الاستنتاج يسانده حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لا تُقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل"!

.. غير أن قابيل لم يسن فعل "القتل" فقط، بل وسنة "الدفن" تحت التراب تقليدا لذلك الغراب.. فحين قتل شقيقه هابيل تركه في العراء ولم يدْر ما يصنع به لأنه أول من مات من البشر فحضرت السباع لأكله فحمله على ظهره أربعين يوماً (وقال ابن عباس سنة) حتى ظهرت ريحته وأنْتن فأراد الله أن يُريه سُنته في دفن الموتى فبعث غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له حفرة ثم غطاه بالتراب فقال قابيل {يَا وَيْلتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكونَ مِثلَ هَذا الغرَابِ فأُوَارِيَ سَوْأة أَخِي فأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِين}...

ورغم وجود طرق أخرى هذه الأيام للتخلص من الموتى (كالحرق والتحنيط والتغريق أو حتى ترك الميت للضباع والنسور) إلا أن وسيلة الدفن ما تزال الأكثر استعمالا وتفضيلا في العالم أجمع..

فرغم أن جميع الديانات والثقافات تملك فكرة واضحة عن عالم البرزخ وما يواجه الميت في قبره إلا أن قليلا منها يتطرق لما يحدث لمادة الجسم نفسها. ومن هذا المنظور يُعد "الدفن" الوسيلة الفضلى لتحليل مُركبات الجسم كونها تتوافق مع عناصر الأرض وتندمج معها بسهولة.. ليس هذا فحسب بل يساهم هذا التحلل (لمؤاخذة) في تخصيب التربة وتكرير عناصر الأرض وإعادة استخدامها لإنتاج النباتات والوقود وإطعام الأجيال التالية وهي عملية تدوير حقيقية تذكرنا بالآية الكريمة {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}!

وباستثناء العظام تتطلب أجسادنا من 10 الى 12 سنة لتتحلل بشكل كامل تحت التراب. ورغم أنني لم أعثر على نص أو تنظيم يحدد عمق القبر إلا أن الدارج في معظم الدول هو الاكتفاء بمترين تحت التراب.. فعلى هذا العمق تكون درجة الحرارة دافئة ورطبة بما يكفي لتحلل الجثة ناهيك عن كبت الرائحة وحمايتها من الحيوانات المفترسة (وهو عمق أصبح إلزاميا في دول كبريطانيا وأمريكا وفرنسا)!!

... أما أطرف ما سمعته بهذا الخصوص إن كان في الأمر شيء طريف فهو وجود دراسة حول (سرعة التحلل) قام بها البروفيسور رينر هورن من جامعة KIEL بألمانيا..

فبعد مقارنة عشرات الرفات القديمة بعشرات الرفات الحديثة اكتشف أننا (أبناء هذا العصر) نستغرق وقتا أطول للتحلل "والذوبان" تحت التراب..

أما السبب في رأيه فهو استهلاكنا لكميات كبيرة من المواد الاصطناعية الحافظة بعكس آبائنا الأولين الأمر الذي "يحفظ" أجسادنا من التحلل والتعفن (لمؤاخذة) بالسرعة الكافية!

فهد عامر الأحمدي

جريدة الرياض السعودية