( آخــر كبـايــة شــاي ) .. الفرق الذي تشكله 30 سنتمتراً ..

حملت الاخبار من الخرطوم خبراً عن ( ست شاي ) هربت من أفراد ( الكشه ) فسقطت على قطعة معدنية ادت الى وفاتها ..

**
ماهو الفرق الذي تشكله 30 سنتمتراً ؟
ربما يبدو ظاهرياً ان هذه مجرد مسافة ضئيلة لا اهمية لها ، ولكنها بنظرة أكثر دقة يمكن ان تكون حاجزاً بين عالمين بينهما من البعد الكثير ..!
**
في غرفة المكتب الفخمة تلك ، كانت الأشياء تأخذ أماكنها بعناية ، فالجداران مصقولة ومغطاة بالستائر الفخمة ذات النسيج الخاص القادم من خلف البحار حيث تجيد ماكينات النسج عملها ، والسقف موضوع بعناية ، ومصنوع من المواد التي حين تنظر اليها لأعلى تعطيك إحساساً كاذباً بان لا شيء خلفها او فوقها مطلقاً .. لا شمس ، ولا عدالة !
الأثاث نفسه ممتلىء بالفخامة ، ذو ثمن مرتفع يبدو واضحاً من اللمعان الذي ينعكس منه ، والذي يخبر عن نظافة وعناية تطاله كل حين ، بينما تدوس الأقدام على فرش وثير ، مجلوب من بلاد الفرس ، حيث صناعة السجاد تمتزج بتاريخ التتار ، رواد ( الكشات ) التاريخية وأصحاب السبق فيها !.
**
اجهزة التكييف تجعل درجة الحرارة داخل ذلك المكتب الفخم منخفضة كثيراً ، فلا شيء يمكن ان يجعل الجو حاراً هنا ، الحرارة المرتفعة هي شيء خاص بالذين لا يملكون اجواء مكيفة ، او الذين لديهم مشاكل معينة تجعل درجة حرارتهم ترتفع ، دون الحديث عن ارتفاع حرارة الجيوب لدى الكثيرين ، وتلك كلها انواع من الحرارة العالية لا يمكن ان تعرف طريقها الى ذلك المكتب ، فهي اشياء توجد هناك ... تفصلها عن المكتب الفخم هذا .. ثلاثون سنتمتراً كاملة !.
**
ثلاثون سنتمتراً هي سمك الحائط الذي يفصل ذلك المكتب الفخم عن ما حوله ، حيث الحرارة اللاهبة ، وحرارة السعي المحموم لكسب العيش ، تلك الحرارة التى يحول حائط المكتب ، ذو الثلاثين سنتمترا ، بينها وبين الأجواء المكيفة في الداخل !.
انها مسافة ضئيلة ، ولكنها تفصل بين عالمين متناقضين كثيراً : عالم السلطة ، حيث تدار الأمور ، وتوضع الخطوط العامة لحياة الناس اليومية ، وعالم المواطنين ، حيث تسير الحياة بطريقتها المعروفة ، ولكن المشكلة ربما تكون فى هذه السنتمترات القليلة نفسها ، فلو اتيح للذين يجلسون داخل تلك المكاتب الفخمة ان يتخلصوا من هذه الحوائط ذات السنتمترات الثلاثين ، لربما كان احساسهم بالحياة خلف ذلك الحائط أفضل ، وقراراتهم نحوها اكثر واقعية .
**
في عالم كرة القدم يكون الحكم عادة داخل الميدان ، حتى يتمكن من معايشة اللعبة ، ومتابعة مجريات الامور عن قرب ، ولم نسمع عن اي اقتراح بوضع الحكم داخل غرفة زجاجية مغلقة ، وتزويده بالكاميرات والميكرفونات ليدير المباراة من داخلها ، رغم ان هذا ربما يبدو اقتراحاً مدهشاً ، من فوائده ان الحكم لن يتعرض للقذف بالحجارة ، ولن يتمكن من سماع عبارة ( التحكيم فاشل ) على الأطلاق !
**
يجلس المسئول داخل مكتبه خلف السنتمترات الثلاثين ويشعر برغبة قوية فى اصدار قرار ما ، ولكنه لا يعرف اى قرار سيصدره ! فيأخذ فى التفكير عن قرار يصدره اليوم ، حتى لا يشعر ان نسمات التكييف هذه قد مرت هكذا دون جدوى ، ولما يعييه التفكير يطلب كوباً من الشاي ، فيأتيه الشاي فوراً فى أكواب نظيفة ، وحافظة بهية ، مع الماء المثلج ، فيرتشفه بتلذذ ، وما ان يفرغ من آخر رشفة من كوب الشاي ذاك ، حتى يجول بخاطره هذا الشاي ، كيف يا ترى يبدو مذاقه خارج هذا الجو المحيط به ؟ ويتذكر تلقائياً ( ست الشاي ) .. فيبدو مشهدها فى ذهنه متناقضاً مع الجو الفخم المحيط به .. مشهداً عشوائياً بالمقارنة مع الترتيب المحيط به .. اين ( بنابر ) ست الشاي بالمقارنة مع تلك الوسائد الوثيرة في مكتبه ؟ ثم سرعان ما يظلم المشهد فى مخيلته ، وتهب عليه نسمات التكييف العليل فيتذكر اللهيب المنبعث من ( كانون ) ست الشاي فى جو خانق ، ويقتنع تماماً ان مشهد ست الشاي فى المدينة مشهد متناقض مع الجو المحيط به ، ويتعجب من الذين يرضون بتناول الشاي فى تلك الاجواء التى تفصله عنها ثلاثون سنتمتراً كاملة ... لا بد ان الوضع يحتاج لتصحيح إذن ، فيقفز من مقعده فرحاً ... لقد وجد اخيراً القرار الذي سيصدره !
**
يسير القرار عبر دوائر المؤسسات الرسمية ، وفي اليوم التالي تخرج سيارات البلدية ، تلك ( الدفارات ) الشهيرة وتتوجه الى وسط المدينة وفى جوفها رجال البلدية ، فرحين بتنفيذ مهمتهم الفدائية التى اوكلت لهم !.
**
المشهد فى ذلك المكان وسط المدينة يبدو عادياً ككل يوم : حلقة صغيرة من المقاعد البلاستيكية تناثرت بغير نظام حول مكان ( ست الشاي ) .. مجموعة من الناس يرشفون الشاي ويتبادلون الاحاديث حول امور شتى ، ربما لا يربط بينهم شيء ما ، ولكن جمعتهم تلك الجلسة التى طرأت فجاة هكذا ، وست الشاي نفسها لا تكف سواعدها عن الحركة ، تناول هذا كوبه ذو النعناع ، وتضيف بعض السكر الزيادة لكوب ذاك ، دون ان تنسى سؤال زبون ثالث عن قهوته المفضلة .. ووسط كل هذا لا يكف تفكيرها احياناً عن التوجه الى حيث تركت اسرتها ، تلك الاسرة التى تمثل دافعاً قوياً لها لتكون فى هذا المكان ، فكسب العيش ليس ترفاً على اى حال ، ولا أحد سيعجبه الجلوس فى مقعد صغير وسط لهيب النار مع الحركة المتواصلة وتلك الكشات التى يكون انتظارها كما البلاء ... شر من وقوعها !.
**
من بعيد يبدو دفار الكشه قادماً ، فتعم المكان حالة من الفوضى ، وتشرع ( ست الشاي ) فى لملمة أوانيها وأشيائها بسرعة ، فهذه الأشياء هي أدوات عملها ، أكواب ، كفتيرات ، بنابر ، علب السكر والبن ، وبينما تلتقط بعضها ، تتناثر منها البقية فى الأرض ، فمهارة ست شاي عادية موجودة فى الجهة الخارجية من الحائط ذى الثلاثين سنتمتر ، ليست كمهارة المسئول القابع فى الجهة الاخرى من الحائط ، بطبيعة الحال !
**
تركض ست الشاي بسرعة ، انها لا تخشى على حياتها بالطبع ، ولكنه تخشى على مصدر رزقها ، على أدواتها ، لأنها تعني حياة ومستقبل اسرة كاملة ، وليس شخصاً واحداً فقط ، وبينما تركض ، يطاردها افراد الكشه بروح متحمسة مدفوعين برغبة قوية فى مصادرة أدواتها وربما اقتيادها هي الى حيث تتم محاكمتها بالغرامة ، بينما لا يملك الحضور الا المشاهدة الممزوجة باللعنات الخفية التى تنهمر بطريقة ( ربنا يجازي الكان السبب ) ..
**
تتعثر خطوات ست الشاي بطريقة مفاجأة ، فتسقط ارضاً ، وتنغرس في جسدها قطعة من المعدن ، ربما تكون احدى الارجل المعدنية لمقعدها ، وربما تكون شيئاً آخر ، لكنها قطعة من الحديد ، إنغرزت في جسدها نتيجة لمطاردة ( ناس الكشه ) ، وهذا هو المهم .
**
فى الجانب الخارجي من الحائط ذي الثلاثين سنتمتراً تتلاحق انفاس ست الشاي ، وتبدا بالخفوت شيئاً فشيئاً ، وتتعالى صرخاتها المستغيثة ، بينما فى ذات اللحظة وفى الجانب الداخلي حيث ذلك المكتب الفخم ترتفع النسمات العليلة المنبعثة من جهاز التكييف ، وترتفع معاها الموسيقى المنبعثة من جهاز الكمبيوتر الموضوع على المكتب الفخم ، المهيب .
**
صور كثيرة تمر امام ( ست الشاي ) فى لحظاتها الأخيرة تلك ، والغريب انها جميعاً صور تنتمى الى الجانب الخارجي من حائط الــ 30 سنتمتراً ذاك ، تختلط فيها وجوه عائلتها البعيدة هناك مع رائحة القهوة المنبعثة بقوة من الأناء المنكفيء على الأرض ، لا تهتم فى تلك اللحظة بشيء غير الاحساس المؤلم الذي يتسلل الى داخل روحها ، احساس انها تترك خلفها افواهاً بحاجة الى طعام ، اسرة بحاجة الى مستلزمات الحياة اليومية ، فى جزء من العالم تختلف فيه الحياة بصورة مأساوية بين طرفي حائط سمكه 30 سنتمتراً .
**
فى ذات اللحظة التى تخرج فيها ( ست الشاي ) نفسها الأخير ينتبه المسئول الى كوب الشاي الموضوع على مكتبه الفخم ، لقد تبقت فيه قطرات قليلة ، ولكنها لسبب ما تبدو مغرية الى حد كبير فى تلك اللحظة ، فيتناولها ويجرع ما تبقى منها فى رشفة واحدة كبيرة ، ثم يضع الكوب على المنضدة ويتأمله بلا مبالاة .... انه مجرد كوب آخر من الشاي قد فرغ .

انت كاتبي المفضل لدهر قادم ..!!

شكرا ..!!

Quote: فى ذات اللحظة التى تخرج فيها ( ست الشاي ) نفسها الأخير ينتبه المسئول الى كوب الشاي الموضوع على مكتبه الفخم ، لقد تبقت فيه قطرات قليلة ، ولكنها لسبب ما تبدو مغرية الى حد كبير فى تلك اللحظة ، فيتناولها ويجرع ما تبقى منها فى رشفة واحدة كبيرة ، ثم يضع الكوب على المنضدة ويتأمله بلا مبالاة .... انه مجرد كوب آخر من الشاي قد فرغ .

انحني احتراما لقلمك...

عزيزتي عزاز ..
شكرا لانك منحتني بعض الوقت للقراءة .. مع ان ما نقرأه ربما يدعو فعلا الى الحزن احياناً .. لبؤس الواقع .

..

نعيم :
تحياتي وكل احترامي لك ، ولتبنيك للقضايا المهمة اجتماعيا فى المنبر العام ..
ما ذكرته فعلا هو المفارقة المحزنة التى - للأسف - هي شيء واقعي تماما فى زماننا الحاضر ..
..
لك التحايا

الاخ وائل فحل
تحياتي


ورغم انك لم تذكر بان هذا المقال الرائع قد نشر بصحيفة المستقلة يوم 22/5 الا انه وككل كتاباتك الرائعة يمثل رصيدا مضافا للكتابات الجيدة بالبورد واراه انتزع اعجاب الصحافية المتميزة عزاز شامي


ومزيدا من الابداع

Quote: تركض ست الشاي بسرعة ، انها لا تخشى على حياتها بالطبع ، ولكنه تخشى على مصدر رزقها ، على أدواتها ، لأنها تعني حياة ومستقبل اسرة كاملة ، وليس شخصاً واحداً فقط ، وبينما تركض ، يطاردها افراد الكشه بروح متحمسة مدفوعين برغبة قوية فى مصادرة أدواتها وربما اقتيادها هي الى حيث تتم محاكمتها بالغرامة ، بينما لا يملك الحضور الا المشاهدة الممزوجة باللعنات الخفية التى تنهمر بطريقة ( ربنا يجازي الكان السبب ) .. **

Quote: ربما يبدو ظاهرياً ان هذه مجرد مسافة ضئيلة لا اهمية لها ، ولكنها بنظرة أكثر دقة يمكن ان تكون حاجزاً بين عالم ين بينهما من البعد الكثير ..!

سلام لمن يستطيع كتابه

سطر جديد بحبر الغيوم الجديده


رائع يا فحل

المكشوشون في الارض ... (اناس) مثلنا ....

الاخ الاديب وائل الفحل

Quote: ما ذكرته فعلا هو المفارقة المحزنة التى - للأسف - هي شيء واقعي تماما فى زماننا الحاضر .. .. لك التحايا

للاصف يا صديق..
واقعي لدرجة انه (يوقع) الاخرين في شرك الموت المجاني..
الاخرين : هم الباحثين عن لقمة العيش الحلال

كل التحيه والتقدير

شكراً طارق شاطر .. لمرورك الجميل

Quote: صور كثيرة تمر امام ( ست الشاي ) فى لحظاتها الأخيرة تلك ، والغريب انها جميعاً صور تنتمى الى الجانب الخارجي من حائط الــ 30 سنتمتراً ذاك ، تختلط فيها وجوه عائلتها البعيدة هناك مع رائحة القهوة المنبعثة بقوة من الأناء المنكفيء على الأرض ، لا تهتم فى تلك اللحظة بشيء غير الاحساس المؤلم الذي يتسلل الى داخل روحها ، احساس انها تترك خلفها افواهاً بحاجة الى طعام ، اسرة بحاجة الى مستلزمات الحياة اليومية ، فى جزء من العالم تختلف فيه الحياة بصورة مأساوية بين طرفي حائط سمكه 30 سنتمتراً .

الله في الله في الله في...

شكرا لهذا العرضحال...
و لكن ايا تري...هل لهم مقدرة النظر خلق 30 سنتمرا؟؟
لا اعتقد...
فلهولاء عمي بصيرة....

نعيم يا فنان ..
تحياتي لك وللبوست الجميل الذى وضت رابطه اعلاه ..
..

شكرا هواري على التقاطك لذلك المشهد ..
وشكرا لمرورك هنا

الاخ الحبيب وائل الفحل

Quote: تحياتي لك وللبوست الجميل الذى وضت رابطه اعلاه .. ..

الكشه (أذي) في الطريق العام..
لاماطة الاذي عن الطريق..
هذا (اضعف اضعف اضعف) الايمان..



جزيل تقديري واحترامي

UP
لانها تستحق