الخــســوف ... قصة قصيرة .... للكاتب عمر عبد الماجد ..

الخــســوف ... قصة قصيرة .... للكاتب عمر عبد الماجد ..


08-30-2003, 08:29 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=2&msg=1062271752&rn=4


Post: #1
Title: الخــســوف ... قصة قصيرة .... للكاتب عمر عبد الماجد ..
Author: اميري باراكا
Date: 08-30-2003, 08:29 PM
Parent: #0

قصة قصيرة ‏


الخـســوف ‏
عمر عبد الماجد



اختياري للوردية الثانية والتي ينتهي العمل بها في الثامنة مساء لم يكن اعتباطاً .. إذ تتيح لي فترة ‏النهار زمناً كافياً لإنجاز بعض المهام والالتزامات كالمرور على مكتب العمل الخارجي عسى ‏ولعل أن أصادف معاينة ما ... أي معاينة ولا يهم أن تكون في نفس مجال تخصصي أو غيره ‏ولكن معاينة قد تعبر بي إلى الشط الآخر حيث المال والرفاهية .. هذه الفترة أيضاً قد تتيح لي ‏دخلاً إضافيا بالولوج إلى سوق الله أكبر ، والأهم من ذلك ، عندما أخرج في الثامنة مساءً ، نسبيا ‏تكون المواصلات متوفرة قياساً بفترة الظهيرة ..‏

‏ كالعادة خرجت هذا المساء من العمل في الثامنة تماماً - لست متسيباً في مواعيد العمل أو ربما ‏طبيعة عملي تحتم عليّ هذا الالتزام - وتوجهت لميدان أبو جنزير حيث موقف معظم ‏المواصلات الداخلية للعاصمة الخرطوم ،خلافاً للأيام الأخرى وجدته مزدحماً ومكتظاً بالناس ‏وكلهم انتظار لحافلة أو بص أو حتى لوري طوب .. الموقف ساكن ، حتى عملية المطاردة التي ‏اعتاد الناس على ممارستها ، مع القليل من البصات والتي تأتي في فترات متباعدة لم تحدث هذا ‏المساء .. كالعادة المبرر معروف والكل يحكي عن طول الصفوف والمبيت عند محطات الوقود . ‏عند التاسعة أصابني اليأس ومع كثيرين غيري بدأت ممارسة رياضة المشي على أسفلت شارع ‏القصر جنوب .. عندما أدركت مسجد شروني بالخرطوم ثلاثة ومروراً بالديوم الشرقية ، استرعى ‏انتباهي جلوس الناس أمام المنازل المشرعة الأبواب مع وجود حركة غير عادية .. ضوضاء تكاد ‏تغطي أصوات مولدات الكهرباء المتناثرة في كل أنحاء المدينة والتي لا يتوقف هديرها إلا لحظات ‏عمل المحطة المركزية ، وكم هي قليلة ونادرة .. بعض النسوة يجلسن خلف المواقد ، أيديهن ‏والهبابات تتحرك باهتمام كسول ،، تارة نحو اليمين وأخرى نحو اليسار لخلخلة الهواء الساكن في ‏واجهة فتحات المواقد .. لهب الجمرات الفاتر أسفل القدور بتصاعد مدركاً الوسط .. رائحة البليلة ‏تغمر المكان وتسكن ذرات الهواء المغبّر .. الرجال عند النواصي في جماعات متفرقة بعضهم ‏صامت كأنه يترقب حدث ما وآخرون يضجون حركة ، وأصواتهم مزيج من مواويل أدعية .. ‏صراخ وأيضاً شيئاً من الذكر الحكيم . وبين فينة وأخرى ترتفع تكبيرات متشنجة كالتي تُسمع في ‏حلقات الذكر والموالد .‏

تحت عمود النور المنتصب عند ركن المنزل كانت تجلس كجزء من الصورة العامة للشارع ‏المضطرب . يدها كبندول الساعة في رتابة الحركة ، عيناها في سفر لا نهائي خلف شيء ما .. ‏تابعت بنظري مسار عينيها في الفراغ فلم يتعد حدود الدائرة المرسومة بضوء المصباح الكهربي ‏واصطدم بحلكة الليل .. عدت إلى وجهها وقد تناثرت فوقه حبات العرق ، أحسسته منهكاً ومكابراً ‏يجسد انفعالاً ، لا هو للحزن يميل ولا للفرح ينتمي .‏
‏-‏ عيناك زائغتان .. عما تبحثين ؟
‏-‏ ‏(......)‏
‏-‏ أنفاسك متسارعة .... ماذا تسابقين ؟
‏-‏ ‏( أنا ... !! ..... !! ....)

ارتفعت أصوات الجماعة المتمركزة عند الناصية المقابلة بصورة حادة ومفاجئة أجهضت رغبتها ‏في الكلام ونَمتْ منها ارتعاشة تفصح عن فزع عابر أكثر مما توحي بالخوف . أحسست الرعشة ‏في اضطراب يدها الذي أخل برتابة الحركة الأولى مما أدى لتصاعد اللهب وتطاير بعض الشرر ‏‏.. حبات اللوبيا العفنة بدأت في التقافذ مخترقة الرغوة السميكة والتي تكونت بفعل النار الهادئة ‏‏..أمسكت يدها وعيناي تفصحان عن سؤال حائر .. سؤال عن كنه الصورة الكاريكاتورية والتي ‏تظهر في كل شيء ، حركة الناس توحي بأن حدثاً ما يوشك على الوقوع ومظاهر سلوكهم ترسمه ‏وكأنه عرساً أو أي شيء مفرح .. إلا وجهها ، ينسكب منه اعتذار مقهور ينبئ غير ذلك .. تلك ‏النظرة المحايدة ما اعتدت أن أراها إلا وكان للحزن حضور .‏
نظرت في عينيها وأنا أرفع حاجبيَّ لأعلى مفرداً لعيني مساحة للاتساع مع تقطيبة في الجبين ‏ترسم علامة استجداء لمعرفة حقيقة الطقوس المبهمة والتي يمارسها الجميع ، وحالة صمتها ‏وذهولها – ثغرها كان لا يعرف غير الابتسام ونظراتها كانت تبعث الأمل والفأل عندما يحاصر ‏النفس الإحباط .. في عينيها انكسار وبريقهما يكاد أن يزوي ويزول . هذا الوجه الضاحك دوماً ‏هو طوق نجاتي من الغرق في تلافيف الكآبة واليأس أوقات الشدة .اليوم أراه على غير ما كان ‏عليه من قبل .‏

ألسنة اللهب واصلت الارتفاع متجاوزة وسط القِدر والفقاعات طفتْ على سطح الرغوة السميكة .. ‏رائحة البليلة المحترقة تهاجم خيشومي . حاولت إمساك يديها حتى تهدأ حركتها لم أتمكن إذ كانت ‏تشير بها صوت القمر .. والقمر تحاصره هالة غبراء ترسل ضباباً رصاصي اللون يكاد يحجب ‏ضوءه .. كم هي تحب القمر وصفاء ضوئه ، كانت تحزن كثيراً قبل وبعد اكتماله بدراً لأنه ‏سيعود هلالاً .. وفي كل مرة كانت تنتظر ملهوفة دورة اكتماله بدراً .. حزنها مضاعف هذه ‏المرة لأنه اختفى في أوج دورة اكتماله .‏
‏-‏ إنه خسوفٌ عادي ، ما يلبث أن يستعيد القمر ضوءه وبهاءه . ‏
‏-‏ ‏(الأمر مختلف هذه المرة .. خبراء الارصاد يقولون إنه خسوف كلي )‏
‏-‏ وكم من مرة كان كذلك ... و ... ‏
‏-‏ ‏( الظروف مختلفة .. محطة الكهرباء الرئيسية شبه متعطلة ، والبيت خالٍ حتى من ‏الشموع ).‏
صحيح إن ضوء القمر هو الشيء الوحيد المتبقي لنزين به فرح الأمسيات رغم ندرتها بعد أن ‏فقدت القناديل القديمة زيتها وأصابها البلى ، إلا أن ذلك لا يبرر حالة اليأس هذه ..‏
‏-‏ إن الخسوف ظاهرة طبيعية ، ثم إن عملية خنق ضوء القمر لم تكتمل بعد وأن ... و ‏‏...!! ... و ..... ‏

لم تسمعني جيداً مع الضجيج الذي صاحب خروج جيوش الصبية من الأزقة والحواري وهم ‏يقرعون الطبول والصفائح والعلب المعدنية الفارغة في محاولة منهم لإفزاع التنين الذي يواصل ‏غير عابئٍ ابتلاع قرص القمر .. والقمر جمرة تقاوم الانطفاء . ‏

جدة نوفمبر 1987م

Post: #2
Title: Re: الخــســوف ... قصة قصيرة .... للكاتب عمر عبد الماجد ..
Author: اميري باراكا
Date: 08-31-2003, 08:04 AM
Parent: #1

للذين لا يعرفون عمر عبد الماجد ،

من الذين يطلق عليهم - السوداتريون - السودان واريتريا ، ينتمي إلى وطنين وإلى ثقافتين

له عدة أعمال أدبية ، وهذا النص أعلاه نشر بجريدة الخرطوم ، وكذلك بمجلة الفرسان .


وسأعود

Post: #3
Title: Re: الخــســوف ... قصة قصيرة .... للكاتب عمر عبد الماجد ..
Author: عاطف عبدالله
Date: 08-31-2003, 11:24 AM
Parent: #2

شكرا أخ أميري لاتحافنا بهذا النص الجميل
حقيقة القصة جديرة بالقراءة ، لست بناقد ولكن أعتقد أنها تحتوي على العناصر التي يبحث عليها كل قارئ في أي عمل أدبي فهي توفر المتعة وجديد الفكرة وتعمق أكثر الأحساس بالأنسانية
اكرر شكري لك

Post: #4
Title: Re: الخــســوف ... قصة قصيرة .... للكاتب عمر عبد الماجد ..
Author: اميري باراكا
Date: 09-01-2003, 08:38 AM
Parent: #1

UP

Post: #5
Title: Re: الخــســوف ... قصة قصيرة .... للكاتب عمر عبد الماجد ..
Author: ميرفت
Date: 09-01-2003, 10:28 AM

قصة جميلة ، واقعية ممزوجة بشئـ من الفنتازيا ، لكنها فنتازيا شاعرية تمنح السرد قوة الجاذبية والسيطرة على القارئ
هذا انطباعي الاولي وساعود لترميمه لاحقا . فشكرا لك يا اميري على ادخالنا الى اجواء القاص عمر عبد الماجد ، واتمنى ان تمدنا بانتاجه دائما

Post: #6
Title: Re: الخــســوف ... قصة قصيرة .... للكاتب عمر عبد الماجد ..
Author: ahmad almalik
Date: 09-01-2003, 10:43 AM
Parent: #1

شكرا اخ اميري، عرفنا الاستاذ عمر عبد الماجد شاعرا مجيدا والان نقرأ له مثل هذا النص الجميل، نتمني ان تتمكن من نشر بعض اشعاره ايضا ولك الود

Post: #7
Title: Re: الخــســوف ... قصة قصيرة .... للكاتب عمر عبد الماجد ..
Author: اميري باراكا
Date: 09-01-2003, 11:12 AM
Parent: #1

المتألقة دوماً ميرفت

لك التحية ،


العزيز أحمد الملك

سأقوم بنشر العديد من كتاباته ، وأتمنى أن تنال اعجابكم

العديد من الادباء السودانيين يحترفون الانزواء والابتعاد عن الأضواء ومن واجبنا أن نقدمهم إلى جمهورهم العظيم ، المتعطش للإبداع

Post: #8
Title: Re: الخــســوف ... قصة قصيرة .... للكاتب عمر عبد الماجد ..
Author: السمندل
Date: 10-01-2003, 11:46 AM
Parent: #7

اولا ، شكرا لباراكا لاسباب كثيرة ، من بينها تعريفنا بكتابات الصديق عمر عبد الماجد .
وفي تقديري ، أن قصة الخسوف ، مكتملة البناء وموفورة بعناصر القص زمانا ومكانا وحدثا وتعبيرا ومفارقة. وما لفت انتباهي وشدني الى القصة ، لغتها السهلة ( ولكن الممتلئة ) المتحللة من التباس المفردات كما في كتابات بعض القصاصين المعاصرين . وبدا لي أن عمر يمسك، جيدا ، ببوصلة لغته ، هو الذي يقودها ويهديها الاتجاه . ومن هنا تبقى قصته، بالنسبة لي في القراءة الأولى على الأقل ، متينة بما تتوفر عليه من وصف دقيق لحالة كونية تدخل ، ببساطة وامتلاء ، في تقاسيم قصة انثى ينغمر فيها الخفوت ولا تتعب من هز الهبابة أيقادا لجذوة لا يجوز لها الانطفاء
سنسمح للبليلة أن تضيئ أمعاءنا يا عمر ، ونقرع الطبول لقمر السماء لعله ينتصر على جيوش الخسوف الزاحفة ـ منذ أزمان ـ في تفاصيلنا هناك .. والى الامام أيها الصديق الجميل
،،
اميري باراكا ، لك الود دائما
في حوزتي اكثر من قصة ، لأحد السوداتريين ، كما نحتّ أنت المصطلح ، وأعني الصديق الرائع عبد القادر حكيم .. وهو صاحب لغة عالية ، وتصوير مبالغ في الإدهاش . أتمنى أن أجد الوقت ، لأنقلها لكم في البورد ، لأن القصتين مكتوبتان على الورق مما يقتضي أن اصفهما على الكمبيوتر أولا .. وهذا ما يحتاج الى وقت لا يتوفر لدي الآن
لكم ، جميعا ، الود والمحبة

Post: #9
Title: Re: الخــســوف ... قصة قصيرة .... للكاتب عمر عبد الماجد ..
Author: السمندل
Date: 10-01-2003, 11:48 AM
Parent: #8

Quote: هذا انطباعي الاولي وساعود لترميمه لاحقا . فشكرا لك يا اميري على ادخالنا الى اجواء القاص عمر عبد الماجد ، واتمنى ان تمدنا بانتاجه دائما


هذا ما كتبته لك ميرفت يا أميري ، ثم تلاشت في الغياب
اقول / إياك أن تثق في وعود الشعراء