Post: #1
Title: الفيتوري في حوار ل الوطن الثقافي يستدعي تفاصيل الذاكرة ويستقرئ مفردات الزمن
Author: 3omda4
Date: 07-28-2003, 01:36 PM
(الفيتوري) في حوار خاص لـ (الوطن الثقافي)
يستدعي تفاصيل الذاكرة ويستقرئ مفردات الزمن
لم ابدأ بالغزل بل اطلقت صرختي في وجه المستعمرين والغزاة
جدتي التي (اختطفت) كشفت لي آلام الانسان الافريقي
(زهرة) هي التي وضعت البذرة النارية في روحي واشعلتني
اكتشفت لاحقا ان (النميري) لم يسحب مني جنسيتي السودانية
رغم انتقادي للصادق المهدي لكنه كان يقرأني بكثير من الرضا
الحياة الادبية المعاصرة مجموعة من (الشلليات) القائمة على المصالح الشخصية
لكل مبدع معروف جماعته النقدية التي تدافع عنه وتمجد له
وليس عندي ما امنحه كي يكتبون عني
تجربتي الشعرية والحياتية لم تكتمل بعد ومن يكتبون
سيرتهم الذاتية كأنما سيغادرون الحياة
حاوره في الدوحة ـ خالد عبداللطيف: لم اكن ادري ان الصدفة وحدها هي التي ستجمعني ثانية به بعد ان قابلته لاول مرة منذ سنوات بعيدة مضت.. تلك المقابلة الاولى التي تركت لدي انطباعا قويا لا يقل ابدا عن تأثير قصيدته في مخيلتي المكتظة بالقصائد والوجوه والامكنة والازمنة.. هو انطباع اشبه بأقواس قزح من حيث بهجتها وتناقضها في آن واحد.. فهو شخص مبهم كونه رغم ما انصرم طويلا من سنوات عمره مازال شابا في روحه يغامر في فضائه الواسع عبر اشتغاله النشط بقصيدته التي لم تعرف الشيخوخة اليها طريقا.. فمكثت نضرة متوهجة تتشظى بالاسئلة الوجودية الصعبة كما اراد لها.. اما التناقض فليس بسبب رؤيته الفلسفية للحياة والشعر بقدر ما هو تناقض الوان قوس قزح نفسه وبمايشي من تنوع وثراء في التجربة الشعرية وتعدد اصواتها ومناخاتها.. او مثلما الوجه الآخر للقمر حيث تكون السماء ملبدة بغيومها فحينها تستدعي المتاهة فصولها وتتضخم حيرة الشاعر وهو يواجه مآلاته المستعصية متجاوزا الفخاخ التي من حوله متشبثا برؤاه الحالمة وحقه التاريخي المشروع في ان يقول كلمته ضمن سياقه الوجودي المربك غير عابئ بالوصول الى اليقين المطلق فهذا ليس من مهامه.. فقط يكفيه اثارة اسئلة الشعر التي هي اسئلة الحياة.. فقط ينتهي دوره عند حدود القصيدة التي هي حدود كونية تتسع لجميع الموجود والغائب والذي ربما سيأتي.
(قوس قزح) هذا بانفعالاته التي تحملها خارطة وجهه واحزانه التي تحنو بها عيناه وافراحه التي تعيده طفلا مرحا كلما طوقته سنوات العمر.. هو الشاعر الذي رغم شهرته الواسعة ورغم ذيوع اسمه لكن قراءه قد لا يعرفون عنه الكثير بل احيانا يخلطون في اصله ونسبه ان كان سودانيا ام مصريا ام ليبيا وهو الذي ابصرت عيناه مطلع اول شمس في السودان حيث ولد وكان الانتماء.. وبمقدار ما ادهشت قصيدته قارئها بمقدار ما كانت ترسم له في مخيلته صورة ضبابية له.. كأنما اراد التخفي خلف اشعاره دون ان يعلو صوت الراوي ولو لمرة واحدة في حين ان كل مفردة كتبها تشير اليه.. انه الشاعر السوداني محمد الفيتوري الذي منحتني الصدفة فرصة التقائه ثانية في الدوحة شهر مارس المنقضي ابان تدشينها لمهرجانها الثقافي الثاني والذي كان الفيتوري احد ضيوفه الشعراء ممن اضاءوا المهرجان بأمسية شعرية مازال دويها الساحر يملأ الافاق حتى هذه اللحظة من خلال البث المتكرر لقصائد هذه الامسية عبر الفضائيات التي قلما تستضفيه متحدثا بينما تطلق سراح قصائده هو والشعراء الآخرون حين يعز عليها القصيد وتحاول اقناع محبي الشعر انها محتفية بالشعر اكثر من احتفائها بالفيديو كليب.
لقائي به مجددا لم يفاجئني بانطباع مختلف بل عزز من الانطباع الاول.. فمازال الفيتوري كقوس قزح ببهجته وتناقضه.. مازال يثير الاسئلة المفرحة والمحزنة معا وينثر الدهشة من فم القصيدة ولا يخفي ريبته من مشهد ثقافي عربي يفتقد الى المنطق في تقييم الشعراء والاحتفاء بأدوارهم التاريخية في حركة الابداع.. كثيرة هي الهموم التي طرحها الفيتوري التي قد تختلف احيانا عن هموم سائر الشعراء حيث الرجل مازال رغم انتهاء حقبة الالم الافريقي وانقضاء عهود الاستعمار الغاشمة يشكو وطأة الماضي التاريخي والجرح الذي لا يبدو انه سيندمل.. كأنما الفيتوري يعيد سبب تخلف القارة السمراء ومعاناتها الى سياقها التاريخي الذي انقضى ويشير بأصبع الاتهام الى ان المستعمر مازالت اثاره باقية على الارض وصوره جاثمة على الصدور.
ويستمر الحوار معه لاكثر من جلسة ولاكثر من يوم وتتحول احاديث الصباح والمساء بيننا الى هوامش حوارية مطولة يمكن اضافتها للمتن لكن يضيق الحيز الصحفي كعادته عن احتواء كل هذه الحصيلة الكبيرة التي تكونت عبر اسبوع كامل من الالتقاء اليومي بالفيتوري في سياق (المحاورة) او خارجها.. ولربما مستقبلا يمكن توثيق التفاصيل في كتاب لو قدر له ان يرى النور او عبر سيرته الذاتية التي يقول الفيتوري عنها انه لن يغامر بكتابتها الا اذا ضمن خروجها بالشكل الذي يطمح اليه.
ومضات قليلة اذن تجد طريقها الى النشر الآن من حوارية مكثفة ومطولة قد تنشر لاحقا في محاولة لرسم صورة مقربة للشاعر والانسان محمد الفيتوري الذي يعتبره النقاد من اهم الشعراء الكبار الذين مازالوا على قيد الحياة يقبضون على جمرة الشعر ويراهنون على فرس القصيدة.
يبتدئ
* من انت ايها الفيتوري؟!
** انا الذي ولدت في السودان وتربيت وتفتحت عيوني في مدينة الاسكندرية المصرية.. فيها تعلمت وحفظت القرآن.. كأي طفل ينتمي الى اسرة مهاجرة في مصر.. ومع ذلك عندما بدأت كتاباتي الشعرية لم ابدأها كما يبدأها اي شاعر.. بدأتها بالحنين الى افريقيا.. بالبكاء على ما كان في الماضي (العبودية) والصراخ في وجه المستعمرين والغزاة والقتلة الذين يوما ما داسوا على هذه الارض الطيبة.. الارض الافريقية.. واستعبدوا احرارها.. كانت صرخات غير عادية في الشعر العربي.. حيث خرجت عن قوالب الغزل وتحولت من التغني بالحبيبة الى الصراخ في وجه الغزاة:
افريقيا استيقظي
وصرخت انا زنجي
وابي زنجي
وجدي و امي زنجية
كان هذا هو صوتي.. صوت ذلك اليافع.. لان عمري لم يكن قد تجاوز حين ذاك الثانية عشرة تقريبا.. كنت قد حفظت القرآن الكريم وقرأت الكثير من الشعر العربي من مكتبة ابي.. وتلقيت اسس الثقافة العربية القديمة التي كنا نتعلمها في المعهد الديني بالجامع الازهر.. كنت قد قرأت السيرة النبوية.. وبدأت اخرج من قوقعتي واحتك بالآخرين.. كطفل صغير يشعر بعقدة النقص لانه اسود في مجموعة عربية.. انا الذي لم اصرخ وابكي على ذاتي ولم التفت الى الحصار من حولي.. او ابكي على غربتي.. لكنني هتفت وصرخت وبكيت باسم الانسان الافريقي الذي اردت ان ينفض عنه الغبار ويتطلع الى العالم بعيون ملأى بالتحدي والاصرار.
ويبوح
* انت اسير معادلة السواد والبياض اذن؟
** نعم.. السواد والبياض هو اسى مرحلة البدايات.. فعندما كنت طفلا وذلك في الاربعينيات كانت الاسكندرية مدينة البيروسقراطية المصرية.. كنت اتحرك في شوارعها واكاد اكون انا الاسود وحدي الذي يستطيع ان يتحرك وسط قوم هم من اليسر والبهاء والجمال والبياض.
في تلك المرحلة المضببة الآن في ذهني.. صرخ محمد الفيتوري الشاعر بعنفوان الانسان الافريقي وتمرده وسخطه على ما كان ورغبته في ان يشكل هذا الواقع على نحو افضل.. هل كان لتلك المرأة العجوز (جدتي) فضل في هذا الصراخ.. نحن من عائلة ميسورة ابواي مهاجران.. تنحدر في اعصابي وشراييني دماء كثيرة.. قبائل زنجية وقبائل عربية وقبائل شريفة واخرى مختلفة.. ما الذي جعل هذا الشاب ينتبه الى هذه النقطة الحساسة في حياة الانسان المعاصر.. هل هي حكمة جدتي العجوز التي اسرت واختطفت رغم انتمائها الى احدى اهم القبائل الافريقية ما بين الجنوب السوداني وغربه وتحديدا منطقة بحر الغزال في قبيلة (القرعان) هل كانت (زهرة) جدتي هي الصوت الذي انبثق من خلالي ليعبر عن آلام الانسان الافريقي.. كانت ابنة شيخ قبيلة كما حدثتني.. وكان اهلها فرسان كما حدثتني ايضا.. وكانت صغيرة عمرها تسع سنوات.. وخرجت لتأتي بالماء من البئر مع قريناتها.. وفجأة وجدت شخصا اسمته بالجلابي.. قالت لي: جاء احد (الجلابة) ثم خطفني واردفني وراء ظهره ثم اهداني الى جدك.. قلت لها: من هو جدي؟! قالت لي: جدك السيد علي بن سعيد بن يعقوب الشريف.. كان تاجر رقيق.. وكان ذلك هو حديثها.. عندها شعرت وكأني اقف على صراط ما بين الحرية والعبودية.. هذه الجدة مستعبدة.. هذا الجد تاجر رقيق.. وانا طفل صغير لا يعرف معنى العبودية ولا معنى الحرية.. اعتقد ان هذه السيدة هي التي بذرت هذه البذرة التي لا اقول انها سوداء وانما البذرة النارية في روحي.. البذرة التي اشعلتني.
ويسمو
* من الذين شحنوا ذاكرتك؟
** كبرت ووجدت نفسي اتطلع الى نفسي.. وكنت قد قرأت لشاعر انتمى اليه روحيا وعاطفيا هو عنترة بن شداد.. قرأت سيرته.. كان اسود.. كانت امه جارية.. كان جده شداد من شرفاء العرب وفرسانها.. لم يعترف ابوه ببنوته.. لكن فروسيته فرضت على ابيه ان يعترف به.. واصبح عنترة بن شداد رجل تاريخ ونضال.. وقد تأثرت به واتخذته نموذجا في بداية حياتي.. وكنت آنذاك ابحث ايضا عن الشعراء السود.. فقرأت الامام العبد وهو شاعر مصري.. كان اسود.. كما قرأت سحيم عبد بني الحسحاس.. وقراءات اخرى متنوعة لشعراء المعلقات والعصور العباسية والاموية والموشحات وكل هذا التراث العميق والمؤثر في حياتنا كمثقفين.
ويستطرد
* عد الى الذاكرة مجددا؟!
** استمرت كتاباتي.. وفي عام 1955 طبعت ديواني الاول (اغاني افريقيا) وتواصلت كتاباتي ثم توقفت فترة وجيزة لاني بعد تخرجي من كلية دار العلوم عملت بالصحافة المصرية.. كجريدة الاخبار ومجلة آخر ساعة وجريدة الجمهورية وكان فيها رئيس للدار وقتها هو انور السادات.. فكان المدير العام لدار تحرير الجمهورية وكان يتعاطف معي للوننا ربما لان امه ايضا كانت سودانية.. فانتدبني من بين جميع زملائي للذهاب الى السودان وذلك لحضور حفلات استقلال السودان وكان ذلك عام 1956.. وسافرت بالفعل ووجدتني اغوص من جديد في ارض السودان الطيبة التي انتمي اليها وينتمي اليها آبائي واجدادي.. وهناك وجدتني ما بين عمالقة السودان الذين رفعوا على اكتافهم ورؤوسهم العالية سقوف الزمن.. كنت قريبا جدا ما بين الامام عبدالرحمن المهدي والسيد اسماعيل الازهري ومحمد احمد محجوب وعبدالله خليل وحسن محجوب ومبارك زروق وحماد توفيق والكوكبة الاخرى التي صنعت مجد السودان واستقلاله بقيت فترة بينهم ثم طلب مني عبدالله خليل رئيس وزراء السودان الاسبق ان اعود مرة اخرى الى السودان بعد الانتهاء من المهمة التي وفدت لها.. قال لي نحن بحاجة اليك.. فوعدته بذلك.. وسافرت الى القاهرة وبقيت فترة في جريدة الجمهورية ثم قررت العودة الى السودان.. وعينت سكرتير تحرير لجريدة النيل اليومية الناطقة باسم حزب الامة.. وكان رئيس التحرير زين العابدين حسين الشريف.. الى ان قامت ثورة الرئيس ابراهيم عبود مطلع الستينيات وفي ذلك الوقت عاد ايضا من دراسته في الخارج وزارني في مكتبي بجريدة النيل وتوطدت العلاقة بيننا حتى الآن.. وكان وزير الاعلام آنذاك طلعت فريد قد طلب مني ان اكون رئيس تحرير مجلة (هنا ام درمان) وتوليت رئاسة تحريرها لمدة اربع سنوات.. وكان يعمل معنا محمود مدني وعوض وشي ومحمود وصفي ومحمد عبدالرؤوف عربي.. وابوبكر صديق الشريف.. وكان مدير الاستعلامات (الاعلام حاليا) قد اخطرني بعد نشر مقال لي انه خارج السياسة التي يريدها وقام بفصلي من (هنا ام درمان) وبقيت بلا عمل مدة طويلة هائما في شوارع الخرطوم وام درمان فقررت العودة الى مصر وعملت في اذاعة ركن السودان وفي تلك الفترة كنت قد كتبت ديواني الثاني (عاشق من افريقيا) ثم الثالث (اذكريني يا افريقيا) ثم اكملت المسرحية التي بدأتها في السودان وعنوانها (سولارا) وهي مطبوعة.. وتزامن ذلك مع زواجي من الممثلة آسيا ام ابني ايهاب.. والتي تعرفت عليها طالبة ثم بدأت مشوار التمثيل.
ويحلق
* بعيدا عن افريقيا اين ذهبت؟!
** انتهت مرحلة كتاباتي المتخصصة عن افريقيا ووجدتني باحثا عن مصدر نبع جديد كي لا اعود ثانية الى نفس المياه التي ركدت في روحي فبدأت اهتم بالجانب الصوفي والجانب السياسي الثوري خاصة عندما بدأ انهيار حكومة ابراهيم عبود ومجيء الحكومة الوطنية في السودان والصدام الذي حدث بين رئيسها وبين الصادق المهدي رئيس حزب الامة ثم الانقسام الذي حصل في حزب الامة فأنضممت الى جناح الصادق المهدي وعندما اصبح رئيسا للوزراء اختلفنا بعض الشيء حول بعض المواقف وكتبت قصيدتي المشهورة (سقوط دبشليم) وكنت اقصد بدبشليم الصادق المهدي اما (بيديه) فكنت انا.. ذلك ان العلاقة بيننا كانت وثيقة جدا وكنت اؤمن به كمناضل ورجل مستقبل.. ورغم انتقادي للصادق في هذه القصيدة لكنه كان في منتهى الرقي وكان يقرأها بكثير من الرضا.. مثلا كنت اقول له:
اكتب عن عصرك
عصر الغضب الميت
عصر الضحك المقهور
عصرك يا مولاي
حيث تركض الخيول في القماقم
وتسكن الغرباء في العمائم
حيث يهب فجأة من ظلمة العصور
الديناصور
وكنت اعني بالديناصور الصادق المهدي نفسه.. وكنت اقول له ايضا سألتني يادبشليم يا ايها الملك الحكيم عن السقوط ذات مرة فان تكن مازلت مصغيا اليا ها آنذا اقول لك يسقط بعضهم لانه يرى ولا يرى، ويسقط البعض لانه يسير القهقرى وشر انواع السقوط مرضا هو السقوط في الرضا.
ثم اضطررت من جديد ان ابقى فترة في القاهرة وتغربت بعد ان قامت ثورة جعفر النميري وحدثت مذبحة عبدالخالق محجوب والشفيع وهي المرحلة التي كتبت فيها قصيدة (قلبي الى الوطن) والتي اهديتها الى عبدالخالق محجوب ورفاقه، وللتاريخ اقول لم اؤذ من اي حاكم سوداني بالعكس كانوا يقدرون مواقفي واذكر عندما قدمت في محكمة ووقفت امامهم لانهم يريدون ان يقاضوني على هذه القصيدة، فقلت لهم ماذا تريدون؟! قالوا لي انت هاجمت الرئيس، قلت لهم لم اهاجم احدا ولم اذكر في القصيدة رئيسا انما تكلمت عن مرحلة عن الكبار الذين حاكموني في هذا العصر، الحقيقة تركوني وشأني وطلبوا مني فقط عدم ذكر اسم الرئيس نميري، مع البقاء في بيتي اربعين يوما وهنا قررت السفر الى القاهرة ومن ثم بيروت وعملت فيها كاتبا بمجلة (الاسبوع العربي) وكان رئيس تحريرها ياسر هواري وفي هذه الفترة كتبت ديواني (اقوال شاهد اثبات) و(ابتسمي حتى تمر الخيل) و(معزوفة لدرويش متجول) وهي غير الدواوين الاخرى كان يغلب عليها الاتجاه الصوفي.
ويتذكر
* هل حقا اسقطت عنك الجنسية السودانية؟!
** امتدت بي سنوات الغربة والتشتت.. لكن ثمة مسألة مهمة جدا لابد ان اذكرها للتاريخ.. فعندما ابعدت في ذلك الوقت اسقطت عني الجنسية السودانية وانا سوداني بالميلاد وهذا ممنوع قانونا، ولذلك هاجمت جعفر النميري وقلت انه اسقط عني الجنسية، ولكن الذي حدث انني منذ شهر فقط من هذا الحوار كنت في السودان وعلمت من زوجتي (آسيا) المقيمة هناك ان النميري يريد ان يقابلني لينفي لي ما اشيع عن انه هو الذي اسقط عني الجنسية، وانه لم يفعل ذلك.. ولم اذهب اليه لكن اعتبرته بريئا وفي حل من هذه المسألة.. واعود لاقول عندما سمعت عن اسقاط جنسيتي اتجهت الى ليبيا وتعرفت على القائد معمر القذافي الذي قال لي انا اعلم ان لك جذورا في هذا البلد حيث اجدادك ينتمون الى ليبيا.. فلماذا لا تأخذ الجنسية الليبية.. فقلت له انا احمل الجنسية السودانية.. فقال لي انا عربي وهذه الجنسيات جوازات مرور لا قيمة لها.. خذ الجنسية الليبية واحتفظ بجنسيتك السود انية.. وهكذا اصبح لدي الجنسيتان.
ويجترح
* هل ستؤرخ لسيرتك الذاتية ام لم يحن الآوان بعد؟
** يسألونني دائما لماذا لا تكتب سيرتك الذاتية.. واقول لهم اشعر اولا انني مازلت اتعلم وتجربتي الشعرية والحياتية لم تكتمل بعد.. ومن يكتبون سيرتهم الذاتية وكأنما هم سيغادرون الحياة.. ومن السير الذاتية القليلة التي اعجبت بها ماكتبه (بابلونيرودا) فهكذا تكون كتابة السيرة الذاتية بهذا الشكل الشعري او لا تكون.. وهناك ايضا عبدالرحمن بدوي الذي كتب سيرته ضمن واقعه.. وانا اريد ان اكتب مزجا بين الاثنين الشعري والواقعي بعيدا عن اي زيف بل من خلال وقائع حقيقية.. فأنا تعرفت على الرؤساء والسياسيين والقامات الابداعية الكبيرة.. وهذا جعل تجربتي ثرية جدا وتحتاج كتابتها الى جهد ووقت.. واعتقد لو اتيحت لي الفرصة ان اجلس واكتب سأكتب الكثير والمهم ايضا.
ويشكو
* كيف تنظر للمشهد الثقافي العربي الآن؟
** انا لست في موقف الدفاع عن النفس فأنا والآخرون يعرفون ان الحياة الادبية المعاصرة هي مجموعة من (الشلليات) القائمة على المصالح الشخصية، فهناك من النقاد من لا يكتب عنك الا ان كنت صديقه، ولكل مبدع معروف جماعته النقدية التي تدافع عنه وتمجد له.. فمازالوا يختلفون حول اول من بدأ كتابة الشعر الحديث كتابة حقيقية ومن الذين اسهموا ولا اقول وضعوا اساس القصيدة الحديثة حيث لا يمكن لناقد نزيه ان يقول هنا ان نازك الملائكة ولا السياب ولا البياتي ولا بندر الحيدري هم الذين فعلوا ذلك، رغم انهم كتبوا في اواخر الاربعينيات، ففي مصر كتب قبل هؤلاء محمود حسن اسماعيل قصيدة النثر وقبله هناك شاعر يتجاهلونه جميعا اسمه (حسين عفيف) وكتب حوالي سبعة دواوين شعر ما يعرف بقصيدة النثر.. واذا كانت نازك الملائكة هي التي كتب قصيدتها الاولى (الكوليرا) سنة 47 فأنا اقول انني عندما قرأتها آنذاك وقفت منها موقف المعارض وفي نفس العام قرأت قصيدة عنوانها (اصرار) وهي اسم الديوان وكانت القصيدة عبارة عن هجوم على الملك فاروق وكان صاحبها شاعرا هو سكرتير الحزب الشيوعي المصري كمال عبدالحليم وديوانه (اصرار) كان قد هوجم هجوما شديدا من الدولة نفسها وسجن.. هذا الديوان اقول من وجهة نظري انه يتميز بأن بعض قصائده كتبت بالطريقة الكلاسيكية ولكن اغلبها بالطريقة الحديثة (التفعيلية) واتساءل الآن لماذا تجوهل هذا الرجل.. لماذا تجوهل حسين عفيف الذي وضع الاساس الحقيقي للقصيدة المعاصرة وليس قصيدة التفعيلة فقط.. هنا لا يمكن اغفال التأثير الاعلامي وضعفه ورغبته في ارضاء نزوات الناس مهما خالفت الحقائق والمنطق والبكاء على الاشياء التي لا تفيد حركة الوعي الانساني ونحوه.
ويبرهن
* ما الجديد الذي احدثه الفيتوري على القصيدة؟!
** لقد كتبت في بداية الخمسينيات وقصيدتي (احلام افريقيا) في ديواني (اغاني افريقيا) عام 1955 مكتوبة بطريقة التقعيلة التي خرجت فيها عن القواعد الكلاسيكية القديمة لكن ومع ذلك اذا اهملنا هذا الجانب الشكلي فهناك ايضا الجانب الموضوعي، انا الشاعر العربي الوحيد الذي كتب عن افريقيا حتى هذه اللحظة، اربعة دواوين شعرية كاملة عن مأساة الانسان الاسود ونضاله نحو الحرية وتاريخه الذي دمر يوما ما بالعبودية وعن تطلعاته المستقبلية.. انا الشاعر العربي الوحيد الذي كتب عن (نيكروما) و(بن بلا) و(لوممبا) و(مانديلا) ومع ذلك يهمل هؤلاء النقاد هذا الجانب ولا يعيرونه اهتماما وهذا لا يعنيني لانني اعرف ان كلامهم اجوف ولن يبقى في التاريخ ولكن ستبقى الحقيقة في النهاية.. ولاني لست صاحب شلة ولا مال ولا نفوذ اعطيه للآخرين ليكتبوا عني فلست بحاجة لهم على الاطلاق.. ويكفيني انه كتب في شعري ما لا يقل عن عشرين رسالة دكتوراة ما بين المغرب والسودان ومصر وليبيا ولبنان، وكتب عني الكثير من النقاد والاصلاء كالدكتور (منين موسى) و(غريد الشيخ) وترجم شعري الى مختلف اللغات الروسية والالمانية والانكليزية والفرنسية والكردية وفي الصحافة الغربية.. اما الحالة الادبية والشعرية في الوطن العربي فتحكمها العلاقات الشخصية وغياب التقاليد النقدية.. فأنا عاصرت آخر النقاد وعاصرت محمد مندور ومحمد الشوباشي وعباس محمود العقاد وزكي مبارك.. انتهى هذا الجيل واتى جيل ليس له علاقة بالنقد الحقيقي وانما بالصداقات والمنافع الشخصية بين قوسين.
ويتساءل
* ثمة سؤال يشغلك دائما.. ما هو؟!
** اتساءل دائما لماذا بالفعل الحياة الثقافية السودانية تكاد تكون محصورة في نطاقها الضيق فقط فهناك اسماء بارزة سطعت في العالم العربي قديما وحديثا مثل محمد احمد محجوب ود. احمد عبدالحليم اللذين كتبا اول رواية في تاريخ الادب هي رواية دنيا التي كتباها معا.. هناك اسماء اشتهرت في مجال الفن مثل خليل فرح وسرور وسيد خليفة ووردي والكابلي وفي الادب الطيب صالح والفيتوري ومحيى الدين فارس ولكن هذه اسماء محدودة ولكنها تمثل كطاقة ضوئية باهرة تنبعث من هذه المنطقة (السودان) نحو العالم.. تكاد تكون امامها سدود بدليل ان الوجه الحقيقي للفن السوداني العربي الافريقي لم يستطع ان يتسرب الى وجدان ولا فكر الانسان العربي فالاغنية السودانية غريبة عن اذنه، رغم انها تمثل مزيجا فريدا للرؤية الافريقية والاخرى الاسلامية العربية.
وتنتهي حيث يمشي التاريخ اثر خطاها
فاكتب عن النار والثلج شمسها وضحاها
اكتب ولامس رفات العظام من شهداها
انت المغنى الذي رآهمو ورآها
وشاهد العصر، عريان في حريق دماها
(من قصيدته في شتاء قارس)
لملائكة تتعانق خاشعة في مراياي..
ذائبة في شموع الترتيل..
مائدة من بنفسج روحي
ولي افق من طيور اللقاليق
ينصب اعراسه البربرية حولي
اذا دخل الليل في الليل..
يلبسني في الدجى قمرا ميتا
ويغادرني غابة في نفاس الظهيرة
(من قصيدته ليس في الياسمينة غير البكاء)
الارض تعرف ابناءها
كلما ارتجفوا راجعين
ولقد يستطيل عليها الغزاة
ولكنها تتقيؤهم بعد حين
(من قصيدته حريق في رداء الاميرة)
كيف داهم عينيك،
سيف الشتاء المرصع
ثم تكسر فوق المدينة مشتعلا
نصله نجمة في التراب
وقبضته وردة بين عينيك
كيف تعانقتما ابدا
قمر الموت والافق المتصدع بالمجد والكبرياء؟
(من قصيدته حوارية للفرعون واورشليم)
لن تجدوني..
كما تجدون اساطير من مثلوني
نقوشا على حجر
او تصاوير مبهمة في كتاب قديم
انا في المائنات، وفيكم اقيم..
(من قصيدته القيامة)
بقدر ما ركضت في شوارع القهر الرمادية
مجنونا اغنى بك..
لا يسمعني الا المجانين
ولا تعرفني الا عيون الشهداء
بقدر ما انت
اجعلي مجدك في ارض..
اسكني هياكل الطين
واعشاب التوابيت
وابواب بيوت الفقراء
(من قصيدته اوراق طائر الليل)
وتظلين خائفة..
فالضحايا تسير صفوفا الى ساحة الذبح..
يعلم كل الغزاة الذين هم الآن..
مضطجعون هنا
تحت اقدامنا
ويعلم احفادهم
ان آخر ساعاتهم ـ
حين تكمل عصفورة الدم
في هذه الارض دورتها
حول دائرة الجرح
(من قصيدته عصفور الدم)
مطر انت، يا انت، يهطل فوقي
انا المطر المتحجر في صدف الكلمات
انا الشغف المترجرج في الغيم
والصحو والكبرياء البطئ العنيد
ربما انكفأ الواقفون على شرفات المدينة
كي لا يروا سفر النار في ثلج هذا المساء الشتائي
في موج هذا السكون الثقيل العتيد!
(من قصيدته انشودة تحت المطر)
ضع نجمة بين عينيك
واخلع دمامة عصرك
وامض جميلا..
الى حيث تومض جوهرة الكون
واضحك، كما تضحك الآن
اضحك، كما تضحك الآن
اضحك كما تضحك الآن
(من قصيدته قصيدة الضحك)
مثلما جاء في البدء
يدخل شيخ الغيوم المشعة
حجرة ايامه راحلا
وتقومين ناصعة في رمادك
وجهك مرآة سقف السماء
وشمسك الوان يا قوتة
وجبالك آلهة من رخام
(من قصيدته وجه في المرآة
|
Post: #2
Title: Re: الفيتوري في حوار ل الوطن الثقافي يستدعي تفاصيل الذاكرة ويستقرئ مفردات ا
Author: BousH
Date: 07-28-2003, 02:20 PM
Parent: #1
الغالي عمدة 4 شكرا جزيلا يا غالي ويسلم يراعك اعشق حروف هذا الفيتوري حتى الثمالة
|
Post: #3
Title: Re: الفيتوري في حوار ل الوطن الثقافي يستدعي تفاصيل الذاكرة ويستقرئ مفردات ا
Author: 3omda4
Date: 07-29-2003, 01:09 PM
Parent: #1
سلامBousH والله انا كمان بعشق هذا الفنان وتسلم علي الطلة عزيزي
|
|