نقلا عن سودا نايل = الليلة الثانية بعد الألف في بغداد

جمال ابراهيم*




يعصف بك هول الحدث، تأخذ بأنفاسك فداحة الواقعة.. ذلك انك تشاهد بعينيك جبال التاريخ تتهاوى حجرا حجرا..
يتجاوز الرعب المدى الزمني بفراسخ لا حصر لها ولا عد. ينفذ الى سنوات الماضي قسرا واغتصابا.. يطال الارث الديني، يأخذ بتلابيب الثقافة العربية ويبتذل العقيدة.
ما الذي حدث؟
ها هي حواري بغداد تحترق..
ها هي مراقد الشعراء العباسيين وطأتها اقدام الجند ونبشتها المجنزرات
هوت صحائف الشعر والقوافي الى فوهة المدفع دون صدى..
ها هي الازقة في الكرخ.. تلك التي شهدت صولات وجولات..
ومياه الفرات..
ذلك الذي مر عليه التاريخ جزلا ذات مساء عباسي الملامح.
هل هي ذات المياه؟
وقوارب دجلة.. هل هي ذات القوارب..؟
والتمور هي عين التمور..؟
والحدائق الوارفة التي استظلت بها العباسة..
وهارون الرشيد..
(2)
حتى لو غادر الشيوخ والنساء والاطفال بغدادهم..
أنى للعصر العباسي كله..
بسنواته الذهبية والفضية والبرنزية، ان يتسلل من بغداد..؟
حتى لو غادر الشعراء من متردم بغداد،
هل تغادر قصائد احمد بن الحسين، المتبني ايضا..؟
حتى لو احترقت جنان بغداد..
حتى لو هرب كرمها.. وجلنارها..
أتهرب قصائد الحسن بن هانئ.. أيضا..؟
أتطردها هي الاخرى قصائد الرصاص المنهمر من مروحيات هولاكو..؟
أيهرب ابو الفرج الاصفهاني بأغانيه..؟

(3)
ها هي بغداد تفقد لياليها.. بدءا بالليلة الواحدة بعد الالف..
ثم الليلة الالف..
ثم الليلة التاسعة والتسعين وتسعمائة، والتي تليها،
ثم التي تليها.. بعد كل صاروخ يحيل مساء بغداد الى نهار محروق..
وبعد الف صاروخ وصاروخ، لن تكون هناك الف ليلة وليلة..
لن تكون شهرزاد..
لكن..
سيكون لص بغداد وحده..
وحده سيجول في انحاء الكرخ.. مهملا..
وحده الذي يتسلل بين صاروخ وصاروخ..
وحده الذي يتسلل بين كل وردة مقتولة ووردة..
وحده لص بغداد..
الذي جيوبه ملأى بجثث الاطفال القتلى..
وحده لص بغداد..
الذي يجول في احشاء اطفال بغداد..
يسرق احلامهم ويستحم في دم الفرات..
ويسلخ دجلة جسرا جسرا...
وحده لص بغداد.. مرتديا حلة الموت يخبئ سكينه وهو عار.
يبعثر خزانة التاريخ.. وحده..
يعبث مثلما عبث هولاكو قبله بكنوز بغداد..
وبخير بغداد.. وسحر بغداد..

(4)

لكن هولاكو مضى، وبقيت بغداد..
قضى الاباطرة هنا وهناك، وبقيت الساعة التي اهداها الرشيد الى اوروبا.
وبقيت معها بغداد وستبقى..
قضى هولاكو..
وبقيت بغداد..
ستزيد الليالي ليلة...
انها الليلة الثانية بعد الالف.. قادمة.. قادمة.. قادمة..

*دبلوماسي وكاتب سوداني ـ لندن