عليهو العوض ومنو العوض

يطلق أهلنا هذا المثل عند تحقق خسارة كبيرة أو ضياع
أمل بنوه على إبن فشل أو محصول أصابه الجراد أو
الكساد وهم لا يكلون ولكنهم يعيدون الكرة تلو الأخرى في
زراعة المحصول من جديد أما في فشل الأبناء فهي تقال
مرة واحدة.

تأملت هذا المثل في لحظة كنت أستعيد في ذهني
تجربة السودان السياسية ، الشعارات الضخمة والهتافات
والأغاني والتشدق بكلام كبير وأمل عريض بلا سيقان
يقوم عليها، فترى الاضمحلال والهزائم والفشل، ويتكرر
تبدد الأمل بين الديمقراطيات الرثة والديكتاتوريات
ضيقة الأفق فقلت في نفسي
(عليهو العوض ومنو العوض)

عليهو العوض ومنو العوض
والبلد تنتظر الانتخابات الديمقراطية!!!!!! وقد:

أصبحت الديمقراطية المرتجاة هي الفتات المتساقط من موائد
اتفاقيات السلام التي جاءت شائهة بعد حروب طويلة
أورثت البلد احتقانات لا عهد لها بمثلها، وبدأ السودان
يتراجع لمربع القبلية والعنصرية بأكثر مما كان وكل أهل
إقليم يفكرون ينصيبهم الجهوي من ثروة وسلطة ..
وتتسارع وتائر الاحتقان والانكفاء، والأحزاب
والتنظيمات لا زالت (مكانك سر) ببرامج لا تستوعب
تعقيدات الواقع الجديد، والمواطن يئن أمام متطلبات
العلاج والتعليم والماء النظيف.

لا يمكن أن يستمر مثل هذا الواقع المحزن واللغة
المستهلكة (نحن مستهدفون) في ديننا وعقيدتنا وثراء
بلدنا في الوقت الذي يقتلنا فيه الجوع والحروب
الداخلية والهوس والعالم من حولنا يتطور بالعلم
والحساب والشفافية والاستئناس بكل الآراء وليس
بالحجر والإقصاء، وإن لم نخرج من هذه الدائر
فسنقول (عليهو العوض منو العوض) ليس على
محصول أكله الجراد ولكن على وطن أكلته الأنانية
وضيق الأفق واللغة اللزجة الفارغة.
ونواصل

العالم يتغير بسرعة كبيرة، ونحن نجتر ألحاننا القديمة
وأساليبنا التي تكشفت عن انهيارات على كل الصُعد
وتراجعت التطلعات للحد الضروري:
الصحة/ التعليم/ الماء النظيف وبقيت أولويات الحكومة
مختلفة عن أوليات الشعب:
الأمن ثم الأمن وما يترتب عليه من تضييق لأبواب التعبير
بحجة أن بنية المجتمع من زجاج، والفساد أصبح أمراً
طافحاً لا يستطيع حتى المكابر إنكاره، ليصبح السودان
الذي كان - طيباً سمحاً معافى رغم كل شيء - مثالاً في
التفاوت بين الأغنياء والفقراء وما يستتبع ذلك من
عاهات اجتماعية وعليهو العوض ومنو العوض
نواصل

عليهو العوض ومنو العوض
حيث لا يمكن بناء وطن كبير بسياسيات
ملوك الطوائف التي أعترت السودان!
فأورثته الأنانية والإنكفائية بعد أن
نخر عظم ظهره الفساد المنظم.. وهناك
من لا زال يعتقد أنه يمكن أن يصــدق
الناس الشعارات الخواء والوعـــود
الكاذبة وهم يرون ما حاق بالوطن،
وقد صدق حميد عندما قال:

في فلسطين محتله
وفي فلسطينات دار تحتله

إن الانهيارات التي حدثت في مسيرة
السودان بعد الإستقلال قد بعدت
مسافة الطريق نحو خلق الوطن المنسجم
وصعبت مهام كل جهد مخلص يحلم بوطن
على قاعدة من العدل، والقوى المناط
بها التغيير لا زالت بعيد عن القدرة
على تشخيص الواقع الراهن المعقـــد
والمتحرك عوضا أن يكون لديها إرادة
الفعل لتقويم الأشياء، أليس من حق
أهلنا أن يقولوا عليهو العوض ومنو
العوض

لو كان الترك حوض رمله حوض الرمله قط ما بيروى
تاريخ طويل ونضال طويل أتراك وإنجليز ومصريين
ومجاعات وحروب توالي واسماء واقعات كبيرة توشكي
وقدير وأمدرمان المهدي الإمام وصحبه الكرام
وتلال كرري وسهول أم دبيكرات والخليفة
عبدالله وعثمان دقنة وعبدالرحمن النجومي
والجزيرة وعبدالقادر محمد أمام (الحبوب)
ود حبوبه، وحرب النهر واللواء الأبيض وبسالة
المقاومةوعبدالفضيل الماظ وعلي
عبدالفضيل وعبيد حاج الأمين وزمرة الثوار
وآلاف الأحرار الذين ذهبوا في الطريق فداء
للوطن العزيز الذي عاد إنسانه مشوشا بين
وطن يضيع ويتشظى وجهوية مقيتة بدأت تفرض
نفسها كواقع لا يناسب تطور الحياة الراهن
ولكنه الواقع الذي طمر الأماني وعليهو العوض

وكان 1956م
وخرجت المسيرة الضخمة إيذانا ببدء العهد
الوطني الجديد في وقت كان الامل أخضـــراً
بسودان يهنأ فيه الناس بالعدل والحريـة
ولكن تكشف أنه قد ذهب (الانجليز الحمر) وجاء
الانجليز السمر وما أدراك ما الانجليز السمر
وعليهو العوض ومنو العوض

يضيق الساسة الذي لا يقبلون بنصف التحكم
في مصائر الشعوب بمعادلات الديمقراطية
ويلجأون لأقصر الحلول (مطالبة العسكر)
بالتدخل وكان الرئيس الفريق إبراهيم عبود
الذي استلم السلطة نوفمبر 58 ليبدأ الصراخ والمطالبة
بالديمقراطية لست أعوام حسوما، تطورت خلالها اساليب
الرفض الجماهيري للقمع العسكري لينتهي المخاض
العسير بميلاد 21 أكتوبر 1964
تلك الجذوة التي بدأت للأسف في الخمود تدريجياً
عندما انصرف الساسة إلى صراعاتهم السياسية
والسيادية الضيقة القديمة واستخدموا السلطات التي
تحققت لهم على قاعدة الديمقراطية لإضعاف الديمقراطية
وعدم الالتزام بقواعدها.
لقد تطورت الأحداث مداً وجزراً لتبلغ ذروتها
في أكتوبر 1964 لحركة مستقلة للأغلبية
الساحقة في لحظة من لحظات الوعي الجماهيري
الفعّال ، حيث استعدت الجماهير للمصادمة ولم
تعبأ بالبيانات العسكرية المتتالية التي
كانت تصدرها السلطة العسكرية .. ورغم
محاولات الإختزال (من اليمين واليسار).. فقد
أبدعت الجماهير ثورة أكتوبر 1964 .. أي
يمكن القول بأن الجماهير إستطاعت أن تنجز
إنتصار أكتوبر ولكنها افتقدت الحزب المؤهل
لإستثمار تلك الروح الجديدة وقيادة الاحداث
لتحقيق البرامج التي تلبي تطلعات الشارع
الثائر لتكتفي بمجرد إصلاحات تشريعية
حيث أن برامج الاحزاب لم يتم تطويرها على
نار الخبرة الثورية للحركة الجماهيرية
قبيل أكتوبر ولكنها برامج معلبة
لا تراعى تغير الظروف وبالتالي فسرعان ما ضاعت
أكتوبر ليأتي عهد عسكري أكثر شراسة في
مايو 1969 وعليهو العوض ومنو العوض.