قابرييلا : كلازار وأيدز ...

ذات ظهيرة خرطومية بامتياز ووسط ركام أوساخ مستشفي الخرطوم التعليمي فاجأتني تلك الملامح . أثر ذلك وليوميين متتاليين لازمني ذلك

الشعور المزعج والمشابه لرغبتك في حك بعض ظهرك الذي لن تصله بيديك ما اجتهدت .

الصبية بملامحها الاريترية الواضحة وبمسحة الجمال التي قاومت طقس هده البلاد الزهللة , وأخلاق أهل هذه البلاد – أقول الصبية الجميلة

تذكرت أين رأيتها. ثم حين كنت أقوم بأخذ عينة الدم من وريد أمها – قابرييلا – سألتها لزوم فتح مصارف للكلام : ما ح ترجعي تونس تاني ؟


ما لمن أبقي كويسة – قالت أمها بيقين مسامح وعربية سودانية سليمة وحسن ظن بالحياة وفيروس السيدا.

أذن هكذا تنتهي المعركة يا قابرييلا: فوق مرتبة من القطن القديم المهترئ و فوق سرير صدئت أطرافه من فرط ما احتمل من عذابات شعوب

السودان , في عنبر الكرنتينا بمستشفي الخرطوم التعليمي – مصابة بالكلازار وبالأيدز. في السودان . بعيدا عن شوارع أسمرا وعن تسني ,

بعيداً عن الرفاق وأخبار الرفاق في جبهة التحرير الأريترية . لم يسمع بها أحد وهي لم تسمع بأحد , فاتتها الاناشيد التي سوف تؤلف عن

نضال المرأة في حرب التحرير , الاحتفالات التي سوف تقام في استاد العاصمة , أولاد الكشافة وبنات الطلائع , ثم كلمة الرئيس .

أنها الآن في اقصي تمام الرضا . سوف تتحسن حالتها وتخرج للحياة مرة أخري بجانبها ابنتها التي طالما افتقدتها , ثم من الاكيد أنها سوف

تجد طريقة لتدبر أمرها أفضل مما فعلت سابقاً .


بجمال غابر وملامح مستدقة , بأوردة ضامرة وعروق مستنفرة هدها تصريف الزمن كانت قابرييلا تستلقي.


بطول ملوكي فارع وذاكرة خاضت حروب التحرير الأريترية عبر سنوات النضال غير أنها لم تحصد غير حصاد الهشيم – كذلك يحدث للفقراء في كل

الحروب – كانت قابرييلا تلفظ أيامها الأخيرة دون أن تحظي حتي بشرف أطلاق أسمها علي شارع أو مدرسة أو حتي مصنع بيرة . حين أكملت أخد

عينة الدم كتبت علي الحاوية من الخارج : قابرييلا : بهار وقرنفل .

ماتت قابرييلا في متاهتها بينما الجنرال في متاهته الخاصة لم يسمع باسمها حتي , أنه هناك في تمام العافية وفي تمام الشبع , بينما

كانت قابرييلا واحدة من أولئك الناس الذين لا يأبه بهم أحد:


الناس التبني قصور للقيصر

تتقاسم حوش الطين

الناس التصنع سكر

تتجرع مرو سنين -1-

ثمة مفارقة ذات دلالة لا تخفي هنا : الصبية المناضلة التي قاومت وتحدت جيوش منقستو هايلي ميريام هزمها محض فيروس صغير . انتهت هي

الي عنبر الكرنتينا وانتهي منقستو منفياً في حواري هراري , غير أن الناس حين يؤرخون للحروب لا يذكرون اسم غابرييلا . يا لعذابات شعوب

هذا القرن الافريقي المجيد . عذابات تلو عذابات : في اريتريا, في الجيبوتي , في السودان وفي اثيوبيا وفي الصومال الذي كان . أي حظ

سيء حاق بهؤلاء الناس فبدل موسيقاهم من محمد وردي واستير الي لنا الصدر دون العالمين أو القبر وصوت الدانات والمدافع .

كنت أود أن أسألها عن ذكرياتها أيام حرب التحرير , عن حكايات الصبايا النديات اللواتي استبدلن حضن الحبيب بحضن البندقية , عن ليالي

الراجمات وعن كثير غير ذلك , غير أنها بالبساطة كلها ماتت وانتهي الأمر .


بطريقة أو بأخري تختصر قصة حياة غابرييلا القصيرة كل تاريخ القرن الأفريقي المعاصر : ثمة سودانيون ناضلوا ضمن قوات التحالف مرة ثم

ضمن قوات الحركة الشعبية مرة أو تحت راية جيش الفتح او غير ذلك مما اجترحته قريحة السياسيين الذين لم يمت أحدهم يوماًَ في ميدان

المعركة , والذين علي الأكيد لم يسمعوا بغابرييلا, وما هم ؟ أقول انتهي بعض هؤلاء الناس الي سجون حاكم اريتريا وبعضهم ألي سجون حاكم

الخرطوم , بعضهم القليل وجد فرصة لحياة جديدة في بلاد جديدة طالما سبها سراً وعلانية أيام النضال المجيد ثم هاهي الآن تصبح وطناً أولاً

تحت مسميات أعادة التوطين . فات قابرييلا أن تدرك كل ذلك . فاتها حتي أن تغني مع المغنين :


للبنات الجميلات

في مكتب الأمن

واللاجئين

وللصبية الضائعين

بين صوت المغني

وبين الكمين

للبنادق

صارت أرامل قبل الزفاف-2-

كانت قابرييلا واحدة من آلاف الصبيات اللواتي التحقن بالجبهة – جبهة التحرير الأريترية , واحدة من آلاف الصبيات اللواتي خرجن في سبيل

القضية , تركن الحياة خلفهن وأطفالهن الصغار علي أمل العودة أليهم بغد أفضل ,و كان السودان بالنسبة اليهم بمثابة وطن ثان , فيه

تجتمع العائلات ما استطاعت , ومنه يخرجون ألي مدن العالم البعيدة , ثم أنهم يدفنون فيه كما في حال قابرييلا. كنت قد التقيت بابنتها

لماماً باحدي دول المغرب العربي قبل ذلك بنحو الثلاث سنوات حيث كانت تعمل هناك باحدي المهن المنزلية . أصيبت قابرييلا بمرض الايدز

اللعين وترافقت الأصابة مع مرض الكلازار , لم يتسن علي وجه اليقين التأكد من أيهما أصابها قبل الآخر ولم يكن لذلك كبير أهمية علي كل

حال . بعد عدة أشهر توفيت قابرييلا دون أن يكتب تاريخها أحد ودون أن يلاحظ اختفاءها أحد سوي قلة تعد علي أصابع اليدين , ألي ذلك لم

ينتبه أحد أنها تمثل كل تاريخنا المعاصر في هذا القرن الأفريقي المنكوب .






------------------------------------------


1- الابيات لشاعر الشعب محجوب شريف
2- الابيات للشاعر محمد مدني

ترقد قابرييلا الآن بسلام في بلاد السودان بعيداً عن قصر حاكم أسمرا ...

عزيزى الوليد
أعبر لك عن بالغ اسفى يا وليد لعدم تمكنى من اللقاء معك فى الزيارة الاخيرة لـكوالالمبور.والله كنت فى زحمة رحيل حرمنى من اشياء جميلة فى الفترة الماضية. كيف وجدت ديارناالماليزية؟

سلامات يا منصور

انا طبعاً اجتهدت جدا عشان الاقيك في ماليزيا ... لكن ...

الديار الماليزية قصة براها , اتمني القي الوقت عشان اكتبا برواقة , باختصار يا منصور : عالم بلا هوية , قصدي العالم عموما ً.

المهم يا زول : مودتي التي تعلم .

للبنات الجميلات

في مكتب الأمن

واللاجئين

وللصبية الضائعين

بين صوت المغني

وبين الكمين

للبنادق

صارت أرامل قبل الزفاف