كتب أ. د مختار عجوبة في جريدة الخرطوم بتاريخ 24 فبراير 2008م: فوضى العمل الصحفي من فوضى الحياة العامة!!!
أحجمت عن الكتابة ردحاً من الزمان فقد صعبت عليّ الإجابة على تساؤل أساسي هو: لمن نكتب؟ وتوقفي عن الكتابة ومبرراته يجيب عليه القراء بطرح سؤال مضاد وهو: لم توقفت عن الكتابة؟ وهذا السؤال يطرحه عليّ باستمرار قراء الداخل حتى ولو كنت مداوماً على الكتابة نسبة لتعدد المنابر الصحفية التي يصعب على القارئ متابعتها أجمع. ولكن السؤال عن أسباب توقفي عن الكتابة طرحه عليّ وبإلحاح المغتربون في المملكة العربية السعودية ولعلهم لا يطلعون في الوقت المناسب إلا على جريدة الخرطوم خلافاً لبعض الصحف التي تنشر محتوياتها على شبكة المعلومات الدولية. وبوصفي عضواً في لجنة الحريات الصحفية فقد دارت بيننا نقاشات في جلسات مطولة ومتعددة عن مصير العمل الصحفي في السودان ومعضلاته وإيجابياته وسلبياته وما يلحق بالصحفيين من أذى وما يمكن أن يلحقوه بغيرهم من أذى. لا نود أن تكون ساحات فض نزاعاته هي القضاء وحده ولكن في تقديرنا أن اتحاد الصحفيين هو المنوط بفض هذه المنازعات قبل أن تصل إلى ساحات القضاء أو حراسات نيابات أمن الدولة أو الأجهزة الأمنية الأخرى، والعلاقة بين الطرفين ليست على وئام من وجهة نظري ولا أدري لذلك سبباً غير فوضى الحياة العامة واختلاط الحابل بالنابل في كل مظاهر الحياة على الرغم من أن الأجهزة التنفيذية تحاول أن تتدخل لتهدئة الخواطر ومن ذلك أن وزير الدولة للإعلام قد اجتمع برؤساء تحرير الصحف. وكان الدكتور كمال عبيد قد وعدهم بفتح صفحة جديدة بين أجهزة الدولة والصحفيين. كما أنهم في ما يبدو قد وعدوه بالانضباط في العمل ووفقاً لما تتطلبه أخلاقيات مهنة الصحافة ولكن للأسف قبل أن يجف مداد الاتفاق أو أنفاس اللقاء حدث ما يشبه مجزرة الصحفيين فكانوا ضحايا لبعض الإجراءات وبصورة شبه جماعية كأنما مصدرها غضب عارم لجهة يفترض فيها ضبط النفس فهؤلاء –مهما- كان قولهم مجافياً للحقيقة فإنهم لا يحملون سلاحاً على الرغم من أن هناك بين أجهزة من يعتبرون أن الكلمة أخطر من الرصاص وهذا مفهوم خاطئ حكم رؤية ثورة الإنقاذ تجاه الكتاب الذين خالفوها الرأي لا من منطلق المعارضة من أجل المعارضة ولكن من أجل صالح الوطن وخاصة فيما يتعلق بموقف الحكومة السودانية من غزو العراق للكويت في أوائل التسعينيات من القرن الماضي. حيث صنف كل الكتاب في الخارج بأنهم خونة ومارقون على الإجماع الوطني. ومن يحتجون الآن على وصف بعض الصحفيين بأنهم عملاء لسفارات معينة. هؤلاء المحتجون الآن أو على الأقل بعضهم من الصحفيين الموالين، كانوا في تلك المواقف يتهمون كل من خالفهم الرأي بأنهم عملاء للبلدان البترولية وأنهم باعوا أوطانهم رخيصة مقابل بضعة أو حفنة ريالات ودراهم فطاردونا وعوائلنا قولاً وعملاً وحين تبين لهؤلاء خطأهم لم يعتذروا عما بدر من تجن على الآخرين. وحين عادت المياه إلى مجاريها مع بلدان الخليج تسابقوا إليها زرافات ووحدانا ولم تعر بلدان الخليج أذناً لما قالوه في الماضي فالتسامح في لغو الكلام أفضل من الاستجابة لدواعي الغضب والانتقام. ومن هذا المنطلق نفسه منطلق التهدئة فإن لجنة الحريات على الرغم من أنها قد قامت بجهود حثيثة في حدود اختصاصاتها إلا أنها حاولت أيضاً أن لا تعطي لتصريح مدير جهاز الأمن بأن هناك صحفيين يتلقون مرتبات من بعض السفارات ومن وجهة نظري فإنني لم أر أيضاً مبرراً لصدور مثل تلك التصريحات من جهاز يستطيع أن يتخذ الإجراءات القانونية الملائمة ضد مثل هؤلاء الصحفيين إن وجدوا حقاً لحماية أمن الوطن إذا كانوا يشكلون تهديداً عليه. أما أن يتلقى صحفيون مرتبات معينة أو امتيازات أو فوائد معنوية أو عينية من سفارات معينة فهذا أمر معروف ولعل من نجاحات أجهزة الأمن وخاصة في الأنظمة الشمولية أن تتمكن من اختراق المنابر الصحفية المستقلة ومنابر الرأي العام، ففي مرة قال لي المستشار الأمني لسفارة من سفاراتنا في الخليج بأنهم يقومون بإحصاء تحركاتنا صغيرها وكبيرها في ليلها ونهارها فقلت له ولماذا تتعبون وتجندون جنوداً مجندة وتنفقون أموالكم، وإذا أردتم أن أريحكم من كل هذه الأعباء فما عليك إلا أن ترفع سماعة التلفون وسأبلغك بكل تحركاتي فليس فيها سر من الأسرار وما تعتقدونه سراً أمر مشاع بين جميع قوى المعارضة وقد كانت المعارضة توقع ببعضها بعضاً إلى أن تبخرت عنتريات التجمع وذهبت أدراج الرياح لأنهم كانوا يضربون بعضهم بعضاً تحت الحزام. عندما كرمت أجهزة الأمن بعض المبدعين اندهش بقية المبدعين وتساءلوا حول معايير التكريم وعن المحكمين الذين أوصوا بتكريم من كرموا فسارع البعض إلى القول بأن المكرمين هم لابد من أن يكونوا من جهاز الأمن هم أنفسهم. وقد أسبغ عليهم البعض رتباً عسكرية مثلما أسبغوا على لجنة التحريات رتباً عسكرية أمنية وهذا كله مصدره اللبس الذي تثيره بعض الإجراءات أو الاحتفاليات التي تنظمها أجهزة غير معنية بها. فكما قال أحد الأدباء المتهكمين إذا كان جهاز الأمن قد بادر إلى تكريم المبدعين فما على وزير الثقافة إلا أن يقوم بتكريم رجال الأمن. كما اقترح آخر أن يقدم وزير الثقافة استقالته وفي مثل هذه المواقف والأطروحات لم يتخذ جهاز الأمن إجراءات ضد من قالوا ذلك أما خشية من تصعيد الموقف وما يجره من تبعات وأما لكونه أقاويل ستذهب أدراج الرياح ولكن حساسية أجهزة الأمن في بعض الأحيان تستجيب وبعنف لمواقف صحفية قد لا تقتضي العنف بينما تتسامح مع مواقف أخرى. حيث من المفترض أن يكون التسامح ديدنها في كل الأحوال طالما أن أقلام الصحفيين لن تهدم أركان الدولة. وكما يتعرض العمل العام للفوضى فإن العمل الصحفي نفسه أصبح في كثير من الأحيان تحركه المطامع الشخصية والعائلية، فكثير من الصحف قد تبدلت إلى مؤسسات عائلية شأنها شأن بعض المؤسسات الحكومية هدفها أن تدر على نفسها الأرباح والمزيد من الأرباح، والربح قد يتطلب الترويج والإثارة والتهريج والابتزاز والمزايدات خاصة وأن مصادر التمويل نفسها تلجأ للدعايات الفجة وأحياناً تسمح بعض المؤسسات الاستثمارية لنفسها بأن تحتكر أجهزة الإعلام لساعات طويلة متكررة يومياً ولأشهر أو أسابيع لكي تروج لنفسها ولكي تحقق للمؤسسات الإعلامية دخلاً غير متوقع وغير منظور وبما أن الملاحق الثقافية لا تدر ربحاً فقد أسقطتها بعض الصحف من اهتماماتها لخدمة مصالحهم الشخصية والترويج لأنفسهم وبكل أسف قد أصبح السودان مرتعاً مريحاً للصحافة الصفراء في كل صباح ومساء. على الرغم من أن أحد زملائنا في أجهزة الرقابة الصحفية قد ذكر بأن بعض الصحف أصبحت من خلال النهج السابق تحقق أرباحاً يومية تزيد على الخمسين مليوناً من الجنيهات بالقيمة القديمة للدينار إلا أن مثل هذه الصحف لا تزال تطمع في المزيد والطريق إلى المزيد أحياناً اللجوء للابتزازات الفجة حيناً أو خوض بطولات في غير معترك. وكثير من الصحفيين الشباب على كثرتهم وقعوا ضحايا لمثل هذه الإبتزازات الربحية فأجورهم زهيدة ولذلك يلجأون للإثارة ولنشر ما لا يتأكدون منه أو من مصادره وحتى بعض كتاب الأعمدة الرصينة قد تعجلوا في بعض الأحيان الكتابة في موضوعات معينة ولكنهم سرعان ما اعتذروا عما كتبوا لمجرد اتصال الشخص المسؤول الكبير بهم تلفونياً وكأنهم كانوا ينتظرون تلك الوجاهة لؤكدوا وجودهم وحيويتهم ونشاطهم ولا غرابة في أن من لا يجد تقديراً من أهله ومن أجهزته أو تختل لديه المعايير الأخلاقية والمهنية عندما يتبين أن التمسك بهذه المعايير سيوصله دائماً إلى طريق مسدود في معاشه وعلاقاته لا غرابة في أن مثل هذا الشخص يقع في براثن أية جهة يمكن أن توظفه لخدمة أغراضها وليس أدل على ذلك من أن بعض الجهات والمراكز الثقافية الأجنبية العاملة في السودان قد بدأت تستقطب قلة من المبدعين أو حتى أدعياء الإبداع حين لم يجدوا جهة تحضنهم، واحتضان مثل هؤلاء المبدعين الذين لم يبلغوا درجة النضج أمر في غاية السهولة فقد استغربت كثيراً عندما قامت مراكز معينة بترجمة أعمال فجة لأنها فقط طبعت طبعة رخيصة لشباب لم تتجاوز أعمارهم الرابعة والعشرين ولم يتجاوز تعليمهم المرحلة الثانوية بوصفهم أدباء السودان الموعودين فكأن السودان ليس فيه مبدعون تجاوزوا مرحلة الوعد إلى مرحلة اليقين... فأين اليقين الآن؟ هل هو لدينا نحن الصحفيون أم لدى الأجهزة الأمنية؟ لا أحد يدري الحقيقة على الرغم من أنها كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها. فمتى تعود إلينا عفويتنا ونكشف عن أجندتنا الخفية قبل أن نحاول تعرية الآخرين فنعري أنفسنا؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
المكاشفي خضر بشير
ود محجوب
المكاشفي الخضر الطاهر
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست