القصيدة النثرية أسبق تاريخاً من التفعيلة

القصيدة النثرية أسبق تاريخاً من التفعيلة


01-12-2008, 05:16 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=150&msg=1200154616&rn=0


Post: #1
Title: القصيدة النثرية أسبق تاريخاً من التفعيلة
Author: khalid kamtoor
Date: 01-12-2008, 05:16 PM

القصيدة النثرية أسبق تاريخاً من التفعيلة

خالد أحمد بابكر


تاريخياً - وكما هو معروف - فإن قصيدة النثر سابقة لما سمي بالشعر الحر أو (التفعيلة).. والقصيدة النثرية ليست وليدة التسعينيات أو الألفية الثالثة - كما يصوّر بعض كتابها. فقد بدأت في الغرب مع (ولت ويتمان 1819-1891م) و(بودلير 1821-1867م). أما النثرية العربية في مرحلتها الأولى فيؤرخ لها بأمين الريحاني في «هتاف الأودية» الصادر العام 1905م وجبران خليل جبران في «دمعة وابتسامة» الصادر في العام 1910م.

وجاء في ترجمة (ولت ويتمان) أنه فشل في كل ما حاول من أعمال، وعمل محرراً في صحيفة، أقيل منها علناً لكسله، وهو مؤلف رواية «إعتدال» Temperance التي لم يؤبه لها. وقد تدرب على الطباعة وأعد في تلك الفترة مجموعته الشهيرة «أوراق العشب»Leaves of the Grass على حسابه الخاص. والمعروف عن (ويتمان) الشاعر الأمريكي الذائع الصيت، أنه نادى بإيقاع الجملة كبديل لإيقاع الأوزان والقوافي، فهو لم ينفِ الشعر الموزون ولم ينكره.

أما (بودلير) الفرنسي، فهو لم يتخلّ عن الأوزان الفرنسية التقليدية حين أسس النموذج الأول لقصيدة النثر الفرنسية. بل كتب النوعين معاً دون أن ينحاز إلى نوع دون آخر. وكذا (رامبو) الذي لم يهجر نهائياً القصيدة الموزونة، مع توغله في غابات القصيدة النثرية العذراء وعند سفوحها.

حين صدر العدد الأول من مجلة «شعر» في العام 1957م، لم يعمد يوسف الخال - وهو من جماعة مجلة شعر - إلى كتابة افتتاحية يعلن فيها أهداف مشروعه الجديد، لكنه اختار مقالة للشاعر الأمريكي (أرشيبولد ماكليش) وجعلها بمثابة الافتتاحية الأولى. وقد رد الخال على دعاة الالتزام الذين سوف يواجههم لاحقاً. ولم يفصح العدد الأول عن هوية المجلة، لكنه ضم العديد من النصوص لشعراء من مختلف الأجيال كـ (سعدي يوسف ونازك الملائكة وفؤاد رفقة). إلا أن يوسف الخال كان قد دعا في الندوة الشهيرة غداة صدور العدد الأول من المجلة - إلى تأسيس قصيدة طليعية تعبر عن التجربة الحياتية التي يحياها الشاعر في جماع كيانه، وإلى اعتماد الصور الحية بدلاً عن عناصر البلاغة القديمة.. وإلى تجديد التعابير والمفردات وتطوير الإيقاع وصقله على ضوء المضامين الجديدة. ولم يكتفِ الخال بالتنظير للقصيدة الجديدة، بل شرع في كتابتها مستعيراً الصوت الاستشرافي والمعاناة الحضارية، ومستوحياً التجربة الأنجلوسكسونية المتجلية في نتاجات إزرا باوند واليوت، ومرتكزاً على الخلفية الفكرية التي تركتها فيه عقيدة الحزب السوري القومي.

غير أن مجلة «شعر» لم تسلم من الحملات التي قادها المثقفون العروبيون والملتزمون والواقعيون الاشتراكيون، تؤازرهم مجلة «الآداب» حيناً، ومجلة «الثقافة الوطنية» حيناً آخر. وبالغت مجلة «الآداب» في مقالة نشرتها العام 1961م (العدد الثاني) في اتهامها شعراء مجلة «شعر» باعتبارهم الثقافة العربية مرادفة للجهل والصحراء والبداوة. وراح الصراع بين المجلتين يأخذ طابعاً سياسياً وآيديولوجياً بين التيار القومي العروبي والنزعة القومية السورية المرتكزة على فكر أنطون سعادة. ولم يتوانَ يوسف الخال وأدونيس عن المجاهرة بانتمائهم إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي طوال تلك الفترة. لكن الخال ظل يصر على أن مجلة «شعر» لا تنتمي كمجلة إلى أي حزب عقدي أو سياسي، وأنها مجلة شعرية، وشعرية فحسب.

ظهرت قصيدة التفعيلة أول ما ظهرت في الأربعينيات، وكلنا يعلم المغالطة الكبرى التي دخلها المتأدبون حول أسبقية قائلها. فنازك الملائكة تروي أنها نظمت قصيدتها (الكوليرا) يوم 27/10/ 1947م، وتذكر أن الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب أصدر ديوانه «أزهار ذابلة» في بغداد منتصف كانون الأول من ذات العام وكانت فيه قصيدة «هل كان حباً» ذات الشعر المختلف الأوزان والقوافي والتي كُتبت قبل طبعه بما لا يقل عن شهرين.

هناك فارق زمني يبلغ (عشرة أشهر وثمانية وعشرين يوماً) بين تاريخ قصيدة السيّاب وتاريخ قصيدة نازك. وهذا يعني أن السيّاب قد كتب قصيدته قبل صدور ترجمة علي أحمد باكثير لمسرحية شكسبير التي ظلت لسنوات دون نشر حتى تم لها ذلك عام 1947م، وكذلك قبل صدور مجموعة «بلوتولاند وقصائد أخرى» للدكتور لويس عوض. وقد ذكر السيّاب في مجلة «الآداب» عدد مارس 1954م في باب (مناقشات) صفحة (69) حول هذه المسألة بقوله: «ومهما يكن، فإن كوني أنا ونازك أو باكثير أول من كتب الشعر أو آخر من كتبه ليس بالأمر المهم، وإنما الأمر المهم هو أن يكتب الشاعر فيجيد فيما كتبه، ولن يشفع إن لم يُجِد أنه كان أول من كتب على هذا الوزن أو تلك القافية. ولنكن متواضعين ونعترف بأننا مانزال جميعاً في دور التجربة، يحالفنا النجاح حيناً، ويصيبنا الفشل أحياناً كثيرة. ولابد للشاعر الذي قدر له أن يكون شاعر هذا الجيل العربي أن يولد ذات يوم مكبراً جهود الذين سبقوه، أو لعله مازال يمسك القلم بيده حتى الآن».

وعلى كل، فإن الأديب عبد الله الطيب المجذوب له رأي آخر، فقد جاء من حديثه في تقديمه لديوان الشاعر صلاح أحمد إبراهيم قوله: «هذا الشعر الحديث ادّعى اختراعه والسبق إليه جماعة. ادّعت نازك الملائكة السبق إليه واختراعه فيمن سبقوا إليه أو اخترعوه. وهذا عجيب لأنها استشهدت بأبيات الناقوس المنسوبة إلى علي كرم الله وجهه، وهي أبيات عدة. ويكون على هذا سيدنا علي اخترع وزن التفعيلة لا نازك. والحق أن أنواع الوزن واللاوزن كثيرة وسبق إليها كثيرون منذ نشأ شعر العرب. وممن يُنسب إليهم السبق والاختراع بدر شاكر السيّاب، والبياتي، ونزار قباني. والحقيقة ونحن في السودان الأسود ألوان بشرة عربه سبقناهم ـ سبقنا هؤلاء الذين ادّعوا السبق أو ادّعى لهم. وقد ذكرت في بعض ما كتبت أن بابكر أحمد موسى، الأستاذ الأديب البارع رحمه الله، كان يخترع أوزاناً يحاكي بها أحياناً نغمات الطيور وزقزقات العصافير». ثم يمضي متحدثاً عن نفسه: «ثم أقبلت على محاولة النظم المرسل والأوزان المختلفة علي طريقة شوقي في مسرحياته، ثم على أوزان كالمخترعة أو كالحرة. ثم بعد هذه الفتنة الشبابية أعرضت إعراضاً عن التفعيلات السائبة وما بمجراها. وأذكر إذ كتب إليّ المرحوم محمد عبد الحي، وهو يُعد رسالة الدكتوراة بجامعات بريطانيا، يسأل عن أمر هذه المحاولات ليزعم أنها أسبق من محاولات من ادّعوا السبق إلى الشعر الحر من المعاصرين ثم كان قد صح عنده أنه لا فائدة في هذه المغالطات التي لا تخلو من بعض نوع من العصبية، إلا تكن عصبية قبلية فلعلها شبيهة بعصبيات (أتيام) الكرة ونعراتها القومية».
يبقى أن نؤكد على أن كبار شعراء التفعيلة خرجوا على الأوزان الخليلية، ولنأخذ مثالاً على خروج السياّب على قاعدة الخليل الفراهيدى التي تقتضي الالتزام بثلاث تفعيلات في الشطر الواحد إذا كان البحر تاماً، وباثنتين إذا كان مجزوءاً. وننظر في مقدمة قصيدته «هل كان حباً»:

هل تسمين الذي ألقى هياماً
أم جنوناً بالأماني؟ أم غراماً؟
ما يكونُ الحب؟ نوحاً وابتساما؟
أم خفوق الأضلع الحرّي، إذا حان التلاقي
بين عينينا، فأطرقتُ، فراراً باشتياقي
عن سماء ليس تسقيني، إذا ما
جئتها مستسقياً، إلا أواما

يتكون المقطع الأول من سبعة أبيات، الثلاث الأولى منها ذات ثلاث تفعيلات، والبيتان التاليان أربع، أما السادس والسابع فمثل الأبيات الثلاثة الأولى. كما نلاحظ أن قافية الأبيات الثلاثة الأولى منسجمة مع قافية البيتين الأخيرين.. إلا أن المقاطع الأخرى للقصيدة لا تخضع لنفس الترتيب في التفعيلات. كما يبدو أن التطور الذي حدث في هذه القصيدة جاء عفوياً لأنها ابتدأت بنظام معين وزناً وقافية ولكنها تجاوزت ما بدأت به وإن كانت لم تنته إلى استعمال التفعيلة الواحدة في الشطر الواحد ولا إلى تجاوز أي نظام للقافية.